مصلحون

بقلم
فيصل العش
الطاهر الحدّاد : نصير المرأة و العمّال

 الطاهر الحداد مفكّر ونقابي وسياسي تونسي ، من روّاد عصر النهضة، جنوبي الأصل، نزح أبوه من الحامّة من ولاية قابس ليستقر بالعاصمة . ولد في  4 ديسمبر 1899 ونشأ في وسط متواضع وتلقّى تعليما تقليديا حيث تعلّم القراءة والكتابة والقرآن في الكتاب ثم بجامع الزيتونة أين تحصّل على شهادة التطويع ثم التحق بمدرسة الحقوق العليا التونسية وعمره لم يتجاوز  22 سنة . بدأ حياته كاتبا مناضلا في بعض الجرائد التونسية كـ «الأمة» و«مرشد الأمة» و«أفريقيا» أين نشر العديد من المقالات الجريئة وبادر منذ شبابه الأوّل إلى إسماع صوته والمجاهرة بآرائه رغم خروجها عن المألوف الاعتياديّ والسائر الانضباطيّ مما جعله يتبوّء موقعا متقدما في الحزب الحر الدستوري التونسي الذي أسسه الثعالبي فكان أحد أبرز مناضليه. تبنّى الحدّاد من خلال نشاطه الحزبي  المشروع الوطني الداعي إلى مقاومة الاستعمار واستقلال تونس وجعلها دولة ديمقراطية حديثة ودافع عن حقوق التونسيين المسلوبة  والمطالبة بارساء مؤسسات دستورية لحماية المواطنين من التجاوزات وتقر المساواة بين سكان البلاد من جهة ودعى إلى بناء ثقافة تقطع مع التخلف الفكري وتتبنّى الحداثة والتفتح والتسامح وذلك بنشر التعليم العصري والدفاع عن الحريات الفكرية وملاءمة الإسلام مع مقتضيات العصر.

وبعد هجرة الشيخ الثعالبي إلى المشرق وتغيّر مواقف الحزب الحر الدستوري ، انتقده الحدّاد علنا وانسلخ عنه.ونتيجة لتعاطفه مع المعذبين والمضطهدين والفئات المسحوقة الممثلة في الطبقة الشغيلة ، وبروز محمد علي الحامّي بأفكاره العمّالية ، تحمّس الحدّاد للعمل النقابي وأسس مع الحامّي سنة 1924 جامعة عموم العملة التونسيين وهي أول نقابة وطنية، في وقت لم يكن فيه للتونسيين الحق في تأسيس نقابات شغيلة. لكن هذه الحركة العمالية لم تعمّر طويلا حيث سرعان ما بادرت سلطات الاستعمار إلى حلها بعد سنة واحدة من تأسيسها وتمّ نفي روّادها خارج البلاد فحرص الحدّاد على تأريخ تلك التجربة النضالية في كتابه الشهير «العمال التونسيون وظهور الحركة النقابية» (1927) الذي صادرته سلطات الاستعمار ومنعت تداوله.
كان وطنيا غيورا لم يشأ أن يرزخ وطنه تحت عبودية العادات الفاسدة والأوهام البالية والأفكار الظلامية والآراء الرجعية التي اعتبرها سبب الاستعمار والتخلف. انتمى الحداد إلى عديد الجمعيات الثقافية لإيمانه أن للجمعيات دور كبير في النهوض بالأفكار وبناء ثقافة تنويرية. 
وقد تشبّع الطاهر الحداد بفكر الإصلاحيين الذين برزوا بالبلاد التونسية منذ أربعينيّات القرن التاسع عشر وثابر على الاطلاع على ركائز الفكر الغربي من خلال رواد الحداثة والإصلاح في العالم العربي ونهل من أدبيات مختلفة عن مرجعيات التعليم الزيتوني فحاد عن العقلية الجامدة التي ميّزت هذا التعليم في العشرينات من القرن الماضي وأصبحت له ثقافة عصرية خوّلت له أن يكون طرفا فاعلا في النضال ضمن الحركة الوطنية التونسية التي كان يقودها الحزب الحر الدستوري 
وتعلّم من ابن خلدون العقلانية وتأثّر بفكره ومناهجه ومبادئه وتبنّى المصالحة بين الإيمان والعقل وفكرة "العدل أساس العمران والظلم مُؤذِنٌ بخراب العمْران " فارتوى بمبدأ مناهضة الاستبداد والظلم .
كما تواصل الحداد مع مدرسة الفكر الإصلاحي بمصر من خلال جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وأفكار قاسم أمين التي وردت في كتابيه تحرير المرأة (1899) والمرأة الجديدة (1901) .
عاصر الحداد الجدال الذي ميّز عشرينيات القرن الماضي بين التيار الأصولي المحافظ ممثلا خاصة في مشايخ الزيتونة والتيار الحداثي الذي مثّله عبد العزيز الثعالبي وثلّة من المفكرين والمثقفين الذين تخرّج أغلبهم من الزيتونة والذي تمحور خاصة حول موضوع المرأة فانحاز الحدّاد إلى التيار الحداثي. 
وكان الطاهر حداد على قناعة تامة أن تونس لا يمكن أن تصبح حرة فعلا، وتحقق الانتقال إلى عصر الحداثة إلا من خلال تحرير المرأة، فانكبّ طيلة ثلاث سنوات على إنجاز كتابه " إمرأتنا في الشريعة والمجتمع" الذي دعى فيه إلى تحرير المرأة المسلمة من القيود التي تكبلها داخل مجتمعاتها كي تساهم في مصير بلادها. 
ويعتقد الحداد أنّه لا بدّ لإصلاح هذه الأوضاع المزرية للمرأة وضمان حقوقها، وذلك يستوجب تثقيف الفتاة وتمكينها من التعليم على غرار الذكر حتى تتمكّن من تربية أطفالها تربية صالحة ومن المساهمة، الى جانب الرجل، في النهوض بمجتمعها.
ومن الأفكار البارزة التي طرحها الحداد ضمن هذا الكتاب ،موقفه من مسألة النقاب ، حيث يقول : " ما اشبه ما تضع من النقاب على وجهها منعا للفجور بما يوضع من الكمامة على فم الكلاب كي لا تعض المارّين".
كما ندّد الحداد بالزواج بالإكراه ودعا إلى حق المرأة في اختيار زوجها. وندّد كذلك بطلاق المرأة بالإكراه ونادى بـتأسيس محاكم مدنية للطلاق توفّر لها الضمانات الضرورية حتى لا تكون تحت رحمة الرجل يتصرّف فيها كما يشاء.
ويبرئ الحداد الإسلام من الوضع المزري التي وصلت إليه المرأة في المجتمع فيقول : " الإسلام ليس هو المسؤول عن المصير البائس الذي انتهت اليه المرأة في المجتمع". ويعتبر أن كل هذه الأوضاع هي وليدة تقاليد ناجمة عن عقلية أبوية وعشائرية قديمة. ومن المفروض تجاوز هذه العقلية البالية وإصلاح وضع المرأة طبقا لمقتضيات العصر. 
وقد برهن الحداد في كتابه هذا عن جرأة فكرية نادرة، ومقدرة على تحليل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والعقليات السائدة عندئذ في المجتمع التونسي، وكذلك عن إيمانه بالحداثة ودعوته للمساهمة الفعلية في الحضارة الحديثة وعدم الاكتفاء بمظاهرها واستهلاك منتوجاتها. وفي هذا الصدد يقول الحدّاد : " ايه أيها التونسيون، ما أكبر فضيحتنا بين أمم العالم التي تسعى للحياة والعزّة من طريقهما الموصل فنحن مازلنا حتى الساعة معجبين بما ترك لنا تاريخنا الأسود من عقائد وميول ننسبها للإسلام زورا لنتقي بذلك صدمة الحق الغلاّب".
والحداد لم يكن من المؤيدين لإضفاء الطابع الأوروبي على المجتمع التونسي كما طالب بعض المتفرنسين ، بل كانت أفكاره تدور حول تعاليم القرآن . وقد توخّى الحداد قراءة تاريخية لما ورد في القرآن والسنة النبوية واضعا بذلك أحكام الشريعة الإسلامية الخاصة بتنظيم المجتمع والمعاملات بين المسلمين في إطارها التاريخي. 
ويفرّق الحدّاد بين أركان الإسلام وفرائضه وعباداته وقيمه التي من المفروض أن تكون ثابتة لا نقاش فيها وبين الأحكام التي تنظّم حياة الناس ومعاملاتهم التي هي ظرفية وبالتالي تخضع إلى نواميس التطور التاريخي.
والإسلام  بالنسبة إلى الحداد، دين الواقع. ومن أجل ذلك أخذ بعين الاعتبار الظروف والعقليات السائدة عند ظهوره وعمل على تغييرها تدريجيا حتى لا ينفر الناس من الدين الجديد وتحقيق ما جاء من اجله أي إرساء مجتمع يقوم على العدل والمساواة بين جميع المسلمين وبالتالي بين العبد والحر وبين الرجل والمرأة.
والشريعة الإسلامية حسب الحداد لا تتنافى مع حقوق المرأة ومساواتها مع الرجل بل .”جاءت مرنة متسعة المعاني من أجل قبول أطوار الحياة الإنسانية“.. وقد توخىّ الحداد قراءة مقاصدية وتحليلا للشريعة الإسلامية للنظر في مواضيع عديدة كالعبودية وتعدد الزوجات والإرث واضعا الأحكام المتعلقة بهذه القضايا في إطارها التاريخي مبينا أنها أخذت، عند نزولها، بعين الاعتبار الأوضاع والعقليات السائدة في المجتمع العربي مع العمل على إصلاحها بصفة تدريجية. ويعتبر الحداد أن الإسلام عمل على إرساء المساواة تدريجيا بين الرجل والمرأة وذلك وفقا لجوهره الذي يقوم على العدل والمساواة بين الناس. وعلى هذا الأساس عالج منذ ظهوره الأوضاع السائدة في هذا الشأن كقضية تعدد الزوجات وقضية الإرث قصد إصلاحها.. 
ولتحقيق ذلك دعى الحدّاد إلى تجريد علماء الدين المحافظين من نفوذهم في التشريع والقضاء وبعث مؤسسات وضعية قضائية بدلا عن المحاكم الشرعية. 
ويعتبر كتاب" امرأتنا في الشريعة والمجتمع" القشّة التي قسمت ظهر البعير كما يقال واللحظة الفارقة في حياة هذا المناضل المصلح ، فنتيجة لما جاء في هذا الكتاب من أفكار معارضة لما هو سائد في أذهان الشق المحافظ السائد في أوساط جامع الزيتونة ، تمّت مهاجمته بشراسة نادرة فاتهم بالزندقة والكفر والإلحاد ،  فصودر الكتاب وسحبت منه شهادته العلمية  ومنع من أبسط حقوق المواطنة فأطرد من عمله . كما قامت الزيتونة بنشر كتابين ردّا على كتاب الحدّاد هما كتاب " الحداد على امرأة الحدّاد" للشيخ محمد صالح بن مراد و " سيف الحق على من لا يرى الحق" للشيخ عمر البرّي المدني.
تمسك هذا المصلح الشاب بمواقفه وآرائه وواصل نضاله،رغم خيانة الرفاق وحصار جيوب الردّة وعلماء البلاد والتقليديين فكتب كتابا عن- إصلاح التعليم الزيتونــــي- 
لكنّ الهجمة القويّة لعلماء ومشائخ الزيتونة والمفكرين والحملة الشرسة التي شنتها الصحف التونسية وبعض الصحف العربية والفتوة الصادرة بتكفيره وحجز كتابه دفعته تدريجيّا إلى أعتكاف الحياة العامّة وقطع علاقاته وصداقاته فانقطع عن الجدل والصراعات الفكرية واستنكف عن الكتابة للجمهور الواسع وخيّر أن يكتب لنفسه "خواطره الثلاث والستّون" التي لم تصدر للعموم إلا بعد الاستقلال . وبعد أن سيطرت عليه الكآبة والآلام توفي الطاهر حداد في 7 ديسمبر 1935  بعد صراع مع مرض القلب وهو في ريعان شبابه عن عمر يناهز 36 عاماً فقط. 
مات الحدّاد بعد حياة قصيرة لكنّها حبلى بالعطاء والنضال الفكري والنقابي والسياسي وبقيت أفكاره  قائمة الذّات ووفّرت أرضية مهدت الطريق لصدور مجلّة الأحوال الشخصية . وما زالت آراء هذا المصلح خاصة تلك التي تضمنها كتابه الشهير ”امرأتنا في الشريعة والمجتمع“ مرجعا أساسيا للعديد من أوساط النخب التونسية بالرغم من مرور ثمانين عاماً على صدوره. 
 
بعض خواطر الحدّاد :
 
الخاطرة عدد 31: نصائح العاجزين ( ماي 1933) 
"نصائح العاجزين هي التي تأمرنا بالسير على مهل في الطريق المحفوف بالمهالك ثم ترسم لنا خطة النجاة فنرى فيها جبلا يسير فوق جمل".
الخاطرة عدد 36: العمل والعجز( جوان 1933)
"عندما يأتي عمل شاق نحبه أو انتقام وحشي يقف من ثورة غضبنا نتم عملنا بشجاعة بالغة نفتخر بها، والسجون العامّة ملآنة بالقدرة من هذا النوع، ولكن تخوننا هذه القدرة عندما نشعر بالخيبة العامة في حياتنا فنفوض الأمر للاقدار الالهية وليس بعاجز من يعترف لله بالعجز".
 
الخاطرة عدد 49: نحن والاستعمار الأوروبي ( جوان 1933)
" لقد قمنا برحلات عديدة الى أوروبا لإفهام أحرارها المنصفين ما نعاني في بلادنا من ضروب العسف وألوان العذاب النازل علينا من الاستعمار الأوروبي ويظهر اننا حتى الآن مازلنا نرى الحاجة إلى الرحيل لإعادة أحاديثنا المتكررة عليهم لعلهم يفهمون، وهكذا تمرّ السنون وعشرات السنين وهؤلاء الأحرار المنصفون مازالوا في حاجة إلى إفهامنا فما أقدرنا على البيان وما أعجزهم عن الفهم".
 
الخاطرة عدد 56: التضحية بدون عوض( جوان 1933)
"خير للانسان أن يحترف عملا مباحا يكتسب منه العيش أو الثروة كما يفعل سواد الناس من أن يحترف زعامة الشعب التي تقتضي التضحية بدون عوض فيظل يعصرها بحذاقة لتدر عليه من رزق الشعب الفقير، ولكن أين الضمير ؟ "
 
الخاطرة عدد 57: التفكير والتكفير( جوان 1933)
"التفكير بدء الحياة ولكننا نضع في وجهه سلاح التكفير لنثير عليه الشعب فمن أين نبدأ الحياة التي نطلبها للشعب ؟ "
 
الخاطرة عدد63:الشرق العربي وخصومه الأقوياء (جويلية 1933)
" الاقتصاد والسياسة والجند المنظم بأركان حرب يقومون عليه هذه القوات الظاهرة في نظام الأمم المستقلة وهي وسيلة كل شعب يريد الحياة في هذا العالم المتسلح وهذا ما فهم اليابان والأتراك والفرس والروس والأفغان وشيّدوه في بلادهم وأقاموا به الدليل على حياتهم ولم يبق معتمدا على سياسة الاحتجاج بالمنطق وقوة الحقّ المجرّد أمام خصومه !! الأقوياء إلاّ الشرق العربيّ فما أبعد الغاية وما أطول الطريق على العاجزين."