في الصميم

بقلم
د.عثمان مصباح
القصص القرآني من منظور جديد (9) من الاستخلاف إلى الاختلاف
 التحذير الاستباقي
حذّر اللّه بني آدم الأوّلين من خدعة الشّيطان التي استعملها مع الأبوين فقال: ﴿يَا بَنِي آدَمَ لَا ‌يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ﴾(1) 
وقد بيّن اللّه لهم كيف صنع إبليس إذْ ﴿قَالَ: مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلِكَيْنِ(2) أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ. وَقَاسَمَهُمَا: إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ. فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ﴾(3)
وبعد قرون من العيش في ظلال الفطرة التي فطرهم اللّه عليها، استطاع إبليس أن يوسوس لهم نفس المعنى، لكنّه هذه المرّة جعله ضمن خطّةٍ غايةً في الخبث، استقطب بها النّخبة القائدة، فقبلوا أن يكونوا شركاءَ إبليس في إضلال النّاس مقابل الوعد الشّيطاني بشجرة الخلد وملك لا يبلى.
وشجرة الخلد في هذا السّياق صارت رمزا لتركيز الأموال في أيد قليلة: ﴿وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ، الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدهُ، يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدهُ﴾(4)﴿فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرهُ: أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا! وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ، قَالَ: مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذهِ أَبَدًا﴾(5)
هكذا انكسرت الوحدة الفِطريّة، وانقسمت الأمّة الأولى أفقيّا وعموديّا، فالقسمة الأفقيّة أعطت شِيَعا مختلفةً، كلُّ حزب بما لديهم فرحون، أمّا العموديّة فجعلت من الأحزاب زرائب بشريّة، الأغلبيّة فيها مستضعفة، وعلى رأسها نُخبٌ مستبدّة مُترفة. 
لكن كيف رضخت الجماهير، وهي كثرة كاثرة، لقلّة طاغية فاجرة؟
جواب نوح عليه السّلام
نوح هو أوّل نبيّ بُعث ليحكم بين النّاس فيما اختلفوا فيه، وقومه هم أوّل المختلفين بعد مرحلة الفطرة، ولكونهم غير مسبوقين في ذلك، فقد أمهلهم اللّه أطول مدّة في تاريخ النّبوّات: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ، فَلَبِثَ ‌فِيهِمْ ‌أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا﴾(6)
 وكانت المسألة المركزيّة في دعوة نوح هي إخلاص العبادة للّه، قال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ: يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ‌مَا ‌لَكُمْ ‌مِنْ ‌إِلَهٍ غَيْرهُ، إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾(7)
والعبادةُ كما ذكرنا سابقا محبّةٌ لا تليق إلاّ بالإله، تبلغ من القوّة أنّها تستبع ما سواها من المَحَابّ، فإنْ عارضتها مَحَقتْها، لأنّها محبّة مركزيّة تشكّل من النّاحية الاجتماعيّة أساس الولاء القومي الذي يشُدّ مُلك الأمّة، وهذا الولاء هو الذي يقصده ابن خلدون بالعصبيّة. 
وقوم نوح وإن كانوا لا ينكرون ربّ العالمين إلاّ أنّ كبراءَهم المتنافسين اصطنعوا ولاءاتٍ حصريّةً متصارعة تخدم مصالحهم الشّخصيّة، واتخذوا لها رموزا حزبيّة مقدّسة، أسّسوها على أساطير تُسهّل إخضاع الأتباع، وتستثيرُ حَمِيَّتهم في النّزاعات البينيّة، وفي هذه الولاءات المصطنعة يقول تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ‌أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا، وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾(8)
وهكذا ظهرت الوثنيّة، واتُّخذت الأصنام شركاء للّه، وزَعم أصحابُها أنّها شُفعاء: ﴿أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ، وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ ‌أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى، إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ﴾(9)
شهادة الوقائع
حين بلّغ نوحٌ رسالتَه التّنويريّة انقسم النّاس بإزائها إلى ثلاثة أقسام:
* قسمٌ من المستضعفين، آمنوا، ﴿وَمَا آمَنَ مَعَهُ ‌إِلَّا ‌قَلِيلٌ﴾ (10)
* وقِسم جادلوه، وشنّوا عليه حملة دعائيّة فاجرة، وهؤلاء هم السّادة أصحاب الامتيازات. 
فها هم يطعنون على نوح، ويعيرونه بأتباعه: ﴿قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ: مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا، وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ، وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ، بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ﴾(11)
وهاهم يحرّضون الجماهير ضده: ﴿قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ: مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ ‌أَنْ ‌يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً، مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ﴾(12)
* وقِسم ثالثٌ هم المستضعفون الذين أطاعوا سادتهم، ورفضوا دعوة نوح رفضا تَبَعِيّا، وهؤلاء لا نسمع لهم في القصّة قولا، وكأنّهم في مَسرح مِيمِيٍّ يُخيّم عليه الذّعْر: ﴿قَالَ: رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي ‌لَيْلًا ‌وَنَهَارًا، فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا، وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ، وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ، وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا﴾(13)
ثمّ فسّر نوح عليه السّلام سرّ هذا المشهد الميميَّ العجيب: ﴿قَالَ نُوحٌ: رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدهُ مَالُهُ وَوَلَدهُ إِلَّا خَسَارًا، وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا، وَقَالُوا: لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ، وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا! وَلَا سُوَاعًا! وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا! وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا﴾(14)
بهذا البيان انكشف أنّ موقف الجماهير لم يكن إلاّ انسحاقا جمّا، وانسياقا أعمى، بفعل مكر الكُبراء، الذين جعلوا الآلهة الحزبيّة ذات وجهين، وجه بِهالة قُدسيّة يستولي على قلوب الأتباع، ووجه خفيّ يستثمر حبّ المستضعفين لآلهتهم، فيُهدر باسمها حقّهم في الشّراكة، ويَنهب باسمها أموالهم، ويدعوهم باسمها للتّضحية دفاعا عن مصالح ساحقيهم.
وهذا النّص القرآني الخطير يبيّن في آية واحدة عدد الأحزاب ومرتبتَها في البأس، فالمستقلّون بالقوّة هم آل وُد، وآل سُواع، والباقون شكّلوا حلفا يحقّق توازن الرّعب في مواجهة المستقلّين، وهم آل يغوث، وآل يعوق، وآل نسر، لهذا جَمعَتهم الآية تحت (لاءٍ) واحدة.
الطّوفان العظيم
لا ألف سنة، ولا ألف قرن من الحُجّة والإنذار كانت كافية لثني قوم نوح عن غوايتهم، ولو استمرّوا لكانوا خطرا محقّقا على مستقبل البشريّة، والقلّة المؤمنة حتّى لو تُركت وشأنَها ستبقى على هامش هذا المجتمع العنيد إلى أن تنقرض، فكيف وهم عُرضة للبطش.﴿وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا ‌مَنْ ‌قَدْ ‌آمَنَ، فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾(15)، ﴿فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ﴾(16)
 وفي تفصيل دعائه عليه السّلام إشارةٌ فُهِم منها أنّه كان قاسيا على قومه، وذلك في قوله: ﴿رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ ‌دَيَّارًا﴾(17)، وهو فَهْمٌ قاصرٌ لغفلته عن الاصطلاح القرآني الخاصّ، إذ الكفر لغةً هو الإخفاء(18)، فالكافر الحقيقي هو من مارس لعبة الإخفاء من أجل إضلال النّاس، كما فَسّره قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا ‌وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ، جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ، وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ، قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ﴾(19)
الكافر إذن هو من يريد أن يتمتع بمُلك استثنائي، يتوصّل إليه عن طريق تبديل نعمة الاستخلاف والتّمكين، وادعائها خالصةً لنفسه دون الجماعة، ويحتال لذلك باصطناع الأنداد لإضلال السّواد الأعظم، فإن سَلّموا له فهو في الكُفر أصيل، وهم في الكُفر تَبَعٌ له، ﴿وَإِذْ ‌يَتَحَاجُّونَ ‌فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا: إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا، فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ؟﴾(20)
ولو دققنا النّظر في دعاء نوح لاكتشفنا أنّه إنّما كان يدعو على أئمّة الكفر، وهم سادة القوم، واقرأ: ﴿إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ، وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا﴾(21)، فبقاؤهم إذن فيه مفسدتان:
الأولى: أنّهم يُضلّون عباد اللّه، وهم المستضعفون الذين ينخدعون بهم، وهم الأكثريّة التي صدق عليها وعد إبليس إذ ﴿قَالَ: لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ ‌عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾(22) والمفسدة الثّانية: أنّهم يوَرّثون كفرَهم وفجورَهم لأولادهم من بعدهم، فيولد السّادة من سادة، ويولد المستضعفون من مستضعفين.
وممّا يؤكّد ما قرّرناه أنّ الطّوفان حين حمل السّفينة، وقبل أن يغمُر القومَ جميعا، كان بإمكان مَن شاء أن يركب فينجو من الغرق، لكنّهم أبَوْا، وحَسبُك مِن عِنادهم هذا المشهد: ﴿وَنَادَى ‌نُوحٌ ‌ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ: يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا، وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ(23)، قَالَ: سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ. قَالَ: لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ. وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ﴾(24) 
لقد كان الطّوفان انتصارا للمؤمنين المغلوبين، وتجديدا لدورة من الحياة تستعيد فيها البشريّة مشروع الخلافة: ﴿فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ، وَجَعَلْنَاهُمْ ‌خَلَائِفَ، وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا، فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ﴾ (25) 
بين الاستخلاف والاختلاف
الاستخلاف لا يعني حكومة عالميّة واحدة، ولا تماثلا بين المستخلَفين، ولا استبعادا لوقوع التّنازع، لكنّه نظام قِيمي تحكيمي يُثبّت السّلم القومي، ويُحصّن السّلام الأممي، يُقرّ للإنسان من حيث هو إنسان بحقوقٍ مُلوكيّة مقدّسة يحرُم هضمها، ويحميه من العدوان الفكري والاجتماعي والنّفسي، ويجعله في أكرم علاقة بالخلق، وأشرف صلة بالخالق، لا وساطة بينه وبين اللّه، فاللّه وحده هو صاحب الحقّ في بيان الدّين، وما الدّين إلاّ عهد الاستخلاف.
أمّا الاختلاف فأصله انقلاب دموي على الاستخلاف، ومُصادرةٌ لحق النّاس في المُلك التّشاركي نيابةً عن المَلِك الحقّ سبحانه، وأخطر ما في الاختلاف هو اصطناع هويّات وثنيّة تدّعي امتيازاتٍ قوميّةً وطبقيّةً حصريّة، تفتح الباب على مصراعيه لحرب الكلّ ضدّ الكلّ، ولتفتيت وحدة البشريّة تفتيتا لا نهاية له.
الاختلاف الذي ذمّه القرآن هو الذي يتنافى مع الاستخلاف، ويحتمي بدين قومي مغلق، سدّا لباب الاحتكام إلى مرجعيّة إنسانيّة مشتركة، لا فضل فيها لقوم على قوم إلاّ بالاستقامة.
وإلاّ فإنّ اللّه قد ذكر من آياته اختلاف ألسنة النّاس وألوانهم، ونوّع أرزاقَهم وآفاقَهم، وجعلهم شعوبا وقبائل تستقلّ بتجاربها التّاريخيّة، من أجل أن يتعاونوا على البرّ والتّقوى، لا على الإثم والعدوان.
يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى، وَجَعَلْنَاكُمْ ‌شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾(26)
خاتمة
إذا كان قابيل هو أوّل من سنّ القتل باسم الإله داخل الجماعة الواحدة، فإنّ قوم نوح هم الذين اخترعوا أديانا شِركيّة تسحق المستضعفين، وتجعلهم قُطعانا بهويّاتٍ حزبيّة تُقطّع الرّحِم الإنسانيّة، وتُبرّر الظّلم والعدوان، فكان سَهْمُهم من الإفساد في الأرض أعظمَ سهم، لذلك قال سبحانه: ﴿وَأَنَّهُ أَهْلَكَ ‌عَادًا ‌الْأُولَى، وَثَمُودًا فَمَا أَبْقَى، وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ، إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى﴾(27) 
فلا عجب أن يكون نصيبهم من العذاب الأخروي فوق نصيب كلّ الأمم المتجبّرة: ﴿قَالَ: ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ! كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا، حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ: رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ! قَالَ: لِكُلٍّ ضِعْفٌ، وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ﴾(28)
فأُولى تلك الأمم هم قوم نوح، ممّا يعني أنّ ميراثهم الشّقيّ سيبقى أثره إلى آخر الزّمان. 
ومن أعجب العجب أنّ قدامى المؤرّخين حكوا أنّ الأصنام التي ذُكرت في قصّة قوم نوح قد عُبدتْ إلى زمن البعثة المحمديّة(29)، أمّا المعاصرون فقد أكّدوا شهادة الآثار بخصوص (ود) و(يغوث)(30)، ويزيد هذا التّأكيد تأكيدا أنّ عرب الجاهليّة سَمَّوْا: (عبد وُدٍّ)، و(عبد يَغوثَ). 
ووُجد في آثار الثّموديّين ذكر صنمٍ اسمه (شوع)(31)، ولعلّه هو نفسه (سواع).
«وورد اسم الإله: (يعوق) ... في نصّ متأخّر، يعود عهده إلى ما بعد الميلاد»(32).
وأمّا (نسر) فقد ثبت أثريّا تقديسُه في بلاد النّيل باسم (حورس)(33)، وكذا في معظم جزيرة العرب، وخاصّة عند السّبئيين(34)، ثم اتخذتْه مملكةُ حِمْيَرَ اليمنيّةُ شعارا لها(35).
هذا ما يتعلّق بالأثر الصّريح لقوم نوح، وأمّا الأثر الضّمني في الأمم اللاّحقة فسوف نكتشفه في بقية هذه السّلسلة إن شاء اللّه.
الهوامش
(1) سورة الأعراف - الآية 27
(2) جمهور القُرّاء على أنّ (ملَكيْن) بفتح اللام، فيكون المعنى: «من الملائكة»، وهذه القراءة تتعارض مع الاصطفاء الإلهي الذي فضل الله به آدم على الملائكة حتى أمرهم بالسجود له، وقرأ ‌عبدُ الله بن ‌عباس والضحاك والزُّهري ويحيى بن أبي ‌كثير: (‌مَلِكَيْنِ)، بكسر اللام من المُلْكِ، ويشهد لصحة قراءتهم قوله تعالى في نفس القصة: ﴿هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى﴾ [طه: 120]، وكلام الله منزه عن الاختلاف.
(3) سورة الأعراف - من الآية 20 إلى الآية 22
(4) سورة الهمزة - من الآية 1 إلى الآية 3
(5) سورة الكهف - الآيتاتن 34 و35
(6) سورة العنكبوت - الآية 14
(7) سورة الأعراف - الآية 59
(8) سورة العنكبوت - الآية 41
(9) سورة الزمر - الآية 3
(10) سورة هود - الآية 40
(11) سورة هود - الآية 27 
(12) سورة المؤمنون - الآية 24 
(13) سورة نوح - من الآية 5 إلى الآية 7
(14) سورة نوح - من الآية 21 إلى الآية 24
(15) سورة هود - الآية 36 
(16) سورة القمر - الآية 10 
(17) سورة نوح - الآية 26 
(18) قال ابن فارس: «‌الْكَافُ ‌وَالْفَاءُ ‌وَالرَّاءُ أَصْلٌ صَحِيحٌ يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُوَ السَّتْرُ وَالتَّغْطِيَةُ» [مقاييس اللغة: 5/ 191]
(19) سورة إبراهيم - من الآية 28 إلى الآية 30
(20) سورة غافر - الآية 47 
(21) سورة نوح - الآية 27 
(22) سورة النساء - الآية 118 
(23) لاحظ كيف قال: (مع الكافرين)، ولم يقل: (من الكافرين)، لأن ابنه كان من الأتباع المضَلّلين.
(24) سورة هود - الآيتان 42 و43 
(25) سورة يونس - الآية 73 
(26) سورة الحجرات - الآية 13 
(27) سورة النجم - من الآية 50 إلى الآية 52
(28) سورة الأعراف - الآية 38 
(29) ذكر ذلك كل المؤرخين المسلمين الذين بدأوا بقصص الأنبياء، وانظر على الخصوص كتاب الأصنام لابن الكلبي: 54-58، تحقيق: أحمد زكي باشا، دار الكتب المصرية – القاهرة، الطبعة الرابعة، 2000 م
(30) انظر المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام: 1/331، الدكتور جواد علي، دار الساقي، الطبعة الرابعة، 2001 م
(31) نفسه
(32) المفصل: 11/ 308
(32) يُصوَّر على هيئة صقر، و(حورس) هو النطق اليوناني لكلمة مصرية قديمة مكونة من جذرين (ح ر)، وقد ردها الدكتور أحمد فخري إلى أصل عربي، واستشهد بما ورد في المعاجم، ومال إلى أن أصل هذا المعبود من اليمن [انظر: دراسات في تاريخ الشرق القديم: 135-136، ط 2، مكتبة الأنجلو المصرية] وقال ابن منظور في فصل الحاء المهملة من لسان العرب أن لفظ (الحُرّ) يطلق على الصقر.
(33) المفصل: 11/307
(34) المفصل: 11/263-264