قبسات من الرسول

بقلم
الهادي بريك
من هو محمّد صلّى الله عليه وسلّم؟ ( قراءة في خلقه وخصائصه وسيرته ) الحلقة العاشرة : من خصوصياته
 حبا اللّه سبحانه أنبياءه ورسله ببعض الخصوصيّات لتكون تكريما لهم وتشريفا حينا أو لتكون دليلا آخر على نبوّتهم في حين آخر، ولأغراض أخرى ليس هنا مجال ذكرها. أكثر تلك الخصوصيّات ليست بدنيّة خَلْقيّة (بفتح الخاء وتسكين اللاّم). ذلك أنّ النّبيّ بصفة عامّة هو بشر ككلّ بشر من النّاحية الخَلْقيّة البدنيّة. ولكنّه ليس كذلك من النّاحية الخُلُقيّة القيميّة (برفع الخاء واللاّم معا) وبذا إصطفاه اللّه سبحانه ليكون القدوة والأسوة. حتّى في حالة عيسى عليه السّلام، فإنّه من النّاحية الخَلْقيّة البدنيّة بشر ككلّ بشر لا يختلف عن أيّ بشر في شيء مطلقا. عدا أنّه من أنثى لم يمسسها بشر. كلّ ذلك حتّى لا يظنّ النّاس أنّ الخصوصيّة البدنيّة مظنّة إلهيّة ولو نسبيّة أو جزئيّة، فيعبد من دون اللّه وهو الذي جاء يدعو إلى عبادة اللّه وحده سبحانه. ولكنّ جزءا من الأمّة الإسلاميّة نفسها انحرف عن هذا سيّما في أزمنة التّقهقر. إذ غدا التّغنّي بخلق محمّد ﷺ هو الأصل سيّما في مناسبات ذكرى ميلاده ﷺ، وأهمل التغنّي بخُلُقِه الذي به تميّز عن النّاس وكان به نبراسا وسراجا منيرا. وظللنا كذلك وكأنّ القرآن الكريم لم يعالج قضيّة بشريّته الآدميّة ولو مرّة واحدة في الذّكر الحكيم وهو قد أطنب في ذلك كلّ الإطناب أن يتورّط المسلمون فيما تورّط فيه النّصارى من بني إسرائيل إذ عبدوا عيسى عليه السّلام رغم أنّهم رأوا بأمّ أعينهم كيف أنّه بشر ككلّ بشر من النّاحية الخَلْقيّة البدنيّة. وتلك هي آفة من آفات التّديّن
من خصوصيات النّبيّ الخاتم ﷺ
ذكر منها في القرآن الكريم أنّه خاتم النّبيين في سورة الأحزاب المدنية. ولكن لشقاوة الإنسان شهدت الأمّة الإسلاميّة نفسها ميلاد أدعياء كثيرين يدّعون النّبوّة سواء في عهده ﷺ أو بعد ذلك. ومن أولئك في زماننا الفرقة القاديانيّة التي استبدلت إسمها بالأحمديّة، وأسّ دعوتها أنّ زعيمها نبيّ مرسل. ولكن سبقت كلمة اللّه سبحانه في عصمة هذه الأمّة عقديّا. فكشف اللّه أمر تلك الفرقة سيّما أنّها لم تكن ذات يوم في شبه القارّة الهنديّة سوى حارسا للإحتلال البريطانيّ. 
ومن خصوصياته ﷺ المذكورة في القرآن الكريم أنّه رسول إلى النّاس كافّة في كلّ زمان ومكان. وكان النّبيّ قبله يبعث إلى قومه خاصّة. وبذلك هيمن كتابه على الكتب السّالفة ونسخ دينه الدّين السّالف وقال سبحانه: ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ٱلْإِسْلَٰمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ﴾(1). 
ومن تلك الخصوصيات المذكورة في القرآن الكريم نفسه كذلك أنّه رأى جبريل عليه السّلام على صورته الحقيقية في قوله: ﴿وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ﴾(2). 
ومن ذلك كذلك أنّ الله سبحانه عصمه أن يقتله النّاس كما قتل بنو إسرائيل كثيرا من أنبيائهم من قبل ذلك حتّى قال سبحانه: ﴿إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ﴾(3). ورغم ذلك تعرّض لمحاولات إغتيال، مرّة من بني النّضير ومرّة من يهودية خيبر وغير ذلك. 
ومن ذلك كذلك أنّ الله سبحانه أكرمه ـ بل أكرم به النّاس ـ أنّه لا يعذب الصّادّين عن صراطه مادام هو عليه السّلام فيهم. ولذلك قال سبحانه: ﴿وَمَا كَانَ ٱللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾(4). ولذلك لم يعذّب سبحانه طغاة مكّة حتّى هاجر عنهم عليه السّلام فكان أوّل عذاب في بدر. 
ومن تلك الخصوصيات ما هو مرتبط بالحالة الشّخصية للنّبيّ وذلك من مثل أن تحلّ له المرأة زوجا بدون مهر لقوله سبحانه: ﴿وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾(5). ولكنّه لعظم فضله ـ ﷺ ـ وإيثاره دار الحيوان لم يفعل ذلك. ومن ذلك كذلك أنّه أحلّ له نكاح أكثر من أربع. ثمّ آل الأمر إلى سدّ ذلك بقوله سبحانه :﴿لَّا يَحِلُّ لَكَ ٱلنِّسَآءُ مِن بَعْدُ﴾(6). 
ومن ذلك كذلك تشريفا له وتكريما تحريم أزواجه على غيره لقوله سبحانه: ﴿وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدهِ أَبَدًا﴾(7). بل خلع عليهنّ ـ عليهنّ الرّضوان ـ جلباب الأمومة الأنعم فقال سبحانه: ﴿وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ﴾(8) كما أفرده هو ﷺ بالصّلاة والسّلام ذكرا، وأمر بذلك أمرا. وذلك في قوله سبحانه: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾(9). ومن ذلك كذلك فرض خمس الثّروة له لقوله سبحانه ﴿فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾(10) وذلك في مقابل منع الصّدقة عنه وعن آله والزّكاة والميراث. ولكنّه ـ مرّة أخرى لعظم فضله ﷺ ـ ظلّ طاويا يربط الحجر على بطنه من شدّة الجوع. ومات ﷺ ودرعه التي بها يذود عن نفسه مرهونة عند يهوديّ. ومن ذلك أنّه أكرم بالكوثر يوم القيامة والحوض والرّضى. وأنّه رسول الإنس والجنّة سواء بسواء كما ورد في سورتي الجنّ والأحقاف المكّيتين. وأنّ الله سبحانه أكرمه بغفران ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر
خصوصيّات أخرى
بعض الخصوصيّات يشترك فيها مع النّبيين عليهم السّلام جميعا وبعضها يختصّ بها دون غيره. ومنها يختصّ بها عنهم عليهم السّلام. وبعضها يختصّ بها عن بقية البشر. من ذلك أنّه لا يأكل الصّدقة ولا يأخذ الزّكاة ولا يرث ولا يورث أن تكون يده السّفلى وقد جاء باليد العليا هداية بإذن اللّه للنّاس إلى ربّهم الحقّ. ومن ذلك إكتمال الخلقة والسّلامة من العيوب البدنيّة أن يسخر منه السّاخرون فيكون ذلك ذريعة إلى عدم الإيمان به. أمّا الخصوصية الذكريّة ـ أنّهم ذكور ـ فهي خصوصيّة تقتضيها المهمّة العظمى التي كلّفوا بها وهي خوص معركة مع تقاليد النّاس وعاداتهم وأعرافهم السّيئة البالية وتعرّضهم ـ عدا الملوك منهم وهم قليل ـ إلى ما يتعرّض له كلّ من يهجم على النّاس في معبوداتهم فيسفّهها. وهذا لا تطيقه المرأة. وليس ذلك ـ كما يهرف الحمقى ـ دونيّة للمرأة. إنّما تكريم لها. 
ومن خصوصيّاته الدّينية أنّ اللّه جعل له الأرض مسجدا وطهورا مدّا للطّبيعة السّمحة لهذا الدّين ويسرا فيه. وأنّه ﷺ نصر بالرّعب مسيرة شهر، ليس لفظاظة فيه أو غلظة أو تنكيل، إذ هو رحمة للعالمين. ولكن لأنّ عقائد الكفر دوما خاوية الأفئدة. ومن ذلك أنّه أحلّت له الغنائم. وهذه خاصّة به دون سائر من جاء قبله من النّبيين. وهو من مقتضيات ختم الرّسالة وإكتمال الشّريعة. وأنّ النّبيّ ـ كلّ نبيّ ـ يدفن حيث يموت. عدا خصوصيّة عيسى عليه السّلام الذي توفّاه اللّه ثمّ رفعه إليه سبحانه. وأنّ الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء عليهم السّلام جميعا تكريما لهم. وأنّهم يخيّرون عند الموت لعلّهم يختارون البقاء. ولكنّهم إختاروا جميعا عليهم السّلام اللّحاق بالرّفيق الأعلى لفرط فقههم أنّ الآخرة هي الحيوان. وأنّه ما من نبيّ إلاّ وقد رعى الغنم ليتعلّم الرّفق والحلم ولتكون له فرصة يومية في التفكّر والتدبّر في ملكوت السّموات والأرض بعيدا عن الضّجيج والضّوضاء ولغو الحضر ولتكون لهم فرصة كذلك للكرع من أنهال خلق التّواضع ونبذ الكبر. ومن ذلك أنّه كان ـ كغيره من الرّسل عليهم السّلام جميعا ـ مؤيّدا بمعجزات. عدا أنّ خصوصيته هي أنّ معجزته التي هي مدار الكفر والإيمان هي معجزة فكرية معنويّة. وليست معجزة مادّية، وهي القرآن الكريم. وهذا كذلك من فضله وتكريمه وإيذانا بختم الرّسالة وإعلاء قيمة العقل الإنسانيّ المهتدي بالوحي الكريم الصّحيح. ولكنّ المسلمين في جزء كبير منهم جنحوا مرتدّين إلى نشدان المعجزات المادّية التي تظلّ لها الأعناق خاضعة. وهي علّة أخرى أصابت الأمّة وعلى الدّعاة معالجتها. 
ومن الخصوصيات كذلك أنّ لكلّ رسول دعوة مستجابة. عدا أنّه ﷺ إحتفظ بهذه الهدية العظمى لتكون له يوم القيامة شفاعة منه في أمّته سيما فيمن مات وهو مثقل بالكبائر. وليس ذلك بعزيز إذ هو ﷺ رحمة للعالمين يبخع نفسه بخعا أن يعرض النّاس عن الحقّ المبين. 
ومن خصوصياته أنّه يصل صومه ليله بنهاره. ولكنّ الله سبحانه يطعمه ويسقيه. وبذلك نهى النّاس عن ذلك لأنّها خصوصيّة له. وأنّه أوّل من تنشقّ عنه الأرض يوم القيامة. وأوّل من يدخل الجنّة. وأنّه أكرم بالوسيلة والفضيلة والمقام المحمود الذي به لواء الحمد الأعظم وبه الشّفاعة العظمى يوم يقال له: «يا محمّد سل تعط وأدع تجب». فلا يزيد على قوله : «اللهمّ أمّتي أمّتي». وأنّه ﷺ خيار من خيار. فهو أفضل مخلوق في عالم البشر. ولا مجال للمقارنة مع غير عالم البشر. لأنّ المقارنة بين جنسين مختلفين مظنّة طيش في العقل. وأنّه ﷺ رحمة مهداة كما أخبر عن نفسه. و من ذلك أنّ رؤيا الأنبياء حقّ كما ذكر اللّه ذلك في شأن إبراهيم عليه السّلام إذ رأى أنّه يذبح إبنه إسماعيل بيده ففعل لولا أنّ اللّه سبحانه فداه بذبح عظيم. ذلك أنّ قلب النّبي لا ينام إذا نامت عيناه فلا يغشاه شيطان. وخصوصيّة العصمة في الدّين وما يبلّغ النّبيّ عن ربّه سبحانه. وهي خصوصيّة عامّة ليظلّ الدّين الموقوف أبيضَ ناصعا لا يداخله تحريف. وأنّ ذكره يظلّ مرفوعا في الأرض والسّماء سواء ضعفت أمّته أم إنداح صيتها. فلا وجود لشبر في الأرض ولا فجّ إلاّ وفيه ذكر له ولدينه. سواء بالأذان للصّلاة أو لإقامتها. وحتّى حيث لا صلاة فإنّ المسلم يقول : «أشهد ألاّ إله إلاّ الله وأشهد أنّ محمّدا رسول الله». وأنّه نبيّ الفطرة فلا يأمر إلاّ بما يلبّيها بتهذيب وتشذيب وتكريم لا سفاحة فيه ولا شطط. وأنّه ﷺ فرض اللّه له هامشا من التّشريع تبيينا للقرآن الكريم وهذا معلوم عند طلبة العلم سواء قالوا بإستقلال السنّة بالتّشريع أم لا. إستقلالا وظيفيّا أم إستقلالا إنشائيّا. وأنّه نبيّ أمّي كما أخبر عنه سبحانه. ولم تكن أمّيته عدا أمارة على نبوّته وعلامة على رسوليّته. وبمثل ذلك كان بشرا يأكل ويشرب لكي لا يدّعي المبطلون أنّه جاءهم بدين مثاليّ غير مقدور عليه. 
ومن خصوصياته العائلية كذلك أنّه نشأ يتيما وفي سنّ مبكّرة حتّى من الأمّ الرّؤوم الحنون حتّى يتعلّم أقصى درجات الحلم والعطف والرّحمة فيكون لليتامى حضنا دافئا آمنا ولمن في حكمهم من الضّعفة ولتكون حربه ضدّ المترفين وآكلي أموال اليتامى والأرامل ظلما حربا بلا هوادة. وليكون العدل أمّ رسالته. ومن ذلك أنّه علم على السّاعة التي إقتربت لقوله ﷺ : «بعثت أنا والسّاعة كهاتين». وجمع بين وسطاه وسبّابته ﷺ
الهوامش
(1) سورة آل عمران - الآية 85
(2) سورة النجم - الآية 13
(3) سورة الحجر - الآية 95
(4) سورة الأنفال - الآية 33
(5) سورة الأحزاب - الآية 50
(6) سورة الأحزاب - الآية 52
(7) سورة الأحزاب - الآية 53
(8) سورة الأحزاب - الآية 6
(9) سورة الأحزاب - الآية 56
(10) سورة الأنفال - الآية 41