نقاط على الحروف

بقلم
حبيب مونسي
لغة التّصوّف ولغة الفنّ – من الإشارة إلى العرفان. قراءة في لوحة صلاة العيد لـ «نصر الدّين ديني» 1/2
 كلمة لابد منها:
كتَبْتُ في مقدمة بحث من البحوث عنِ الصّورة، تقديما أعيد فقرة منه في صدر هذا المقال لأبيّن الوجهة التي أسير فيها داخل موضوعي قائلا: «قد يجد الباحث نفسه في كثير من القضايا أمام سبيلين لمعالجة موضوعه: إمّا أن يأخذ بالجاهز المنتهي الذي تقع عليه الأيدي في كلّ كتاب، ومجلة، ومقال، وإمّا أن يقف في الطرف الآخر فلا يأخذ من تلك البحوث إلاّ المعرفة العامة التي تتيح له إلقاء نظرة شاملة على الجهود التي أنفقها الدّارسون في هذا الحقل أو ذاك. ثم يدلي بدلوه فيما أثاروه من أفكار، وما طرحوه من قضايا، وما عرضوه من حلول.. والذي يسلك السبيل الأول ليس له من الجهد إلاّ الجمع والتّصنيف، وربما انتهى إلى شيء من الرّأي أخيرا. غير أنّه الرّأي الذي تشكَّل في إطار معرفة غيرية تلقاها ممّا جَمَع ورتَّب. وأنّ الرّأي الذي يخرج به ليس رأيه أصالة، وإنّما هو من قبيل الخلاصات الجاهزة التي ينتهي إليها كلّ من سلك منهجه. أمّا الثّاني فسبيله المغامرة التي تطوِّحُ به بعيدا عن الطريق المعبَّد المهيَّأ، وتجعل سيره ضربا من الفتح في كلّ خطوة يخطوها. غير أنّ ما يصل إليه لن يكون دائما عين الحق الذي يبحث عنه، بل قد يكون ضربا من التّضليل يضاف إلى ما قيل من قبل في الموضوع، وقد يكون فتحا جديدا ينعطف بالدّرس إلى وجهات جديدة ما كان للبحث أن يصل إليها لولا المغامرة، والإصغاء إلى نداءات الذّات في تحسُّسها الجمالي لعناصر الموضوع». (1)
اللّوحة الفنّية تروي موضوعا:
كنت قد أحسست بكثير من النَّشوة وأنا أحمل في نفسي حقيقة النّور والظّلال وتجانسهما في العمل الفنّي.. كنت أجد ذلك التّناغم الكبير بين تجاورهما من غير تنافر ولا تدابر، بل كنت أرى حضورهما متجاورين متآلفين من ضرورات الفنّ الرّاقي والفهم السّليم... فمن:«من دأب الرّوائع الفنية أن تروي قصصا. أي أنّها توضح أفكارا يمكن فهمها منفصلة عن أعمق مقاصد الفنّان. ومن النّاحية الأخرى، فإنّ للرّوائع دائما جمالا مجرّدا يمكن تذوُّقه منفصلا عن موضوعها الفعلي. ولذا فإنّ البعض يرى أنّ الفنّ توضيح، والبعض يرى أنّه تجريد. وكلتا الجماعتين لا ترى إلا السّطوح. صحيح أنّ على المرء أن يبدأ بالسّطوح، بمحاسن الرّائعة التي على السّطح، وكذلك معانيها التي على السّطح. غير أنّ هذه الصّفات السّطحية من قصّة، وإنشاء. ليست إلاّ المحتوى الظاهر في الصّورة الرائعة. ففي دخيلتها يوجد المحتوى الكامن في النّقطة التي يندمج عندها التّوضيح والتجريد»(2). كانت هذه كلمات «ألكسندر إليوت» متحدثا عن فن الرسم، مجتهدا في أن يبين لقارئه حقيقة الفن التي يجب إدراكها أولا قبل الاقتراب من روائعه، محذرا إياه ألاّ يكتفي بالنّظر إلى السّطح الفاتن، مهيبا به أن يغوص في لجة الألوان والأشكال ليبلغ مدى تتكشّف فيه حقائق أخرى أشدّ سطوعا ودلالة.
 أعدت قراءتها ببطء، وكأنّ الكلمات المألوفة لدي، تأخذ أبعادا جديدة، لتحدِّد مكان الاندماج بين الوضوح والتجريد لتفجير الدّلالة... نعم إنّه صنيع من قبيل الانصهار النّووي، كما يفسّره علماء الفيزياء في الذّرة. فالدلالة تحتاج إلى هذه النّقطة، وهذه اللّحظة، وهذا القدر منهما، في وجدان القارئ ليتمّ الانصهار الكليّ بين واضح ومجرد، فيتولد الإبداع باندماجهما.
لوحة صلاة العيد: 
حينما نتأمّل لوحه «نصر الدّين دينيه» تلك اللّوحة التي نرى فيها جمْعًا من المصلّين وقد جلسوا جلسة التّشهد في صلاة العيد. كانوا قد خرجوا من المدينة إلى بطحاء من الأرض. خاشعة رؤوسهم، مطرقة أرضا، وقد امتدّت أصابعهم للتّشهد. حينما ننظر إلى ذلك الوقار الذي يتجلّى من هيئةٍ يُخيِّم عليها السُّكون بعد أن هدأت الصَّلاة في وضعيتها الأخيرة تلك، وحينما ننظر الى الإمام في قعدته، ونرى سيلا من النّور يعمّم الرؤوس، قد جعله الفنّان ينصبُّ على هذا المنظر المهيب، وقد همدت المدينة في الخلف وراءهم. وكأنّ المكان قد سكن، وأنّ الزّمان تثبَّت في هذه اللّحظة. وأنّ الرّاهن فضاء تعبّدٍ تتراجع فيه كلّ عوارض الدّنيا وتختفي. حينها نُدرك أنّنا أمام «نصّ» فنيّ من نصوص التّصوف، أراد الفنّان لمعانيه أن تتجلّى من خلال اللّون، والضّوء، والظّلال، وتتبلورُ كذلك من خلال الأشكال والهيئات.
هذه اللّوحة، وإن كانت ذات طابع «تسجيلي» كما يتبادر لأول وهلة في عين الذي لا يبصر إلاّ مظهرها الخارجي، فإنّها تتجاوز تلك العتبة لتذهب فيها الأشكال والألوان الى اقتناص لحظة من حياة النّاس، لحظة من صلاتهم، لحظة من تعبُّدهم. فتجعل في عين المتلقِّي شخوص ذلك الارتفاع الشّاهق الذي ينظر من خلاله الى تلك اللّوحة. فهو لا يراها اعتبارها تصويرا، وإنَّما سيتأملها على أنّها لحظة صلة بين الأرض والسّماء. لحظة خشوع الأبصار وهي مطرقة تنظر الى الأرض فلا تراها، ولحظة يقول «أدونيس»: «سواء بالكلمة، أو بالخط أو باللّون، لا يُعْنَي بما يراه إلاّ بوصفه «عتبة» لما لا يراهُ. كأنّ الصّورة ستار علينا أن نخترقه لنرى حقّا ما وراءها. وبما أنّ الكون يتحوَّل أبداً، فإنّ ظاهره في زوال دائم. وليست مهمَّة المبدع أن «يصوِّر» هذا «الزَّائل»: أن يضع عليه الأقنعة والأصباغ بالصّور، أن «يُثبِّتَه»، إذ إنّه، في ذلك، لا يفعل أكثر من أنَّه يوضِّح ما ليس في حاجة إلى الإيضاح. إنّ مهمَّتَه، على العكس، أن يقيم بينه وبين هذا «الزَّائل» خطوطاً وأشكالا تتيح له أن يرى الحركة العميقة وراءه. إنّ مهمَّته أن يضع المُشَاهد، دائما، وجها لوجه مع هذه اللاّنهاية - عبر أشكاله وإيقاعاته: يضعه أمام بعيدٍ مجهول، يظل دائما، مهما قَرُبَ، مجهولا وبعيداً». إشراق قلوبها وانفتاحها على خالقها في ملكوته. 
قال الطوسيّ في كتاب «اللّمع» في حديثه عن الصّلاة، بعدما عرَّف أنّها عماد الدّين، وقرّة عين العارفين، وزينة الصِّدِّيقين، وتاج المقربين. أنّ:«مقام الصّلاة مقام الوصلة، والدنوِّ، والهيبة، والخشوع، والخشية، والتّعظيم، والوقار، والمشاهدة، والمراقبة والأسرار، والمناجاة مع الله تعالى، والوقوف بين يديه تعالى، والإقبال عليه تعالى، والإعراض عمّا سواه»(3). وكأنّ الصوفي يدرك بحسّه الباطني أنّه أمام ظاهرة تتجاوز الحسّ والحركة، وأنّه في ذلك السّكون إنّما هو في مقام مختلف. وأنّ هذا المقام لا يواتيه من النّعوت والصّفات إلاّ ما حشد «الطوسي» في هذه العبارة من نعوت، تتّصل بأحوال المصلِّي وهو ماثل بين يدي ربّه. لكنّنا حينما نبحث عنها في لغة فنّ الرّسم، نجدها كلّها مجسّدة في الهيئات والأحوال التي نراها ماثلة أمامنا، من خلال الألوان والظّلال، ومن خلال ما يمليه المشهد في كلّية تعبيرا عما يريد الفنّان تجسيده من خلال لوحته. إذ المتأمل في اللّوحة لا ينظر إليها إلاّ بمقدار ما يسمح له النّظر بالغوص في سماكتها، وبلوغ أقاصيها. وكأنّه يتخطى «عتبة» الإطار ليخطو خطوات في أرض مشهدها. وهو في هذا الفعل الجريء الذي سيقوده إلى عالم خيالي، يُعيد تركيب الذّاكرة وتأثيثها، وتنظيم الأشياء وفق نسق دلالي جديد، خلاف ذلك الذي يمرّ على لوحات المعرض مزهوّاً بعوده، ليقال عنه أنّه يزور المعارض الفنِّية. لذلك ترى هذا الأخير، كما وصفه «ألكسندر إليوت» في «آفاق الفنّ»: «يخطو من صورة إلى صورة بخفة الفلامنكو ورزانته، وكثيرا ما ينحني ليدقّق النّظر، مبتسما، في البطاقات الملصقة بالصّور. ولعلّه يعقد ذراعيه، ويرفع رأسه عاليا كأنّما هو يتذوَّق شيئا حلوا... وإذا كان يستمد لذّة حقيقية ممّا يرى، فلذّته ليست مستمدَّة من الفنّ، بل ممّا يعرفه عن الموضوع. إنّه كالنّباتي الذي يصف ثمار الغابة المحرّمة. وبين الحين والحين يذوق إحداها، مجرد قضمة طفيفة، ليتأكد من أنّه لم يخطئ اسمها. ولكن لن يخطر بباله أبدا أن يلتهم واحدة منها. فالفنّ له، كما للذين لا يتذوقونه، ما زال ثمارا محرمة»(4). 
 إنّها حال كثيرين ممن يزورون المعارض، ويظنّون أنّ الفنّ للمشاهدة وحسب، وأن ليس عليهم تخطي «عتبةّ الإطار ليصيروا بفعل سحري جزءا من عناصر المشهد، فيتبادلوا مع عناصره الأخرى التَّأثُر والتّأثير. إذا لا تكون المعاني التي تحدَّث عنها «الطّوسي» في الصلاة شاخصة إلاّ من خلال التّجول بين المصلِّين لتلمُّس ذلك الصّمت الشّفيف الذي يخيِّم على رؤوسهم، وإدراك تلك الهيئات التي استقرت عليها أجسادُهم، وقد امتدت أصابعهم للتّشهد. فالماثل أمام العين مُغرِّر بالمعنى، يحول دونه. والمُعوَّل في الحضور هو التّماهي مع كلّ لون وظلّ لبلوغ ما سماه «الطوسي» بـ «المشاهدة» في لفظ، وما نعته بـ «الدّنو» في آخر.
من ثمّ كان «المشهد» في اللّوحة، ليس هو اللّوحة أصالة، وإنّما المشهد هو تلك «الحركة» التي تتكفَّل بها العناصر مجتمعة في تجاورها وتنافرها، في قربها وبعدها في تشابُهها واختلافها. وكأنّها من خلال هذه الحركة تريد أن ترفع للمتجوِّل بينها من المعاني ما لا تدركُه العين خارج الإطار، ولا تسمعُه الأذن خارج المشهد. فاللّوحة على الجدار «شيء» معلق، صامت، تتوالى عليه الأزمان والحقب دون حركة أو حياة. ولكنه سريعا ما يضجّ بالحياة إذا تخطىّ عتبة إطارها مُجْتَرِئٌ مغامرٌ يريد أن ينتقل إلى لحظتها التي اقتنصتها في زمن محدَّد وأخرجتها من الدَّفْقِ الحياتي إلى عالم الفنّ. لأنّها تعيش على هامش عالم النّاس، وترتفع عليه بلحظتها تلك. 
والصّلاة التي جسدها «نصر الدّين ديني» تمثّل ذلك «الهامشّ الذي اهتدى إليه الرّسام، وحاول جاهدا أن يبقيه حيًّا في لوحته. لكنّه يحتاج -كما تحتاج الفنون كلُّها- إلى من يعيد النَّفخ على جمْرَته فيوقدها من جديد لتتوهّج لحظات، ثم تعود إلى ما كانت عليه من السّكون. إنّها الحقيقة التي أكّد عليها «ألكسندر إليوت» في حديثه عن حقيقة الفنّ قائلا بلغته التّشبيهية الواسعة: «الفنّ في أثناء (أثناء النّظر) يبدو عالما منفصلا، له حكومته، وشرائعه، وأسراره الخاصّة به، حتى ليخيَّل إلينا أنّه ظلام يصعب النّفاذ فيه. ولكنّ السّر الحقيقي هو أن لا أسرار في الفنّ. أو قل أنّ ما هنالك إلاّ أسرار الحياة نفسها، أسرارها المركزية السّرمدية. وكلّ رائعة من روائع الفنّ إنّما تدور حول هذه الأسرار، و كذا كلّ فلسفة حقيقية للفنّ .لئن يكن معظم النّاس اليوم عميانا إزاء الفنّ، فذلك لانّهم تعلّموا النّظر إليه بعيدا عن قرينته. وقرينة الفنّ الصّحيحة هي الحياة الإنسانية نفسها. إنّه الكفاح من أجل خلق إنسان أوفر حكمة وسعادة.  فإذا نظرنا إلى الفنّ بصحبة هذه القرينة، كان الفنّ نورا لا ظلاما»(5). أليس ذلك هو عين ما تحدَّث عنه «الطوسي» في الصّلاة؟ إنّنا ننظر إليها، أو نمارسها بعيدا عن قرينتها. وقرائنها التي عدّدها في القول السّابق تكفي لأن ترفع عنها الحركة التي يألفها الجسد إلى حركة أخرى يتوق إليها القلب وتبتغيها الجوارح.
وصف الباحث «محمد بن بريكة» رحمه الله، في كتابه «التّصوف الإسلامي. من الرّمز إلى العرفان» طبيعة هذه القرينة ناقلا عن «سيد حسين نصر»: «أنّ البقاء في نطاق الظاهر وحده، إنّما هو خيانة لطبيعة الإنسان ذاته. لأنّ مبرِّر وجوده إنّما هو المفرُّ من الظاهر إلى الباطن، من محيط دائرة الوجود إلى مركزها الذي لا يرتقي إليه الإدراك. وهذا السّفر من المبنى إلى المعنى، هو التّصوف. لأنّ النّفس الإنسانية ذات صلة وثيقة بالنّظام الكوني، وتطهيرها هو رحيلٌ بها إلى ما وراء هذا النّظام(6). كذلك يفعل الفنّ فعلته العجيبة حينما يجعل الخطوة الأولى التي تتخطى الإطار إلى أرض المشهد، هي أول خطوات الرّحلة التي تبتعد تدريجيا عن عالم الحسّ والمشاهدة إلى التّولُّج عميقا في عالم الحضور والتّرقي. لإن الفنّ يتوسَّل ذلك بما أوتي من قدرة على التّمثيل، واللّعب بالألوان، والتّجاذب بين الضّوء والظّلال. لذلك كانت وقفات المتأمِّل لا تكتمل عُدَّتها التي تسمح له بالسّير في المشهد إلاّ من خلال التَّشبع بها أولا، والامتلاء كلِّية بأجوائها، ومن ثمّ يبدأ السّير الصّعب في أرجائها. 
ومن العجيب أن نجد في كلام المتصوّفة المتقدِّم لَحْنًا إلى ما نعتقده الآن، بل سَبْقٌ يفتح أمامنا إمكان استثمار هذه الأبعاد التي بدأت تتكشّف أمامنا كلّما أوغلنا في عمق المشهد، متحلِّلين من ثقل الواقع الذي نكابده، لنمضي بين الإشارات والرموز إلى منتهى العرفان الذي يبشِّر به الفنّ في تخومه القصيّة. فقد نُقل عن أبي يَعْزَىّ المتوفى 572 ه بفاس. قوله: «ليس التّصوف مسألة كلام، فإنّ اللّغة فيه أولى أن تكون إشارات، والإشارات فيه أنفع من كلّ كلام، وخاصة إذا كانت تعبيرا عن مشاهدات»(7). فتستوقفنا لفظة «أولى» التي تعطي للإشارة في هذا الفن مكانة السّبق والهيمنة. فتغدو الإشارة في عالم التّصوف أجدى دلالة من اللّغة، وآكد في تبليغ المراد. ونحن نشهد أنّ الفنّ يتجاوز اللّغة إلى محاولات بناء هذه الإشارة التي لا تشيخ مع الزّمن، وإنّما يتجدّد توهُّجُها مع كلّ اقتراب ودنوّ. 
ومن ثمّ كان قوله «والإشارات أنفع من الكلام» قولا قويا في هذا الباب لأنّه يفرض الصّمت على متأمِّل اللّوحة. صمتا يمنع عنه الثّرثرة التي يُمْكِن أن تحول بينه وبين أسرار التّولُّج في أعماق المشهد. تلك هي حال الوشوشة في قاعات العرض، حيث لا جدال ولا صخب، يتواصى الحاضرون بالتزام الصّمت والاستسلام للإشارة. فالصّوفي الذي أدرك ذلك، نبذ الكلام من دهرٍ، وأدار ظهره لاجتماع النّاس، وانفرد بحثا عن منافذ في الصّمت يسلك من خلالها إلى مسالك العرفان. ولم يقل الصّوفي في نهاية حديثه أنّ الإشارات تعبِّر عن مناظر، وإنّما هي مُعبِّرة عن «مشاهدات» وهي التي لا تتحقّق في قلب المتصوِّف إلاّ حينما تُزاح الحُجب، وتختفي الحواجز، وتُلْقِي الأشياء بما كان يُكبِّلها من أثقال. إنّه عالم التّخفُّف من الأوزار والقيود. 
فإذا فهمنا عنه ذلك كلِّه، تخطىّ بنا «عتبة» أخرى من عتبات الكشف، التي يحسُن بنا اليوم نقلها سريعا إلى عالم الفنّ لنُفيد من خبرتها، ونجني من فهمها ثمارا ما كان لنا أن نجنيها لولا هذا الفتح في مجال المقامات والأحوال. إذ صوفية الفنّان الرّسام لا تنتهي عند عتبة ألوانه وأشكاله، وعمق مشاهده، وإنّما لها فعل العدوى الذي ينتقل سريعا إلى الواقف أمام صنيعه متأمِّلا، مستسلما، منقادا. فهو في مقام «الولي» الذي أولى أمره للعالم الذي يتشكّل أمامه السّاعة، فقال: «والولي لا يكون وليا حتى يكون له قدم، ومقام، وحال، ومنازلة، وسرّ. والقدم هو ما يسلُكه من الطريق إلى الحق، والمقام ما تقره عليه سابقته في العلم، والحال ما بعثه من فوائد الأصول وليس نتائج السّلوك، والمنازلة ما خُصَّ به من تُحَف الحضور بنعت المشاهدة، والسرّ ما أودعه من اللطائف عند هجوم الجمع، ومحق السِّوی، وتلاشي الذات»(8).  
ويكفينا أن نقوم بتحوير للعبارة، حتى نتمكَّن من إماطة اللِّثام عن منهج التّلقِّي الذي يريده الصّوفي إزاء المشاهدة التي لا يمكنها أن تتمَّ على وجه الصّواب إلاّ من خلاله. فالواقف أمام اللّوحة قد أولى أمره إلى سحرها، واكتنفته إشاراتها، واشبعته رموزها، وهو الآن يملك من «الخطوات المنهجية» ما يوصله إلى المشاهدة بعد تلاشي الذّات الواقفة. إنّ له «قدم» إشارة إلى السّير في طريق الدّلالات والإشارات. إذ لابد للمتأمِّل من حركة داخلية ليعبر إطار اللّوحة ويتخطى حدَّ المقاسات والأحجام، ويتجاوز العالم الذي يعرفه إلى عالم تشَكَّل من إماءات يستعملها اللّون ليضيء بها عناصر مشهده. ويسميّ الصّوفي منتهى ما يجده السّاري في هذا المشهد «حقّا» ونراه السّاعة هو المقصد الذي تَقَصّده الفنّان في أثره، وتركه مفتوحا على الاستزادة والرِّيادة. بيد أنّ هذا اللّون من السير لا يكون ضربا في الأرض من غير هدى يهتدي به السّاري. وإنّما هو سير عارفٍ بطبيعة الأرض التي يطرقها، مدرك لحقيقة سهلها ونَجْدِها، برِّها وبحرها، حرِّها وبردها. ذلك ما يشكّل مقامه، ويفصح عنه تذوُّقَه، وإقدامه.
 أمّا الحال، فإذا كان عند الصّوفي ما يتجلى في مظهره، فيغترُّ به النّاس ظلما، فإنّه في حال المتلقِّي هو تلك النّشوة التي تعتريه عند كلّ اكتشاف، وذلك السّرور الذي يرافقه عند كلّ كشف لفائدة من فوائد الأصول التي هي المقدمات، وفوائد الوصل التي هي من سعادة الخاتمات. أمّا المنازلة فهي الاستقرار عند المنتهى، وقد حطّ الرّحال عند المعنى الذي أُشْبِع الذات إشباعا لم تعد معه في حاجة إلى الغير والسِّوى. لذلك يسهل علينا ونحن ننظر إليه بعين الفنّ أن نفهم عنه منهج القرب، حينما يشرحه لنا على هذا النّحو مفجرا في أعماقنا تلاقي ينابيع الدِّراية على نحو عجيب. فيقول: «وتبرير ذلك أن حفظ حكم المقام يفيد الفقه في الطريق، ويفيد الاطلاع على خبايا معانيه، وحفظ حكم الحال يفيد بسطة التّصريف لله وبالله، وحفظ حكم المنازلة يؤيد الفتح اللَّدُني، وحفظ حكم السّر يوسّع قدرة الاطلاع على مكامن المكنونات، وحفظ حكم الوقت يورث المراقبة، وحفظ الأنفاس يوصل إلى مقام الغيبة في الحضور»(9).
الهوامش
(1) حبيب مونسي. الحياد والتعبير والتكييف والتمرد. نحو طريقة علمية لقراءة الصورة. مجلة قراءات للبحوث والدراسات الأدبية والنقدية واللغوية. ع: 02. ديسمبر 2011. جامعة معسكر.
(2) ألكسندر إليوت. آفاق الفن. ص: 31. (ت) إبراهيم جبرا. المؤسسة العربية للدراسات والنشر. ط 3، 1982. بيروت.
(3) الطوسي. اللمع، (ت): عبد الحليم محمود، وطه عبد الباقي سرور، مكتبة الثقافة الدّينية، مصر، 1423هـ/2002م،ص: 203.
(4) ألكسندر إليوت. آفاق الفن. مصدر سابق، ص: 09-10. 
(5) ألكسندر إليوت. آفاق الفن. مصدر سابق، ص: 12-13. 
(6) محمد بن بريكة. التصوف الإسلامي. من الرمز إلى العرفان. الكتاب الأول. ص: 54. دار المتون. ط01. 2006. الجزائر.
(7)عبد المنعم الحنفي. الموسوعة الصوفية. أعلام التصوف والمنكرين عليه والطرق الصوفية. ص: 418. ط 01. دار الرشاد. 1992. القاهرة.
(8)عبد المنعم الحنفي. نفسه. ص: 418.
(9)عبد المنعم الحنفي. نفسه. ص: 418.