الأولى

بقلم
فيصل العش
الكيل بمكيالين
 (1)
قامت الدّنيا ولم تقعد نتيجة الغزو الرّوسي لأكرانيا، وانتفض الأوروبيّون لمؤازرة الاكرانيّين، وتجنّدت كلّ المؤسّسات الاقتصاديّة والسّياسيّة الدوليّة وكذلك وسائل الإعلام الغربيّة بشقّيها الأوروبي والأمريكي للضّغط على روسيا وفضح ممارساتها اللّاإنسانيّة تجاه الشّعب الأكراني، وإعلان العقوبات تلو العقوبات في محاولة لوقف العمليّات العسكريّة الرّوسيّة ووضع حدّ لهذا الغزو «الهمجي» حسب تعبيرهم.
المشهد يوحي بحسّ إنساني عميق لدى الغربيّين، واحترام مبدئي لحقوق الإنسان  من خلال فتح أحضانهم للمهاجرين الأُكْران من جهة ورفضهم للهجوم الرّوسي على دولة ذات سيادة وشعب له كرامة وحرّية يكفلها له القانون الدّولي والمواثيق الدّوليّة لحقوق الإنسان من جهة أخرى. لكن يحق ّ لنا أن نتساءل عن الدّوافع الحقيقيّة التي تقف وراء هذه الهبّة الغربيّة، أهي فعلا بدافع إنساني بحت أم نتيجة لخصوصيّة ثقافيّة حضاريّة في الشّخصيّة الغربيّة؟ 
الهدف من المقال إذن ليس معارضة الغزو الرّوسي لأكرانيا أو الدّفاع عنه، وإنّما الغوص في الأسباب العميقة التي أدّت إلى هذه الانتفاضة ضدّ الممارسات الرّوسيّة والتّساؤل عن حقيقة المنظومة القيميّة للحضارة الغربيّة بشقّيها اللّيبرالي والاشتراكي (إن صحّ التعبير) من زاوية نظرتها للإنسان وحقوقه، ومدى مصداقيّة شعارات الحرّية والعدالة والكرامة التي تدّعي أنّها صاحبتها وأنّها أسس صرحها الذي أقامته نتيجة جهود التنويرييّن ونضالاتهم.
(2)
من مساوي الحضارة الغربيّة أنّها تقوم على التّمييز بين البشر وتصنيف الإنسان من خلال عرقه ودينه ولون بشرته. والتّاريخ يؤكّد هذا الرأي ويدعّمه. فـ «حضارة الإنسان الحديث» كما يحلو للبعض تسميتها حضارة أوروبيّة محضة، تقوم على ثقافة متمركزة على ذاتها، حيث تهيمن نرجسيّة متعالية، فهي المركز وغيرها الهامش والحاشية. ولهذا فهي لا تقبل سواها متنفّذاً وصاحبا للسّلطة المطلقة.
هذه الحضارة التي تدّعي أنها راعية لحريّة الإنسان وكرامته تخفي دمويّة مفرطة وإقصائيّة لامثيل لها وعنصريّة مقيتة تحمل توقيع استعلاء الرّجل الأبيض. ولتأكيد ذلك، نقلّب مع القارئ صفحات التّاريخ، ونطّلع إلى ما فعله الأوروبيّون في أمريكا وأستراليا حيث لم يبقَ فيها سوى آثار من الشّعوب الأصليّة يصنّفونها في باب الفلكلور ومثالا انثروبولوجيّا للدّراسة. ألم تقم رائدة العالم الحديث (أمريكا) على أنقاض الهنود الحمر الذين تمّت إبادتهم بالكامل؟ ألا يذكر لنا التّاريخ أنّ ملايين الأفارقة تمّ استعبادهم من طرف الرّجل الأبيض ونقلهم من إفريقيا إلى أمريكا؟ هل يمكن أن يمحى من التاريخ ما فعله الفرنسيّون في المغرب الكبير وخاصّة في الجزائر وما فعله الإيطاليّون في ليبيا والانقليز في مصر والشّرق العربي إبّان فترة الاستعمار الغاشم؟ أليس الاستعمار في حدّ ذاته هو ذروة الخيانة للتّنوير وقيمه الإنسانيّة الكونيّة؟
يعتقد البعض أن ما قام به الغرب من تجاوزات ضدّ الإنسانيّة لم تكن وراءه خلفيّة فكريّة قيميّة، وأنّه انحراف عن آراء التّنويريين والمفكّرين والأدباء المنظّرين لهذه الحضارة، لكنّ الحقيقة عكس ذلك، فقد ساهم هؤلاء في تضخيم الأنا الأوروبي واحتقار الآخر وتشجيع الاستعمار، والدّعوة له ومباركته واعتباره هدفا ساميا باعتباره ينشر الحضارة بين الشّعوب الأخرى في مختلف قارّات العالم. فقد ذكر «جارودي»(1) عددا من أدباء الغرب الذين كانت لهم آراء عنصريّة من بينهم «هيغو»الأديب التقدّمي، صاحب رواية البؤساء، الذي قال كلمته المشهورة داعما للغزو الفرنسي للجزائر: «اذبحوا الأمّة الملعونة!». ومن الفلاسفة والمفكرين نذكر على سبيل المثال «مونتيسكيو»(2) و«فولتار»(3) و«كانط»(4) وتلميذه «فيخته» (5) و«جوزيف كبلنج»(6) و«الكونت آرثر دوغوبينو»(7)، وكلّهم من أصحاب نظرية تفوّق الجنس الأبيض. ولم تكن أفكار «ماركس» و«أنجلز» صاحبا البيان الشّيوعي عام 1848 مختلفة عن الآخرين فهما لم يعتبرا الاستعمار الفرنسي انتهاكا للحقّ الإنساني وبربريّة، وجرائم للرّجل الأبيض، بل زكّياه باعتباره شكلا من أشكال الهجرات، التي تنقل التّمدّن والتّحضّر إلى شعوب شبه بدائيّة أو شعوب متخلّفة ـ بدو على حدّ تعبيرهما ـ وغير متحضّرة، مثل الهجرات الأوروبيّة إلى أمريكا وأستراليا، حيث تطوّرت الحياة هناك بسرعة وأدّى ذلك إلى بروز الحضارة والتّصنيع والتّقدّم في هاتين القارّتين الجديدتين، بفضل الهجرة الأوروبيّة! 
قد يقول البعض بأنّ ذلك من الماضي البعيد، وأنّ الغرب اعترف بجرائمه الاستعماريّة وقدّم الاعتذارات المناسبة في بعض الأحيان، وهو يعتبر في العصر الحديث منقذا وحاملا لقيم الحرّيات والدّيمقراطية وحقوق الإنسان ومدافعا عنها، لكنّ الحقيقة أنّ الرّجل الأبيض لم يغيّر قناعاته وإنّما غيّر أسلوبه في قمع الآخرين واستغلالهم، وربما أصبح أكثر سوء ممّا كان عليه في القرون السّابقة. فأمريكا صاحبة مشروع «العولمة» ورمز «الدّيمقراطيّة وحقوق الانسان» هي أكثر الدّول ضلوعا في في مُعْظَم الحروب الكبيرة التي شَهِدَها العالم على مدى أكثر من الخمسين سنة الماضية. وباشَرَتْ شنَّ الحروب الغاشمة في كلّ من «فيتنام» و«كوريا» و«كامبوديا» و«الصّومال» و«لاؤس» و«العراق» و«أفغانستان» متذرّعة بأنّها تُحَاوِل بسطَ الأمن والاستقرار والدّيموقراطية في العالم. وفي الوقت الذي كانت فيه القوة العسكريّة الأمريكيّة تدمّر البيوت والملاجئ على رؤوس الأطفال والشّيوخ والنّساء العزّل، كانت الحكومات الأمريكيّة تدّعي أنّ الهدف من التّدخّل إنّما هو تحرير الشّعوب وتمكينها من حقوقها وتحقيق كرامتها.
(3) 
يُقال أنّ وسائل الإعلام هي مرآة للبنى الفكريّة والثّقافيّة للشّعوب وهي بانية لها، بمعنى أنّه يمكن لنا أن نفهم طبيعة الغربيّين وتوجّهاتهم من خلال ما تبرزه وسائل إعلامهم، ونحن نتابع الحملة الكبيرة والهبّة الهائلة لإعلام الغرب لنصرة الأكرانيين والتّنديد ببوتين ومن معه، نتساءل هل تصرّف هذا الإعلام بنفس الطّريقة عند غزو العراق، وحرب إفغانستان، وهل كانت له نفس المواقف تجاه عمليّات  الإبادة الصّهيونيّة للفلسطينيين؟، أليس هذا دليلا على عنصريّة كامنة في الشّخصيّة الغربيّة؟ الأكرانيّون بالنّسبة لإعلام الغرب من البيض ويعتبرون من الأوروبّيين، أمّا الآخرون فهم من العرب أو من المسلمين.
قد يذهب البعض إلى إرجاع هذا الاختلاف في المواقف إلى الرّؤية السّياسيّة للغربيّين (أوروبا وأمريكا) بحيث يتمّ التّشنيع بما يقوم به الرّوس بوصفهم أعداء فيوصف بالغزو، في حين يتمّ غضّ الطّرف عمّا يفعله الأمريكان وحلفاؤهم  أو على الأقل التّقليل منه فيوصف بالتدخّل. يتهافت هذا الرّأي بمجرّد البحث في ردّة فعل الغربيّين ووسائل إعلامهم تجاه ما قامت به روسيا ذاتها في الشّيشان وما تقوم به الصّين (وهي عدوّة أيضا) في مقاطعة «شينجيانغ» التي احتلتها في 1949م من إبادة جماعيّة للإيغور المسلمين وقمعهم واحتجازهم في معسكرات ما يسمّى بـ«إعادة التّأهيل». الشّيشانيّون ليسوا بيضا ولا الإيغور أيضا، لهذا لم يتألّم الإنسان الأوروبّي لما حدث لهم (إلاّ من رحم ربّك)، ألا يدلّ ذلك على أنّ أصحاب شعار العدل والمساواة يعتمدون مقياسين مختلفين لتصنيف النّاس والتّعامل مع قضاياهم؟ ولو كان للغرب قيمٌ تحترم إنسانيّة الإنسان الآخر فعلاً، فلماذا يسكت عن موت الملايين جوعاً في أفريقيا وبلدان الجنوب؟
(4)
قيمتان فاسدتان تميّزان الحضارة الغربيّة وهما الايمان بتفوّق الجنس الأبيض والانتهازيّة. فالغرب الذي يرفع شعار المبادئ التّنويريّة الشّهيرة (كالحرّية، والدّيمقراطيّة، ودولة القانون، واحترام حقوق الإنسان، والنّزعة الإنسانيّة، والتّسامح الدّيني، والاعتراف بالتّعدديّة الفكريّة، وحقّ الاختلاف، ورفض العنصريّة)، ويتبجّح بها عالياً، لا يتردّد لحظة واحدة في خيانتها، إذا ما تعلّق الأمر بإنسان آخر غير الإنسان الأبيض أو تناقضت مع مصالحه المادّية. لهذا نراه يغضّ الطّرف عن الأنظمة الاستبداديّة، إذا ما كانت تؤمّن له مصالحه، ويستخدم أحياناً شعارات حقوق الإنسان لابتزاز الدّول المعارضة له وتركيعها بغية استغلال ثروات شعوبها.
 إنّ حضارة تميّز بين البشر فترفع من قدر الرّجل الأبيض وتحطّ من قدر الآخرين، مهما كانت مزاياها، ليست حضارة «إنسانيّة» يمكن أن نقتدي بها حتّى لو تفّوقت على بقيّة الحضارات. هذه الحضارة سائرة لا محالة إلى زوال برغم هيمنتها وسيطرتها، لأنها مصابة بمرض عضال أفسدها وجعلها تعيش أزمة أخلاقيّة وروحيّة حادّة وانحراف كبير عن المسار التّنويري الإنساني، وتعاني من هيمنة أصوليّة ليست دينيّة، وإنّما أصوليّة إلحاديّة، مادّية، نسبويّة، عدميّة وبالخصوص .... عنصريّة.
الهوامش
(1) رجاء غارودي،الأصوليات المعاصرة أسبابها ومظاهرها،ترجمة خليل أحمد خليل - باريس.سنة 2000 م
(2) من مقولاته حول السود مثلا: «هؤلاء الذين نتحدّث عنهم سود من أعلى رأسهم إلى أخمص قدميهم، وأنفهم أفطس إلى درجة أنه لا يمكن أن تحزن عليهم أو تتعاطف معهم. إنّه لمن المستحيل أن أن تعتقد أن أشخاصا من هذا النوع هم بشر!»
(3) يقول فولتار : « حتّى لو نقلنا الزّنوج والزّنجيّات من بيئتهم الأصليّة إلى بلاد أخرى باردة فإنّهم يظلّون ينجبون حيوانات من أشكالهم»
(4) يقول كانط: «من بين مئات الآلاف من الأفارقة الذين نقلوا خارج بلدانهم لا يوجد شخص واحد نبغ في علم أو فنّ وذلك على عكس البيض الذين ينبغون حتّى ولو نقلوا إلى خارج بيئاتهم الأصليّةبمسافات بعيدة»
(5) كان يمجّد العرق الألماني إلى أقصى حدود، ويعتبره عصارة العرق الأبيض وجوهره.
(6) جوزيف رُديارد كِبلنج ( 1865_ 1936) ، كاتب البريطاني، أصغر فائز بجائزة نوبل للآداب (1907)، وأول كاتب باللّغة الإنجليزيّة يحصل عليها، تتناول معظم أعماله عَظَمة الإمبراطوريّة البريطانيّة، والإشادة بالجنود البريطانيّين، وتصوير عُمَّال الحكومة كأبطال، ووصفهم بأنّهم ناشرو العدل والازدهار والحضارة في البلاد البعيدة، وتمجيد النَّزعة الاستعماريّة التي كانت تُمثِّل العقيدة السّياسية لبريطانيا. 
(7) الفرنسي آرثر دوغوبينو Arthur de Gobineau، الرّائد الأكبر للنّظريّة العنصريّة الذي وضع مؤلفا بعنوان: «بحث في عدم التّساوي بين الأجناس البشرية» عام 1853، وتتلخص نظريته في أن «الاختلاط بين الأجناس الرّاقية والأجناس السّفلى هو السّبب الرّئيسي في تدهور حضارات أوروبا السابقة»! وكان فكر دوغوبينو هو الأرضية الأساسيّة التي قامت عليها النّظرية العنصريّة للفكر النّازي في ألمانيا