متابعات

بقلم
فيصل العش
منتدى الفارابي للدراسات والبدائل يفتتح مشروعه الدراسي في المسألة التربوية

 نظم منتدى الفارابي جلسة علمية يوم الاحد 3 جوان 2012  بالمعهــــد العالــــــي للدراســــات التكنولوجيـــــة بصفاقـــس تحت شعـــار : ”التربية والتعليم بتونس: المؤسسات والسياسات“ افتتح بها مشروعه الدراسي في المسألة التربوية وتضمنت مداخلتين الاولى للأستاذ الدكتور علي الزّيدي تحت عنوان " ”التعليم التونسي من الاستعمار ألى الاستقلال: أية مكاسب ؟“ والثانية للأستاذ الدكتور محمود الذوادي تحت عنوان  ”الصورة النفسية والاجتماعية للغة العربية في التعليم والمجتمع وتعثّر التعريب“ . وقد ترأس وقدّم للمحاضرتين أستاذ علم النفس الاجتماعي بكلية الآداب والعلوم الانسانية بصفاقس الدكتور رضا عبد المولاه.

خلال المحاضرة الأولى قام الدكتور علي الزيدي بتقديم قراءة تاريخية لمسألة التعليم التونسي منذ عهد الحماية وانطلق بوصف الحالة التي أصبح عليها التعليم في الوقت الحاضر واعتبره يعاني أزمة حادة ومزمنة تجلّت في المستوى المتدني للمتخرجين وغياب بعدي الهوية واللغة لدى جل التونسيين وتساءل عن الجذور التاريخية لأزمة التعليم في تونس ليستنتج أن  وزارة التربية الحالية هي وريثة إدارة التعليم العمومي التي تاسست سنة 1883 وتولاها لويس ماشيوال وهو مستعرب فرنسي من مواليد الجزائر تمّ تعيينه لإصلاح التعليم وتنظيمه بما فيه التعليم لزيتوني في اطار اتفاقية المرسى التي عقدت مع ”علي باي“ التي أتت، حسب الدكتور علي الزيدي،  على ما تبقى من سيادة داخلية للبلاد التونسية .
وجد ماشيوال تعليما متنوعا يتكـــون من مدارس تبشيريـــة مسيحية و مدارس الرابطة اليهودية  يرتادها ابناء الاقليات وبعض العرب والمسلمين بالاضافة إلى التعليم التونسي المتكون من جامع الزيتونة وفروعه الخمسة  والمدرسة الصادقية التي هي سليلة التعليم الزيتوني و الكتاتيب المنتشرة في أرجاء البلاد فأسس المدرسة الفرنكوعربية لتكون أساسا لنظام تعليميّ يجمع بين مكونات المجتمع بمختلف مستوياتهم ودياناتهم ويهدف تسهيل قبول التونسيون للفكر الفرنسي . كما قام بفرنسة التعليم الصادقي بالكامل بعد أن كان يدرس العديد من اللغات كالتركية والفرنسية والايطالية وبالتالي حوّل الهدف التكويني للصادقية من تخريج اطارات عصرية للإدارة التونسية إلى تخريج مترجمين ليكونوا واسطة بين سلطة الحماية والأهالي. وقد حاول ادخال تعديلات على التعليم الزيتوني فاسس لجنة للغرض قصد تحديث التعليم الزيتوني ليجعل منه جامعة حديثة في محاولة لركوب موجة حركة الاصلاح والنهضة التونسية وقطع الطريق أمامها . وتميزت فترة الحماية خاصة بعد الحرب العالمية الثانية بنضالات التلاميذ والمدرسين من أجل المحافظة على هوية التعليم التونسي وحققوا مكاسب نذكر منها انشاء شبكة متوازية للتعليم القرآني والعلوم الشرعية و العربية  وتحقيق المناصفة في التوقيت بين اللغتين العربية والفرنسية  واحداث الشعبة الزيتونية التونسية في التعليم الصادقي وبدأ تدريس بعض العلوم باللغة العربية في بعض المدارس  و الشعبة العصرية الزيتونية ممّا حافظ على تنوع التعليم .
 ثم تطرق الدكتور علي الزيدي إلى  التعليم بعد الاستقلال الداخلي حيث طرحت منذ سنة 1955 مسألة التعليم التونسي واثيرت مسالة التعريب وحصلت نقاشات واسعة شارك فيها الزيتونيون والصادقيون وتوجها بورقيبة في خطابه سنة 1958 بأعلان تشكيل لجنة في وزارة المعارف لإعادة الروح الوطنية للتعليم  حيث وضعت مخططا تربويا عشريا من 58 إلى 1968 يقوم على  توحيد التعليم الذي كان مشتتا في عهد الحماية بما في ذلك  الشعبة العصرية الزيتونية وتحقيق التعريب التام للتعليم عبر مراحل .. غير أن ما حدث ، حسب الدكتور الزيدي، لم يعكس ما صرح به بورقيبة بل العكس تماما حيث قرر الحزب الاشتراكي الدستوري بعد سنة 1968 شن هجوما كبيرا على التعريب و التعليم الزيتوني واعتبر أن بورقيبة عمد إلى مغالطة وخداع التونسيين خاصة الزيتونيين وأنه نفذ مخططا ومشروعا سريّا كان أعدّه آخر مدير تعليم فرنسي بتونس "جون دوبياس " يقوم على تدريس العلوم والتقنية بالفرنسية والتشكيك في جدوى التعليم الزيتوني وتحويل جامع الزيتونة إلى كليّة من كليات الجامعة التونسية التي كانت وليدة الجامعة الفرنسية بباريس . وقد كلف بورقيبة محمود المسعدي بتنفيذ المشروع بعد أن رفض الشابي ذلك وقدّم استقالته .ويرى الدكتور الزيدي أن مشروع د بياس هو أول وآخر دراسة لواقع التعليم التونسي وأن ما حصل بعد ذلك لم يكن سوى عمليات ترقيع متتالية مدعومة من البنك الدولي والمؤسسات الخارجية ولم تكن اصلاحات حقيقية ليستنتج في الأخير أن النظام البورقيبي  لم يستفد من التراكم الذي حدث خلال فترة الحماية واهملت المكاسب التي حققها التونسيون في مجال التعليم خاصة بعد الحرب العالمية الثانية.  فحوّل النظام التعليم المتنوع الذي ورثه من الاستعمار إلى نظام فرنكفوني بامتياز بداية من 1968 وحقق ما عجزت فرنسا عن تحقيقه من خلال مشاريعها المتعددة. ومنذ ذلك الحين أصبح التعليم التونسي  غير متزن و"يقف على ساق واحدة" كما قال الدكتور الزيدي  حيث أنه يتوجه إلى العقل فقط وأهمل الروح فأنتج متعلمين ومثقفين  يعاني أعظمهم  من تمزق وانفصام في الشخصية وهذا ما أدّى إلى ظهور السلفية بشقيها اليميني واليساري 
وفي خاتمة محاضرته تساءل الدكتور الزيدي عن السبيل للخروج من هذا الوضع وما المطلوب من ثورة 14 جانفي في ميدان اصلاح التعليم ليقترح مراجعة شاملة وعميقة للنظام التربوي وشحنه بشحنة زيتونية ( التعريب وتعليم العلوم الشرعية) لكي يكون تعليما متوازنا يعتني بعقل المواطن وروحه ويرى ان مبادرة احياء التعليم الزيتوني هي بمثابة اعادة اعتبار لهذه المنارة العلمية الشامخة ولكنه يرى أن "من صالح الزيتونيين عدم اعادة ما كان موجودا  لان التعليم الزيتوني كان يعاني ايضا ازمة خاصة في التعليم الابتدائي . لا ننفخ في جثّة ميتة ... فالزيتونيون أنفسهم لم يكونوا راضين عن التعليم فكيف نعيد تجربة رفضها اصحابها " ودعاهم إلى "الاستفادة من تجربة التعليم بالازهر وتجربة التعريب بجامعة دمشق " ودعا في الاخير إلى عدم التفكير في التراجع عن مكسب توحيد التعليم .
أما في المحاضرة الثانية فقد تطرق الدكتور محمود الذوادي إلى اللغة باعتبارها أساس ومصدر "الرموز الثقافية " التي تميّز الجنس البشري عن بقية الأجناس والتي يمكن للباحث تفسير سلوكيات الناس من خلالها  والتي يحصرها الدكتور في خمسة رموز أولها اللغة المنطوقة والمكتوبة و ثانيها التفكير وثالثها التدين ورابعها العلم والمعرفة وآخرها الأعراف والتقاليد . ومن خلال ملاحظاته الميدانية ، يرى الدكتور الذوادي أن هوية الشعوب ذات السيادة مرتبطة باللغة أساسا فهم يعتزون بلغتهم ويدافعون عليها ويعرّفون أنفسهم وهويتهم من خلالها وهم بذلك في علاقة طبيعية بلغتهم وضرب عدة امثلة عديدة لذلك . أمّا في تونس فقد لاحظ مزجا لغويا فوضويّا لدى التونسي بشقيه النخبوي والشعبي وسلوكا لغويّا يتميز باحتقار اللغة العربية و عدم الغيرة عليها والاحساس بالدونية تجاه بقية اللغات  فالعلاقة بين التونسي ولغته غير طبيعية .ويرى الدكتور الذوادي أن المرأة التونسية لها مشكل أكبر مع اللغة فعادة ما تتحمس أكثر إلى اللغة الاجنبية وتستعملها في شؤونها اليومية وهو ما يؤثر حتما في علاقة الابناء بلغتهم ويقول الباحث إن علاقة النخبة التونسية المثقفة  باللغة العربية ليست على ما يرام  وتفتقد إلى الحماسة والحميميّة على عكس أمثالها في الدول المتقدمة كاليابان وماليزيا وكندا وأن استخدامها للغة هجينة أو مزدوجة أو أجنبية  تفيد أن هذه النخبة هي أكثر إهانة للغتها الوطنية وهي بالتالي تتآمر عليها وهذا يدخل ضمن ما أسماه ”مظاهر التخلف الآخر“. وبيّن الدكتور الذوادي أن اغلب التونسيين عندهم ازدواجية لغويّة " أمّارة" ضد اللغة العربية واستخلص أن اللغة العربية في تونس مصابة بإعاقتين ، تتمثل الاولى في عدم الاستعمال و  الثانية اعاقة نفسية تتمثل في فقدان الحماس لاستعمالها والذود عنها ويرجع ذلك  إلى فقدان المناعة اللغوية لدى التونسي . وتطرق الدكتور إلى مفهوم التعريب ليؤكد أنه لا يختزل في الكتابة باللغة العربية بل المهم التعريب النفسي أي " أن تكون للإنسان علاقة عاطفية بلغته فيتحمس لها ويدافع عنها عندما تهان وهذا مفقود لدى أغلب التونسيين . وفي ختام محاضرته عرج الدكتور على ضرورة التفكير بطريقة جديدة ترتكز على تغيير مفهوم أساسي لدى التونسي يتمثل في أنه ليس هناك لغة متقدمة وأخرى متأخرة بطبيعتها وإنما تتأخر وتتقدم بمعادلة الاستعمال وأن اللغة كائن حي تموت أو تصبح ضعيفة في حالة عدم استعمالها . كما دعا إلى مقاومة ما اسماه "بالازدواجية اللغوية الأمارة " وذلك بالعمل على أن يصبح لدى المجتمع التونسي "ازدواجية لغوية لوّامة" بمعنى أن يتقن التونسي أكثر من لغة لكنه في نفس الوقت يعتز بلغته ويلوم نفسه عندما يستعمل لغة غيرها.
وخصصت الفترة الثالث من الجلسة العلمية للنقاش حيث تداول العديد من الحاضرين على نقد بعض ما طرحه المحاضرين أو مساندتهما واقتراح حلول للرقي باللغة العربية وتأسيس علاقة طبيعية للتونسي مع لغته.
واختتم اللقاء رئيس المنتدى سالم العيادي أستاذ الفلسفة بكلية الآداب والعلوم الانسانية بصفاقس مثمّنا جهد المحاضرين شاكرا لهما العمل على تبديد بعض الأوهام المتعلّقة بالشأن التربوي.