الأولى

بقلم
فيصل العش
الجماهير.... ومعركة الهدم والبناء
  تعتبر الجماهير من أهمّ العناصر الرّئيسيّة في أيّة عمليّة للإصلاح أو للتغيير بصفتها العنصر الذي يقع عليه فعل التّغيير/الإصلاح من ناحية، ومن ناحية أخرى بصفتها مشاركا أساسيّا في صنع هذا التّغيير. وتعبّر الجماهير بتصرّفاتها وعلاقاتها فيما بينها بشكل تلقائي وعاطفي عن ثقافة المجتمع السّائدة. ولهذا فإنّ دراسة واقعها ومعرفة خصائصها من شأنه أن يعين على إلتماس الطّريق المناسب للتّغيير.
(1)
وسواء كانت عربيّة أو غيرها، وسواء كانت في عصرنا الحاضر أو في زمن غير زماننا، فإنّ للجماهير ميزات عامّة مشتركة، كما لديها خصائص ذاتيّة تتغيّر حسب الزّمان والمكان.  
تحدّث المؤرخ الفرنسي وعالم الاجتماع الشّهير«غوستاف لوبون»(1) بإطناب في كتابه «سيكولوجيّة الجماهير» عن الميزات المشتركة للجماهير، من أبرزها أنّ الجماهير «غير ميّالة كثيرا للتأمّل وغير مؤهّلة للمحاكمة العقليّة، ولكنّها مؤهّلة جدّا للانخراط في الممارسة والعمل»(2) ولهذا فلديها استعداد كبير للتلقّي وسرعة في التأثّر وسذاجة في تصديق أي شيء. «إنّ الجمهور يشرد باستمرار على حدود اللاّشعور ويتلّقى بطيبة خاطر كلّ الاقتراحات والأوامر كما أنّه مليء بالمشاعر الخاصّة بالكائنات غير القادرة على الاحتكام للعقل ومحروم من كلّ روح نقديّة وبالتّالي فهو لا يستطيع إلاّ أن يبدي سذاجة وسرعة تصديق منقطعة النّظير...»(3) وهو ما يساعد على قبول كثير من الأفكار ولو كانت غير منطقيّة، ولعلّ هذا ما يفسّر حالة انتشار الإشاعات والأكاذيب في مثل هذه الأوساط. 
ومن خصائص الجماهير النّفسيّة سرعة انفعالها ونزقها؛ «فلا شيء متعمّد أو مدروس لدى الجماهير، فهي تستطيع أن تعيش كلّ أنواع العواطف، وتنتقل من النّقيض إلى النّقيض بسرعة البرق وذلك تحت تأثير المحرّض السّائد في اللّحظة التي تعيشها»(4). وظاهرة التّحريض تنتقل بالعدوى في أوساط الجمهور، وتستخدم فيها شعارات يجد الجمهور نفسه مندفعًا لها تلقائيًا لأنّها تلامس رغباته(5). 
 ومن صفات الجماهير أيضًا التّعصب والاستبداد؛ لذلك فإنّها عادة ما تكون أشدّ تعصبًا للأفكار والعقائد وأشدّ تطرّفًا ضدّها كذلك، فإذا ما أضيف لذلك التّعصب شعور الجمهور بقوّته، فإنّ استبداده برأيه يكون بحجم تعصّبه(6).
ومن الخصائص العامّة الأخرى انطماس شخصيّة الفرد وانخراطه في سيل الجماهير، والذي يترتب عنه تخلّيه عن عقله الواعي ومنطقيّته حتّى يتماهى معها. «إنّ الجمهور هو أدنى مرتبة من الانسان المفرد فيما يخصّ النّاحية العقليّة والفكريّة، ولكن من وجهة العواطف والأعمال التي تثيرها هذه العواطف فإنّه يمكن لهذا الجمهور أن يسير نحو الأفضل أو نحو الأسوأ وكلّ شيء يعتمد على الطّريقة التي يتمّ تحريضه أو تحريكه بها»(7).
ولأن الجماهير محكومة باللاّوعي فإنّ من صفاتها المحافظة، والتي تتحكّم فيها العوامل الموروثة، وحتّى عند ثورانها وانتفاضاتها، فإنّها سرعان ما تملّ من الفوضى والانفلات اللذين تخلفهما تلك الموجات الاحتجاجيّة أو الثّورات، وتميل مرّة أخرى بغريزتها إلى العبوديّة أو إلى من يقمعها بحجج كثيرة كالاستقرار وحماية البلد وغيرها. 
هذه أهمّ الميزات العامّة المشتركة للجماهير، وهي ميزات تنطبق على الجماهير العربيّة في الماضي وفي الحاضر. ولكن ما هي الخصائص الذاتيّة الحالية التي تميّز الجماهير العربيّة عن غيرها؟ وكيف تطبّعت بها؟ 
(2)
لعلّ المتأمل في واقعنا العربي يلاحظ بيسر أنّ الجماهير العربيّة الاسلاميّة قد أضاعت البوصلة بشكل كامل، وهي تعيش لحظة إحباط لم يسبق أن عاشتها من قبل، ووضعا مزريا ميزته التخلّف والانحطاط. 
 وما تعانيه هذه الجماهير ليس وليد اليوم، فأغلبه اختمر خلال حقب عديدة متطاولة منذ أن فقدت حضارة الأمّة بريقها وهيمنت عليها الحضارات الأجنبية. غير أنّ ما حدث لها خلال فترة ما بعد الاستعمار المباشر إلى يومنا الحاضر أدخلها في متاهات لا نهاية لها وأفقدها تماما قيمتها وخصائصها فأضاعت البوصلة.
حين خرج الاستعمار من بلادنا أخذت ما يسمّى بالحكومات الوطنيّة تعدّ الخطط التّنمويّة المختلفة بهدف إعمار البلاد وسدّ فجوة التّخلّف القائمة بيننا وبين الغرب. ولأنّ القائمين عليها كانوا يعتقدون بوعي أو بدونه أنّ تحقيق النّهضة لا يتمّ إلاّ عبر بوابة الغرب، سعوا إلى استنساخ تجربته وتدمير كلّ البنى الذّاتيّة المعارضة لذلك، مستخدمين أساليب قسريّة وقهريّة في إشاعة أشكال التّحديث في الجسم العربي، مهملين العناية بالإنسان وأهميّة توعية الجماهير قبل فرض البرامج والمخطّطات بالقوّة. فكانت النّتيجة خلق واقع من الحيرة والتّردّد والتمزّق واضطراب في شخصيّة الإنسان العربي، فأصبحت الجماهير تعيش ازدواجيّة مدمّرة بين ما تحمله من تقاليد التّأخّر والتّخلّف وبين مظاهر التّحديث القسري التي فُرِضَتْ عليها بالقوّة. 
إنّه من الحيف الإدّعاء بأن نخب «الدّولة الوطنيّة» لم تفعل شيئا تجاه الوطن، فقد سعت إلى القضاء على العديد من أشكال التّخلّف بطريقتها ولكنّها كانت في نفس الوقت ترعى -بوعي أو بدون وعي- المنابع والمصادر التي تتوالد منها قيم التّأخر والتّخلّف. لقد انبهرت هذه النّخب بنتائج تطوّر الانسان الغربي فسعت لتقليده من دون أن تأخذ بالأسباب الحقيقيّة لتطوّره وتقدّمه، وأسرعت بالقضاء على القوى التّقليديّة دون الإمساك الفعلي بالقوى الجديدة بشكل سليم وفاعل، فكانت نتائج ذلك وخيمة. 
لقد استطاعت هذه النّخب في فترات متعدّدة أن تجلب الجماهير إلى صفّها وتجمعها حولها لتنفيذ مخطّطاتها، لكن سرعان ما كان يخيب ظنّ هذه الجماهير نتيجة عدم تحقيق نتائج لفائدتها، فتنقلب على عقبيها ليسكنها اليأس وتمزّقها الخيبة(8).
لقد خلقت نخب «الدولة الوطنيّة» واقعا مليئا بحالات متناقضة (تحديث قشوري واحتضان منابع التخلف والانحطاط والتأخر) تتعايش تحت سقف واحد بقلق حادّ وتوتّر مضمر في بعض الأحيان وصريح في أحيان أخرى ينذر بتفكّك اجتماعي خطير. وتحوّل الإنسان العربي بفعل ذلك إلى ما يشبه الغراب الذي قلّد بصفة مشوّهة مشية الحمامة فأضاع مشيته، فصار يتعثّر كلّما حاول المشي .. لكن الفرق بينهما أنّ الغراب أراد بإرادته أن يغيّر مشيته، أمّا الإنسان العربي فقد فرض عليه التّغيير فرضا. لقد أجبرت الجماهير العربيّة على ترك جزء لابأس به من تقاليدها ممّا جعلها تفقد توازنها القديم - وإن كان متخلّفا- وفي المقابل لم تتمكّن من إيجاد توازن بديل نتيجة فرض مناهج الغرب عليها، فأصبحت تعيش وضعا ممزّقا زادته الخيارات الاقتصاديّة الفاشلة تأزّما، فأضاعت بوصلتها وأصبحت تعيش أزمة أخلاقيّة وقيميّة وثقافيّة خانقة وأصبحنا نعاين في نفسيتها وسلوكها ما لا يمكن أن يستقيم معه دين ولا دنيا. ومن ذلك:
- عدم الاكتراث بالشّأن العام وانحسار اهتمامات الجماهير في الضّرورات، فهي في حالة من الجري الدّائم للحصول على ما يسدّ الرّمق، تكافح في سبيل البقاء ليس أكثر. وهذا ما يفسّر التلقّي الفاتر لكلّ ما يحدث حولها، حيث لا شيء يهم لأنّ عندها ما هو أهم، ولأنها تشعر بأنّ اهتمامها بالأحداث غير ذي جدوى.
- الشعور بفقدان الكرامة وضياع الحقوق وسحق الذّات واضمحلالها.
- غياب روح المبادرة وسلوك الاقتحام إلى جانب الخوف الشّديد من التّغيير.
- هيمنة القهر والتّسلّط والعنف على العلاقات الاجتماعيّة بدل التّفاهم والتّبادل المتكافئ، فغدا التّناحر والتّقاتل واغتصاب الحقوق ورفض الواجب الجماعي سمة واضحة لمكونات المجتمع.
هذا التيه والتّمزق الذي أصبح ميزة الفضاء الاجتماعي العربي جعل الشّعوب عاجزة عن التماس الطّريق الصّحيح نحو النّهوض والتّطور والخروج من عنق زجاجة الفقر والتّخلّف، وفي نفس الوقت قاصرة عن استيعاب ملايين الوافدين الجدد ممّن تدفع بهم الأرحام في كلّ سنة سواء على المستوى التّربوي أو الاجتماعي، نتج عنه نوع من عدم التّواصل الثّقافي بين الأجيال.
(3)
عندما تضيع الجماهير البوصلة تتحوّل إلى قنبلة موقوتة، وتفرّخ ما نراه اليوم من تطرّف وعنف ودمار، وتتحوّل إلى كتل بشريّة يحرّكها من يتحكّم في أدوات ومؤثّرات تجييشها ومن يتوجّه إلى عاطفتها وليس إلى عقلها. ففي الحالة الجماهيريّة العاديّة تنخفض الطّاقة على التّفكير، وتنعدم الرّغبة في استيعاب الحجج العقليّة، وتطغى الخصائص التي تصدر عن اللاّوعي أهمّّها سرعة الانفعال والتّأثر والتّعصب، فما بالك بجماهير قد أضاعت بوصلتها وتحكّمت فيها قوى الردّة والعمالة والاستبداد التي فقهت نقاط ضعفها وقوّتها وهي بصدد استغلالها لترويضها من جديد ودفن الحلم العربي في التّنمية والنّهضة.
والجماهير - حسب علم النفس الإجتماعي- ليست كالفرد يبحث عن الحقيقة بالأدلّة والبراهين، بل هي كتلة تبحث عن البساطة لتسير حسبها نحو الهدف الّذي تتوق إليه، الذي هو في الحقيقة غير صادر عن الجماهير وإنّما نتاج ذكاء شخص أو مجموعة عرفت كيف تحرّك تلك الجماهير، فزرعت ذلك الهدف في عقولها. يقول لوبون:«لكي نقنع الجماهير ينبغي أوّلا أن نفهم العواطف الجيّاشة في صدورها، وأن نتظاهر بأنّنا نشاطرها إيّاها، ثمّ نحاول بعدئذ أن نغيّرها عن طريق إثارة بعض الصّور المحرّضة بواسطة الرّبط غير المنطقي أو البدائي بين الأشياء»(9). 
والجمهور لا يمكن إقناعه بأيّة إيديولوجيا، أو فكرة، بالاعتماد على الوسائل العقليّة. ومن الأفضل مخاطبته بلغة الصّور والإيحاء والشّعارات. يقول لوبون: «ولمّا كانت الجماهير عاجزة عن التّفكير إلاّ بواسطة الصّور، فإنّه لا يمكن جذبها والتّأثير عليها إلاّ عن طريق الصّور. ووحدها هذه الأخيرة ترعبها أو تجذبها وتصبح باعثا للعمل والممارسة» (10). 
ولا يعني هذا أن الحراك الجماهيري حتّى وإن تحكّم فيه اللاّوعي هو حراك سلبي نحو الفوضى، فثمّة ثنائيّة متناقضة تتحكّم في لاوعي الجماهير هي الهدم والبناء. فإذا تحرّكت الجماهير فإنّها تتحرّك إمّا للهدم ( الثّورة/ التّمرّد/المواجهة مع الأمن/حرق وتدمير المؤسّسات..) أو للبناء (حملات تضامنيّة فيما بينها/مظاهرات التّأييد .... ) حسب نوعيّة ومصدر التّحريض. يقول لوبون في هذا الصدد:«إنّ الجماهير التي تحرّض بذكاء تصبح قادرة على البطولة والتّفاني من أجل قضيّة نبيلة»(11). وعندما ننجح في غرس فكرة ما في روح الجماهير فإنّها تكتسب قوّة لا تقاوم وينتج عنها سلسلة من الانعكاسات والنّتائج الايجابيّة التي يمكن البناء عليها. 
فمن يؤمن بقدرات الشّعوب على التّغيير عليه أن يربح معركة كسب الجماهير إلى صفّه وتحريكها نحو الأفضل بعيدا عن الهدم والنّكوص إلى الوراء ولا يكون له ذلك إلاّ إذا كان قريبا منها، مستوعبا خصائصها ومتّقنا لفنّ استخدام الكلمات والشّعارات التي تفهمها وتؤثّر فيها، وأن يعتمد على قوانين الذّاكرة والخيال والشّعارات الحماسيّة بدل قوانين العقل والبرهان، فهذه موجّهة للأفراد وإقناع الجماهير غير إقناع الأفراد ولكلّ مقام مقال.
الهوامش
(1)  غوستاف لوبون (7 ماي 1841 - 13 ديسمبر 1931) هو مؤرخ وعالم اجتماع وطبيب فرنسي، عمل في أوروبا وآسيا وشمال أفريقيا، كتب في علم الآثار وعلم الانثروبولوجيا، وعني بالحضارة الشرقية. واهتمّ بدراسة المجتمعات وعلم نفس الجماهير  من كتاباته المشهورة «سر تقدم الأمم» و«روح الاجتماع»  و«سيكولوجيا الجماهير» الذي ألفه سنة 1895 أي بعد ما يقارب المائة عام على قيام الثورة الفرنسية وما أعقبها من انتكاسات، وما تلاها أيضًا من استرداد لها وتصديرها أو تأثر الدول الأوروبية بها في القرن التاسع عشر، وعلى ضوء ذلك كتب لوبون كتابه ذائع الصيت الذي قيل إن النازيين اتخذوه منهجًا لهم في ترويض جماهيرهم.
(2) غوستاف لوبون، سيكولوجيّة الجماهير، ترجمة هاشم صالح - دار الساقي -ط.1 - ص. 45
(3) نفس المصدر - ص. 67
(4) نفس المصدر - ص. 64
(5) إننا بذلك يمكن أن نفهم تحولات قطاع كبير من عامة الناس بعد ثورات الربيع العربي مع تيار أو آخر ثم ضدّه، بل وفي أحيان ضدّ الثورة ذاتها التي خرجوا من أجلها وذلك تحت عوائد التّحريض اليومي والممنهج.
(6) نلاحظ ذلك في تصرّف الجماهير في الاجتماعات العامّة أو في المظاهرات العارمة. 
(7) غوستان لوبون، نفس المصدر - ص. 61
(8) انظر إلى خيبة العرب من التجربة القوميّة وخيبة التونسيين من التجارب العديدة للبورقيبية اهمّها فشل تجربة التعاضد.
(9) غوستان لوبون، نفس المصدر - ص. 124 
(10) غوستان لوبون، نفس المصدر - ص. 76 
(11) غوستان لوبون، نفس المصدر - ص. 75