الأولى

بقلم
فيصل العش
وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
 من العوائق التي تسبّبت في فشل العديد من محاولات الإصلاح والتّغيير في البلاد العربيّة وتسبّبت في انهيار مشروع الانتقال الدّيمقراطي في تونس، العلاقة المتوتّرة جدّا بين مكوّنات المجتمع وخاصّة بين النّخب السّياسيّة والفكريّة والثّقافيّة، توتّرا وصل إلى حدّ التّخوين مع حرص كلّ طرف على القضاء المبرم على الطّرف الآخر بوصفه عدوّا لا تستقيم الأمور إلاّ باستبعاده من السّاحة. ويعود السّبب في هذا التوتّر الهدّام إلى غياب ثقافة الحوار وغياب تقاليد المناظرة وفسح المجال إلى هتك الأعراض ونشر الأخبار الزّائفة عن المنافسين والتّشويش المتعمّد ونشر الفوضى وتكميم الأفواه.  
ولعلّ ما حدث في اليمن وفي سوريا وفي مصر وليبيا خير دليل على ما سبق ذكره، حيث حضر الرّصاص عوضا عن الكلمات، فكان التّقاتل والتّناحر الأسلوب الوحيد للتّعامل بين الأطراف المختلفة والطّريق الوحيد لحلّ الأزمات، ممّا خلّف دمارا شاملا وحالة من الرّعب والفقر والجوع لم تشهدها تلك البلدان في أحلك فترات التّاريخ. أمّا في تونس، فقد اختلف الوضع فيها شكلا ولم يختلف مضمونا، فقد تسبّب الصّراع بين العائلات الفكريّة والسّياسيّة في ترذيل الحياة السّياسيّة وتهميش الإبداع الثّقافي والفكري لتصبح البلاد على فوهة بركان قد ينفجر في أية لحظة ويأتي على الأخضر واليابس. ولعلّ ما حدث طيلة العشريّة الفارطة في البرلمان، وهو المؤسّسة السّياسيّة التي يفترض أن تكون مجال المناظرة، إذ تقرّر البثّ التلفزي الحيّ لجلساته حتّى يتعرّف المواطنون على أطروحات مختلف مكوّنات البرلمان والسّماع لحججهم، ومن ثمّ الحكم لهم أو عليهم في الانتخابات الموالية. لكنّ العديد من الأطراف المكوّنة لهذا البرلمان استغلّت ذلك لنشر الفوضى والتّهجّم على منافسيها، فارتفعت وتيرة السّبّ والشّتم عوضا عن المحاورة والنّقاش البناء، فلم تجن البلاد من ذلك إلاّ مزيدا من الأزمات.  
ولأنّنا نحاول أن نساهم قدر المستطاع في احتواء الحريق قبل اشتعاله، ولأنّنا لا نبحث عن مسكّنات للوضع الرّاهن، بل نبحث عن دواء لأصل الدّاء الكامن فينا حكومات وشعوب، وأفراد وجماعات، فإنّ إيماننا القاطع بأنّه لا طريق للخروج من أزماتنا الخانقة (سواء في تونس أو في بقيّة الدّول العربيّة) إلاّ طريق الحوار الجادّ، فقد خصّصنا مقال هذا العدد للحديث عن «المناظرة وفنونها» بوصفها أسلوب قديم جديد للتحاور. ولسائل أن يسأل: ماالفائدة من الحديث عن المناظرات وقد انغمس الجميع في عمليّة شحذ سيوفهم (المادّية والمعنويّة) استعدادا لساعة الحسم، رافعين شعار « إمّا نحن وإمّا الفناء» و«سحقا سحقا للرجعيّة،.... و ....»؟، والجواب، أنّ دورنا كرافعين لشعار الإصلاح أن «نُبَيِّنَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ». فما المناظرة؟ وما هي شروطها؟ وكيف يمكن أن نستفيد منها من أجل بناء جسور التّواصل بين نخبنا ؟
(2)
المناظرة لغة: من «نظر، ينظر،نظرا» وهو «تأمّل الشيء ومعاينته»(1) والمناظرة هي المباحثة والمبادرة في النّظر واستحضار كلّ ما يراه ببصيرته»(2) وجاء في لسان العرب «أن تناظر أخاك في أمر إذا نظرتما فيه كيف تأتيانه»(3)، وفي الاصطلاح هي «النّظر بالبصيرة من الجانبين في النّسبة بين الشّيئين إظهارا للصّواب»(4) وهي «المحاورة بين فريقين حول موضوع، لكلّ منهما وجهة نظر فيه تخالف وجهة نظر الفريق الآخر، فهو يحاول إثبات وجهة نظره وإبطال وجهة نظر خصمه، مع رغبته الصّادقة بظهور الحقّ والاعتراف به لدى ظهوره»(5) ، فالمناظرة إذن هي المباحثة التي تتمّ بين طرفين يسعيان إلى إصابة الحقّ في ميدان من ميادين المعرفة، حيث يسعى كلّ طرف عبر تقديم الأدلّة والبراهين واعتماد الوسائل العلميّة والمنطقيّة، إلى إعلاء وجهة نظره وتفنيد رأي الطّرف الآخر.
وعلى عكس ما يعتقده البعض وتبرزه أساليب الصّراع داخل المجتمع العربي، فإنّ «المناظرة» كأسلوب  للتّحاور وحلّ المشكلات  اعتمده العرب منذ القدم حيث كانوا يتناظرون، ويتبارون في سوق عكاظ، وهو ما خلف موروثًا أدبيًّا ثريًّا. ثمّ جاء الإسلام ليعزّز من أدب المناظرة، وقد برز هذا الأدب في العصر الأموي، حيث ظهرت المقامات، ثمّ ازدهر في العصر العباسي، وانتقل إلى الأندلس، حيث عرف عصره الذّهبي، ومن أشهر المناظرات التي عرفتها بلاد الأندلس مناظرة ابن برد الأندلسي، ومحاورته بين السّيف والقلم، ثمّ انتقلت إلى ابن الوردي، ثم ابن نباته، وهي سجلاّت حافلة من المناظرات.
والمناظرة هي إحدى أدوات الوصول إلى الحقيقة، لهذا تعتبر من أهمّ أساليب التّحاور مع الآخر التي دعا إليها القرآن الكريم وخصّها بعدد لابأس به من الآيات، من بينها مناظرة إبراهيم عليه السّلام مع النّمرود(6)ومناظرة موسى عليه السّلام مع فرعون(7)، وقد أمر اللّه نبيّه محمّد ﷺ (ومن ورائه جميع المسلمين) بالسّير على نهج الأنبياء في تعامله مع الكفّار وأهل الكتاب وذلك بمناظرة من يحتاج منهم إلى المناظرة بلين ورفق، وبشاشة وجه وحسن خطاب: ﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾(8)  وقال تعالى: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾(9). 
(3)
للمناظرة أربعة أركان لابدّ من توفّرها ليتحقّق الهدف من إقامتها، أهمّها:
- الرّكن الأول: وجود طرفان أو أكثر، لأنّ الأصل في لفظة المناظرة من حيث المنظور اللّغوي من المفاعلة، ويعني ذلك تشريك إثنين فأكثر؛
- الرّكن الثّاني: موضوع المناظرة أو الدّعوى، التي يتباين فيها موقف المتناظرين، أي تحديد مجال الحوار، لتقلّ مدّة الحوار ويتمّ تفادي تشعّبه مما يرجّح سهولة الوصول إلى ثماره؛
- الرّكن الثّالث: تحديد المفاهيم: ويتطلّب ذلك الاتفاق على معاني المصطلحات والمفاهيم التي سوف تستخدم في المناظرة؛ 
- الرّكن الرّابع: النتيجة، فلا بدّ  للمناظرة من أن تنتهي بفشل أحد الطّرفين في دفع أدّلة الطّرف الآخر وإبطالها سواء باعتراف الفاشل أو بترشيح الجمهور المتابع للمناظرة لأحد المواقف على حساب الآخر.
ولنجاح المناظرة، لابدّ من الالتزام ببعض القواعد والتقيّد بها، ومن أهمّها:
- تخلّي كلّ متناظر عن التعصّب لوجهة نظره، وإعلانه الاستعداد التّام للبحث عن الحقيقة والأخذ بها عند ظهورها سواء كانت هذه الحقيقة وجهة نظره السّابقة أم وجهة نظر من يناظره.
- تقيّد المتناظر بالقول المهذّب البعيد عن تجريح الخصم والإساءة إليه وإحراجه أو احتقار لوجهة نظره التي يدافع عنها. 
- التزام الطّرق المنطقيّة السّليمة لدى المناظرة ومنها تقديم الأدلّة مع إثبات صحّة النّقل (إن كنت ناقلا فالصحّة أو مدّعيا فالدّليل) والتّفريق بين الحجّة والرّأي، فلا يجوز أن يُلبس الرأي لبوس الحجة أو الحقيقة. 
- الابتعاد عن الشّخصنة والتّركيز على الفكرة والموضوع، لهذا يجب أن يدور الحوار حول الأفكار والوقائع وليس حول الأشخاص. 
- الابتعاد عن التّعميم، لأنّ العموميّات تسمح بترك الباب مفتوحاً للاستثناءات ولا تترك مجالاً لتداول الكلام والأفكار؛
- قبول النّتائج التي توصل إليها الأدلّة القاطعة أو المرجحة إذا كان الموضوع ممّا يكفي فيه الدّليل المرجّح.
أمّا فوائد المناظرة فهي كثيرة نذكر منها :
- الوصول إلى وضوح الرّؤية حول قضيّة ما لإيجاد قناعة مشتركة حولها؛
- استقصاء جوانب الخلاف حول قضيّة معيّنة وتجلية ما بين المتحاورين من قضايا خلافيّة؛ 
- الابتعاد عن الأحكام التّجريديّة في قضايا الواقع، كما أنّ الاستقصاء فيها يجنّب النّظرات الانفعاليّة والقناعات المسبقة؛
- التعمّق في دراسة أبعاد القضيّة وخلفياتها ممّا يؤدّي إلى شمول النّظرة وسعتها عند المتناظرين وعند الجمهور الذي يتابعهم؛
- التدرّب على أصول الحوار وتنظيم الاختلاف والتأدّب بآدابه.
(4)
والسؤال الذي يفرض نفسه: كيف يمكن تطبيع المجتمع مع هذه الآليّة؟ وما هي السبل والآليّات التي يمكن اعتمادها لكي تصبح «المناظرة» أحد أسس الحياة الاجتماعية وأسلوبا للتّفاهم بين مكوّنات المجتمع برغم اختلافها؟
ليس هناك أصعب من البدايات، والأمر ليس مستحيلا، ويكفي أن ندقّق النّظر في ما آلت إليه الأوضاع في المجتمعات الغربيّة التي كانت في الماضي القريب لا تعرف للحوار سبيلا(10)،ولكنّها استطاعت أن تحوّل حالة الخلاف والنّزاع إلى ثقافة حوار تدفع الإنسان إلى مدى آخر من الفكر، بعد أن أدخلته ضمن عمليّة من الشدّ والجذب (حوار مع النّفس وحوار مع الآخر) تبدأ من الطّفولة ولا تتوقّف.  
أمّا السبيل لكي تصبح «المناظرة» أحد أسس الحياة الاجتماعية وأسلوبا للتّفاهم بين مكوّنات المجتمع برغم اختلافها، فهو اعتمادها ضمن استراتيجيّة تعليميّة جديدة تقوم على الحوار وتقطع مع أسلوب التّلقين السّائد، فتصبح المناظرة شكلا من الأشكال المعتمدة في التّدريس في مختلف مراحله.    
ليس المطلوب إدراج تدريس فنّ التّناظر والحوار في المؤسّسات التربويّة فحسب، بل أن يعتمد في العمليّة التّدريسيّة نفسها في مختلف المواد ممّا يساعد على إبراز مهارات المتعلّمين في مجال المناظرة والمناقشة بالإضافة إلى تعلّمهم مهارات المواجهة وتفنيد الحجج والاستماع لآراء الآخرين دون جدال وتنظيم الأفكار، وتقصير الطّريق للوصول إلى الحقائق وبالتّالي تمكّنهم من المضامين بشكل جيّد بعيدا عن طريقة التّلقين والحفظ التي لاطائل من ورائها.
وإذا قمنا بتدعيم ذلك بإقامة مناظرات منظّمة، ضمن النّوادي الثّقافيّة والفكريّة، فسيكون لذلك الأثر الكبير في إكساب طلبة المدارس القدرة على الحوار مع الآخر، وبالتّالي التّعايش بإيجابيّة مع مختلف الأفكار والثّقافات، ممّا يعزّز إمكانيّة إعداد أجيال متوازنة ومقتنعة بأهمّية الحوار.
وبالتحاق المنابر الإعلاميّة (إذاعة وتلفزة) بهذا الجهد(11)، يمكن أن ينتشر أسلوب المناظرة خارج أسوار المؤسّسات التربويّة ليطال الأسرة والنّوادي والأحزاب وغيرها من مكوّنات المجتمع. 
(5)
إن آليّة «المناظرة» التي ترتكز على ثقافة الحوار هي وسيلة لرأب الصّدع الاجتماعي، لأنّها تشيع في المجتمع مفاهيم وسلوكيّات تؤكّد معنى المصالحة، وتبعث الانسجام، وتحدّ من الخلاف والتّنافر، فتمنع ما يسمّى بالتّشتّت الثقافي، لأنّها تحقّق التّفاهم والتّقارب والتّمازج بين الأفراد. وفي حال ترسيخها في مؤسّسات المجتمع والاعتماد عليها كأداة للتّحاور، ستتحوّل بذلك إلى ثقافة مجتمعيّة، من خلالها قد تتلاقح الأفكار المختلفة وتتقابل وجهات النّظر وتتفاعل لتجد الحلول المناسبة لمشاغلنا المزمنة.
فهل بالإمكان أن نستغلّ هذه الآليّة في هذه الظّروف الصّعبة ونجلب النّخب المتصارعة إلى مربّع  الحوار عبر مناظرات جدّيّة يكون الهدف منها تجاوز الأزمات الاجتماعيّة والسّياسيّة والاقتصاديّة التي يعيشها مجتمعنا؟ أم سنؤجّل ذلك إلى جيل آخر مادام هذا الجيل قد صحّت فيه مقولة العرب :
 «لا ينفع العقار فيما أفسده الدّهر *** وإن كان الدّهر براء من ذلك»؟ 
الهوامش
(1) أبو الحسن أحمد بن فارس، مقاييس اللغة، تحقيق عبدالسلام هارون، دار الجيل، بيروت، ط. 1991، 
(2) محمد مرتضى الزبيدي، تاج العروس، تحقيق عبدالعظيم الطحاوي، مطبعة الكويت، دط،دت،ج14، ص254
(3) ابن منظور، لسان العرب، دار صادر، بيروت، ط3، 1414، ج5، ص219
(4) الجرجاني، التعريفات، دار الكتب العلميّة، بيروت ط1983، أم، ص231-232
(5) عبدالرحمان حينكة الميداني، ضوابط المعرفة وأصول الاستدلال والمناظرة، دار القلم دمشق، ط5، 1998، ص371
(6) ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ سورة البقرة - الآية 258
(7) حوار موسى عليه السلام وفرعون تكرر كثيرًا في كتاب الله سبحانه وتعالى بعدة صيغ ومن زوايا مختلفة من بين ذلك ما ورد في سورة طه (42-52) وسورة الشّعراء (10-29)
(8) سورة النحل - الآية 125
(9) سورة العنكبوت - الآية 46 
(11) سيكون الالتحاق  إمّا اختيارا (ببروز جيل من الإعلاميين ممّن تربّى بأسلوب المناظرة) أو اضطرارا (لجذب أكبر عدد ممكن من المشاهدين)