ونفس وما سواها

بقلم
د. سعيد الشبلي
أسرار النّفس البشريّة: قراءة قرآنيّة الحلقة الثالثة : النّفس الأمّارة بالسّوء
 يقول الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ *كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ * وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ﴾(1)
في هذه الآيات الثّلاث من سورة التّحريم تنكشف الحقائق الأساسيّة للنّفس الإنسانيّة في علاقتها بالرّوح وتبرز معاني فجورها وتقواها وما ينشأ عن كلّ مسلك منهما من النّعيم أو الجحيم.
فامرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين صالحين من عباد اللّه، وقد عبّر اللّه تعالى بقوله «عبدين» تأكيدا لتواضع النّبيين الصّالحين، وأنّهما لم يكونا من المتكبّرين؛ ووصفهما بكونهما «صالحين» تأكيدا على أنّهما لم يكونا من الجبارين، فنفى عنهما الكبر القلبي (الكفر)، والإجرام (الفساد السّلوكي). وبالرّغم من كون هذين العبدين الصّالحين على ما بيّن اللّه تعالى من حسن الصّفات، فإنّ امرأتيهما خانتاهما، وكان جزاؤهما بذلك النّار؛ ولم يغن عنهما شيئا أنّهما كانتا امرأتي نبيين.
هذا المثل الذي ضُرب للذين كفروا يكشف اللّه تعالى به عن حقيقة النّفس الكافرة، وأنّ كفرها إنّما هو منها لا من سواها، وأنّها لمّا كفرت فبحرّيتها التّامّة وباختيارها، وأنّ كفرها موقف ذاتي وشخصي لم تتأثر فيه بشيء رغم الادعاءات القوليّة  للكافرين ومن شابههم إن في الدّنيا أو في الآخرة.
فهاتان امرأتان كلّ واحدة منهما امرأة نبيّ مدحه اللّه بكونه عبدا صالحا، غير أنّهما وبخبث رسخ في نفسيهما، واستجابة لغواية الشّيطان الرّجيم خانتا رجليهما. فعلمنا من ذلك أنّ النّفس تملك وبقرار إلهي حاسم صارم، قيّوميةً على نفسها مطلقة، وأنّها رغم كونها معقولة للعقل وموطوءة للرّوح، إلاّ أنّها حرّة حرّيّة مطلقة في قبول مزاوجة الرّوح أو مزاوجة الشّيطان.  
لقد عبّر الله تعالى بقوله «امرأة نوح وامرأة لوط...»، ولم يقل زوجة نوح وزوجة لوط، وفي هذا التّعبير تدقيق باهر، حيث إنّ الزّوجيّة باعتبارها مقارنة حرّة حبّية بين النّفس والرّوح لم تحصل هنا، وجلّ ما حصل ارتباط شكلي اجتماعي «امرأة فلان». فالتّعبير عنها بالمرأة يدلّ على علاقة ظاهريّة محض اجتماعيّة. وهذه العلاقة الاجتماعيّة لم تتجاوز هذه المرتبة لتصبح علاقة زوجيّة قائمة على الاختيار والقبول والحبّ المتبادل، أي على رضا النّفس بالرّوح وتواضعها له كمصدر للخصب والولادة والنّماء.
ولم يكن المانع غياب الرّوح المخصب والعقل النّير الصّالح (العبد الصّالح)، بل لقد كان حاضرا في كلتا الحالتين كأبرز ما يكون الحضور، وهل مثل النّبيّ في إشراق روحه واستنارة ضميره وقوّة عقله! وإنّما كان المانع امتلاء النّفس بزوج آخر هو الشّيطان الرّجيم إنسيّا كان أم جنيّا. ومعلوم عندنا أنّ النّفس لا تقبل زوجين في وقت واحد، بل هي نفس واحدة لزوج واحد. ولها مطلق الحرّيّة في اختيار الزّوج. فلا يجوز في شرعنا زواج المكرهة ولا طلاق المكره، وما دامت هاتان النّفسان قد رضيتا بمزاوجة الشّيطان «فخانتاهما»، فإنّهما على ذمّة من زاوجتاه بالرّضا والعشق و الحبّ، وليستا على ذمّة العبدين الصّالحين. ولذلك لم يكن مآلهما إلى إتمام الزّوجيّة بل إلى قطعها وإلغائها، فهما من أهل النّار.
أمّا العبدان الصّالحان نوح ولوط عليهما السّلام، فهما من أهل الجنّة، ولا صلة مطلقا لأهل الجنّة بأهل النّار. لقد نجا نوح ونجا لوط من عذاب عظيم في الأرض وفي السّماء، وقطع اللّه علاقتهما بامرأتيهما بدءا من لحظة الانفصال بين الكافرين والمؤمنين. قال تعالى لنوح وهو يعده للنّجاة من الطّوفان الغامر ﴿حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ  وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ﴾(2). فاستدراكه تعالى بقوله ﴿وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ﴾ يتعلّق بابنه الآبق وبامرأته الخائنة واللّه أعلم.
أمّا في حالة لوط عليه السّلام، فقد أشار القرآن صراحة في أكثر من آية إلى أنّ امرأته كانت من المعذَبّين، كقوله تعالى: ﴿ قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ * وَلَمَّا أَن جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ﴾(3).
إنّ هذه العلاقة رغم حصول الزّوجيّة فيها من حيث الشّكل، إلاّ أنّها ليست علاقة زوجيّة بل علاقة اجتماعيّة وارتباط شكلي جسدي بحت، أمّا النّفوس فلم تتزاوج. وهنا نفهم معنى قوله تعالى: «وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ﴾(4). فعديد النّفوس في هذه الدّنيا تدّعي التّزاوج مع نفوس أخرى إنسانيّة وهي في الحقيقة متزوّجة لشياطين جنيّة. وعديد الرّجال يدّعون الزّواج بأنفس إنسيّة وهم متزوّجون ومقارنون لأنفس شيطانيّة خبيثة. ولذلك يعتبر يوم القيامة يوم الفضيحة، ويوم هتك الأستار وظهور الأسرار، ومن أخطرها شأنا: ظهور كلّ نفس كما هي بدون لباس ومعها زوجها الحقيقي. فالنّفوس التي قارنها الشّيطان واستعبدها وملأ أقطارها واغتصبها برضا أصحابها وهو أعجب أنواع الاغتصاب، سوف تظهر ومعها قرينها الذي أطغاها وأفسدها.
وكذلك للرّجال الذي كانوا يدّعون الزّواج بأنفس إنسانيّة شريفة، سوف تظهر بواطنهم، فإذا أغلبهم من مقارني الشّياطين...
كلّ ذلك سنراه (بأعيننا) وببصر حديد بعد أن كنّا نراه في بواطننا ولا ننكره، نعوذ باللّه من سوء المنقلب.
الهوامش
(1) سورة التحريم - من الآية 10 إلى الآية 12
(2) سورة هود - الآية 40
(3) سورة العنكبوت- الآيتان 32 و33
(4) سورة التكوير - الآية 7