شخصيات الإصلاح

بقلم
التحرير الإصلاح
المستشار طارق البشري
 المستشار طارق البشري هو أحد أبرز المفكّرين المصريّين في النّصف الأخير من القرن العشرين، اتسم إنتاجه الفكري بالغزارة. ولد طارق عبد الفتاح سليم البشري يوم 1 نوفمبر 1933 بمدينة القاهرة، لأسرة عُرفت بالاشتغال بالعلوم الإسلامية والقضاء والأدب، إذ تولى جده الشيخ سليم البشري مشيخة المالكيّة في مصر، ومنصب شيخ الأزهر الشّريف، فيما ترأس والده رئاسة محكمة الاستئناف حتى وفاته عام 1951.
تتلمذ على يد كبار فقهاء القانون والشّريعة، وتخرج في كلية الحقوق جامعة القاهرة عام 1953، عين البشري نائبا أول لمجلس الدّولة، ورئيسا للجمعيّة العموميّة للفتوى والتّشريع، واستمر في هذا المنصب حتّى تقاعده عام 1998، كما ترأس لجنة تعديل الدستور عقب ثورة 25 جانفي التي أطاحت بنظام الرئيس الراحل حسني مبارك (1981 ـ 2011).
يقوم البناء الفكري لشخصيّة البشري على عناصر أساسيّة أهمّها مفهوم الإستقلال الذي تتفرّع عنه المسائل الأخرى كالواجبات الوطنيّة، والتّجديد القانوني، والدّيمقراطيّة، والتّحوّل من اليسار إلى المرجعيّة الإسلاميّة كإطار جامع ومستوعب للتّعدّدية. ويشمل مفهوم الاستقلال 4 مستويات الأول الاستقلال عن الذّات وعن الضغوط التي تتوسّل عادة بالرّغبة أو الرّهبة خضوعًا وإخضاعًا، يقول «وقد دعوت اللّه تعالى أن أكون لا على ملك أحد من النّاس، وأن أكون على ملكه تعالى، ورجوته وأرجوه تعالى أن يُبقي على ملكي التّام تلك المساحة الصّغيرة التي لا تجاوز حجم الحصاة، والتي تقع بين سنّ القلم وسطح الورق، وأن يبقيها لي حرمًا آمنًا لا تنفتح لغير النّظر والفهم، ولا تنفتح لدخَل أو غصب أو غواية». والثّاني استقلال الأزهر بحكم أهمّيته كمؤسسة تعليميّة ذات بعد اجتماعي عميق. ويتعلّق المستوى الثّالث بفكرة استقلاليّة القضاء، وقد مارس البشري هذه الاستقلاليّة قبل أن يكتب عنها وينظّر لها، وله في ذلك وقائع مشهودة يعرفها المصريّون، من أشهرها عدم إحالة المدنيّين إلى المحاكم العسكريّة.  أما المستوى الرابع، فهو استقلال الوطن. 
ومن المفاهيم التي اهتمّ بها البشري «مفهوم المعاصرة» و«الموروث والوافد» والصّدام بينهما. و«مفهوم الحوار الوطني» الذي يقوم على العدل والمساواة بين مكونات الأمّة ويمثّل وسيلة أساسيّة لتحقيق «مفهوم الاستقلال الوطني»، سياسياً واقتصادياً. وهذا المفهوم هو أصل لمفهوم أوسع وهو «الاستقلال الحضاري». وهنا ستجد كتابات كثيرة للبشري تحت «مفهوم الحوار» مثل كتاباته عن المسلمين والأقباط وعن الإسلام والعروبة وعن الجماعة الدّينية والجماعة الوطنيّة وعن «الحوار الإسلامي العلماني» وضرورة رأب الصّدع بين التّيارين عن طريق الحوار. 
مثل هذا الحوار سيؤدي لما سمّاه البشري «التّيار الرّئيسي للأمّة» الذي يجمع تيارات أو قوى الأمّة ويحافظ على وحدتها رغم تنوعها من أجل إنجاز الهدف الرّئيسي للأمّة وهو الوصول لمرحلة «التّجدّد الحضاري». ويرى البشري أنّ التّيار الأساسي هو فكرة يستعصي تحقيقها من خلال المبادرات الفرديّة، لكونها تولد من رحم التّفاعلات السّياسيّة والفكريّة، فلا بدّ من وجود «تعدديّة» تتحاور وتتجادل ثمّ تتوّج جدلها بمطلب يكون هو التّيار الأساسي. هذه المفاهيم كانت حاضرة بقوّة في كتابات البشري سواء كانت قانونيّة أو فكريّة أو تاريخيّة ومن بين هذه المؤلفات نذكر:  «الحركة السّياسية في مصر 1945 ـ 1952»، و«الدّيمقراطيّة ونظام 23 يوليو»، و«المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنيّة»، و«بين الإسلام والعروبة»، و«منهج النّظر في النّظم السّياسيّة المعاصرة لبلدان العالم الإسلامي»، و«الديمقراطية والناصرية»، و«نحو تيار أساسي للأمة» و««التجدّد الحضاري: دراسات في تداخل المفاهيم المعاصرة مع المرجعيّات الموروثة».
تعرّض البشري لهزّات ومراجعات عدّة في أثناء مسيرته التي اتّسمت بالحساسيّة الشّديدة، وبالتّلاحم بين طرفيها، الشّخصي والفكري. وهذه الهزّات النّفسيّة والفكريّة لا تحدث إلاّ لمن يتّسم بالجدّية العالية والصّدق مع النّفس والحساسيّة الشّخصيّة والوطنيّة؛ فقد كان باحثًا دؤوبًا عن الصّواب، ومتنقلًا من صواب إلى صواب آخر أكثر إقناعًا واتساقًا، معتقدا  أنّ رعاية الله وحده هي التي تقود المرء في سبيل ذلك 
ومثلما كان حضوره لافتا في مجالات القانون والفكر والتّأريخ، كانت للبشري مواقف سياسيّة اتسمت بالشّجاعة والهدوء والرّصانة، ما جمع شتات الفرقاء من مختلف المشارب السّياسيّة. حيث استشرف البشري، اقتراب الثّورة، وحجم السّخط والغضب الكامن في نفوس المواطنين، في عهد مبارك، فأصدر في عام 2006 كتابا بعنوان «مصر بين العصيان والتّفكك»، ليجمع بين دفتيه مقالات اعتبر فيها أنّ العصيان المدني فعل إيجابي يلتزم عدم العنف، ويقوم على تصميم المحكومين أن «ينزعوا غطاء الشّرعيّة» عن «حاكم فقد شرعيته فعلا» منذ زمن. ومنذ انطلاق شرارتها الأولى، ساند البشري تحركات الشّباب الغاضبة في ثورة يناير. ثمّ أعلن رفضه بوضوح الانقلاب العسكري الذي قاده السّيسي سنة  2013، وأدان الجرائم المتّرتبة عليه، ومن بينها مذبحة ميدان رابعة في أوت 2013، حيث سجّل البشري شهادة للتّاريخ، في مداخلة هاتفيّة على فضائيّة الجزيرة القطريّة، قائلا: «ما يحدث الآن هو تطور طبيعي للانقلاب العسكري الذي يحكم مصر الآن». وأضاف مؤكّدا: «الصّراع القائم هو بين الانقلاب وقواه الاستبداديّة التي تحكم مصر بغير دستور وبغير إرادة شعبيّة حقيقيّة، وبين القوى المدنيّة، وكلّ يتّخذ أسلوبه في العمل».
توفّي المفكر المصري والمؤرخ والفقيه القانوني المستشار طارق البشري، يوم 26 فيفري 2021، عن عمر ناهز 88 عاماً، متأثراً بفيروس كورنا، ..وهكذا  انتهت حياة رجل عظيم ولكنّ سيرته ومسيرته بقيت فانوسا ينير درب المصلحين..