حديث في السياسة

بقلم
محمد أمين هبيري
الدّيمقراطية الفاسدة في محاولة لتشخيص أزمة الدّيمقراطية في السّياسة المعاصرة
 أخذ الاهتمام بموضوع الدّيمقراطيّة منحى مهمّا إثر التّطوّرات السّياسيّة التي شهدها الثّلث الأخير من القرن العشرين والرّبع الأول من القرن الواحد والعشرين، وقد تمثّلت في سقوط الأنظمة السّلطويّة واستبدالها بأخرى ديمقراطيّة. فأصبحت أغلب دول العالم تحكمها نظم سياسيّة ذات طابع ديمقراطي. هذه التّغيّرات لم تستثنِ العالم العربي الذي انتفض بدوره ضدّ الأنظمة الدّيكتاتوريّة القابعة طيلة أربعة عشر قرنا من الزّمن.
تعبّر الدّيمقراطيّة عن مستوى وعي شعب ما في مرحلة تاريخيّة ما، وهذا الوعي الشّعبي إنّما هو نتيجة لعاملين إثنين هما: الفلسفة وصورتها في الزّمن أي التّاريخ. إذ أنّ الكلمة (النّظر) والفعل (العمل) لهما وجود فلسفي يعقبه وجود تاريخي، ذلك أنّ الفلسفة هي العمود الفقري للوجود. فلو تصوّرنا أنّ الوعي الجمعي للمجتمع الإنساني في حقبة زمنيّة معيّنة ليس في المستوى الذي يجعل منه مسؤولا عن نفسه وعن خياراته، فإنّ تلك اللّحظة التّاريخيّة ستنقضي دون أن يستفيد منها، الأمر الذي يؤدّي إلى النّكوص بالمجتمع على أعقاب النّظام السّلطوي.
تكمن أهمّية الموضوع في معرفة الأسباب الجذريّة التي أدّت إلى تأزّم الدّيمقراطيّة (خطابا وممارسة) في ظل انتقال ديمقراطي ناشئ، وذلك من خلال محاولة التّركيز على الأسباب الدّاخليّة التي أدّت بالعامة إلى تخيير النّظام الدّيكتاتوري على النّظام الدّيمقراطي (الجزء الأول) دون السّهو عن النّظر في الأسباب الخارجيّة التي ساهمت في مزيد تعفّن الأجواء الدّيمقراطيّة حتّى في أكبر الدّيمقراطيّات العالميّة (الجزء الثاني)
الجزء الأول: أسباب داخليّة وطنيّة
يمكن للدّيمقراطيّات أن تفشل لأسباب عديدة، إذ ليس هناك سبب محدّد وراء هذا الفشل أو قاعدة عامّة، بل يمكن أن نلحظ بعضا من الأسباب الدّاخليّة الوطنيّة، فمثلا تفشل جميع الدّيمقراطيّات عندما تعجز عن الوفاء بالوعود أو لا توفّر كمّية مرغوبة من الضّروريّات الأساسيّة مثل الطّعام والماء والمأوى والإحساس بالأمن. وعموما يمكن تقسيم هذا الجزء إلى عوامل فرديّة (العنصر الأول) وعوامل مؤسّساتيّة (العنصر الثّاني)
العنصر الأول: عوامل فرديّة
يمكن تقسيم العوامل الفرديّة إلى فرعين؛ غياب المواطنة بالمفهوم العصري وغياب التّكوين السّياسي للقيادة السّياسيّة. 
• غياب المواطنة بالمفهوم العصري
إنّ المتدبّر في المجتمع العربي عامّة والمجتمع التّونسي خاصّة يكتشف في حقيقة الأمر أنّ أغلب أفراد المجتمع لا يفقهون في السّياسة شيئا بل إنّهم لا يفقهون أصلا معنى المواطنة. فترى أحدهم يطالب بالحقّ تلو الحقّ بينما يتناسى أنّ عليه ما عليه من الواجبات، فكيف لمواطن لم يقرأ الفلسفة والتّاريخ وهما الرّكائز الأساسيّة لفهم التّحليل السّياسي أن يناقش تطوّرات الأحداث ويساهم في تحديد مصير انتخابات بأكملها. إنّ الوعي السّياسي للمواطن هو المحرار الرّئيسي الذي يلعب دورا في أحقّية المواطن في المشاركة الفعّالة في الحياة السّياسيّة، أو أن تقتصر مواطنته على المواطنة في معناها السّلبي. ولذلك لابدّ من تكوين المواطن وتأطيره ليطوّر وعيه السّياسي قبل أن يتوجّه لصندوق الاقتراع ويوجّه البلاد إلى الدّمار بسبب اختيار قادة لا يفقهون أسس القيادة.
• غياب التّكوين السّياسي للقيادة السّياسيّة (فساد معاني الإنسانيّة)
لقد ذكر ابن خلدون فساد معاني الإنسانيّة الخمسة في شعوبنا وهي: ذهاب النّشاط وحلول الكسل، ثمّ الكذب والخبث واختلاف الظّاهر عن الباطن، ثمّ المكر والخديعة الغالبان على الجماعة، ثمّ فساد الحميّة والمدافعة، ثمّ صيرورة الأمّة عالة على الغير في الرعاية والحماية. والنتيجة «كسل النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل والارتكاس والرد إلى أسفل سافلين» . 
ومن نتائج فساد معاني الإنسانيّة نجد فساد النّخبة الحاكمة؛ حيث تصبح نخبة الإرادة (السّاسة) خاضعة لإرادة أخرى (مستعمرة) ويصبح دين نخبة القدرة (الاقتصاديّين) هو المادّة (أو المال) وتصبح نخبة العلم (العلماء) لا تتّصف بالحياد والموضوعيّة العلميّة وإنّما بالانحيازيّة للطّرف الأقوى، وتصبح نخبة الذّوق (الفنّ) تعكس الواقع في أقذر صوره وأخيرا تصبح نخبة الوجود بفرعيه الفلسفي والدّيني تعالج القضايا الحارقة بعبثيّة مطلقة. 
العنصر الثّاني: عوامل مؤسّساتيّة
يمكن تقسيم العوامل المؤسّساتيّة إلى فرعين؛ غياب عقد اجتماعي متوافق مع الموروث الثّقافي التّونسي وغياب سرديّة تاريخيّة. 
• غياب عقد اجتماعي متوافق مع الموروث الثّقافي التّونسي
بعد كلّ الصّراعات الثّقافويّة التي حصلت تحت قبّة المجلس التّأسيسي، وبعد ذلك تحت قبّة البرلمان لم تتوفّق النّخبة السّياسيّة في كتابة عقد اجتماعي يراعي قيمة الموروث الثّقافي الغزير الذي يزخر به موروث الشّعب التّونسي، واقتصرت المناقشات على التّجاذبات السّياسيّة وتوزيع المناصب السّياسيّة عبر منطق اقتسام الغنيمة الأمر الذي جعل من عامّة المجتمع التّونسي يقرّ بفساد المنظومة الدّيمقراطيّة وذلك لكونها لم تسعَ إلى تدبير شؤون عامّة الشّعب، الأمر الذي أثار اشمئزاز أطياف واسعة من المجتمع.
• غياب سرديّة تاريخيّة (حلم وطني جامع)
عجز الخيال السّياسي طيلة العشريّة الأخيرة عن إيجاد حلم وطني يجمع عليه المواطنون بمختلف مشاربهم الفكريّة ويعبّرون عنه في عمل فنّي يذكر فيه المنجزات التي صارت بعد الثّورة ويقف على الاخلالات التي لحقت بها فيعالجها ثمّ يعطي رسالة استراتيجيّة مفادها أن يقف الجميع على رؤية مشتركة تنبع من رسالة محدّدة تنبثق منها أهداف عمليّة تعطي للجميع إمكانية الحلم في وطن أجمل يعيش فيه المرء في أمن (بمفهومه العام) وأمان وسلم وسلام، أي مقومات دولة العدل والرّفاه(1).
الجزء الثّاني: أسباب خارجيّة عالميّة
تتعدّد المظاهر التي تشير إلى أنّ الدّيمقراطيّات الغربيّة تشهد أزمة حقيقيّة تهدّد استقرار نظمها السّياسيّة. تمثّلت أهمّ مظاهر هذه الأزمة في تصاعد شعبيّة التّيارات اليمينيّة الشّعبويّة في العديد من الدّول الدّيمقراطية في السّنوات الأخيرة، وانقلاب هذه التّيارات على العديد من ثوابت منظومة الدّيمقراطيّة اللّيبراليّة كما عرفها الغرب. وأسباب تأزّم الدّيمقراطيّة على المستوى الخارجي العالمي كثيرة منها ما هو متعلّق بالعوامل السّياسيّة (العنصر الأول) ومنها ما هو متعلّق بالعوامل الاقتصاديّة (العنصر الثّاني)
العنصر الأول: عوامل سياسيّة
يمكن تقسيم العوامل السّياسيّة إلى فرعين؛ الشّعبويّة وديمقراطيّة التّواصل الاجتماعي.
• الشّعبويّة 
تدخل الشّعبويّة انقساما حادّا داخل المجتمع ما يؤدّي بالضّرورة إلى إضعاف الدّيمقراطيّة التّمثيليّة حدّ الهشاشة، ولا تكتفي بذلك بل تتجاوزه إلى حدّ الإضعاف بالتّعدديّة اللّيبيراليّة، وخاصّة حين يقوم الخطاب الشّعبوي على منطق المؤامرة. وتعدّ الفاشيّة والنّازية التي ظهرت قبيل الحرب العالميّة خير أنموذج لما قد تنجر عن ممارسة الشّعبويّة من كوارث وآفات تضرّ بالبنية الهيكليّة والوظيفيّة للدّولة من جهة وتضرّ بالعلاقات الدّوليّة من جهة أخرى. لا شكّ أنّ أزمات الدّيمقراطيّة، وخاصّة النّاشئة منها، تزداد تعقيدا بسبب صعود التّيارات الشّعبويّة، ولذلك تمثل الشّعبوية ردّة فعل على أوضاع يعمّ فيها الخوف الجماعي، وتتغذّى على كلّ ما هو شعبي في مستواه السّاذج والمبتذل، وهو ما يجعلها وجها لفكر استبدادي.
•  ديمقراطية التّواصل الاجتماعي
وفق دراسة حديثة، إنّ وسائل التّواصل الاجتماعي التي كانت تعرف من قبل بأنّها ديمقراطيّة للغاية، باتت أداة من أدوات السّلطات القمعيّة في بعض البلدان حول العالم، من خلال خدمتها لاحتياجات السّلطويين وترويجها لسياساتهم. حيث لاحظ المراقبون أنّ دولًا مثل الصّين وروسيا نجحت في التّلاعب بهذه المنصّات، وحوّلتها إلى أداة من أدوات تهميش المعارضين المحليّين وزعزعة استقرار الدّيمقراطيات في الخارج. إذ أنّه يمكن للسّلطويّين أن يقوموا بنشر الإشاعات التي تهدف إلى تشويه صورة خصومهم عبر وسائل التّواصل، أو إثارة الذّعر بين الأقليّات في البلاد بهدف منعهم من المطالبة بحقوقهم. وقد أثبتت الانتخابات الأمريكيّة عام 2016 والبرازيليّة عام 2018 أنّ وسائل الإعلام الاجتماعيّة هي أداة مثاليّة لمثل هذا النّشاط. فمن السّهل نشر المعلومات المضلّلة عبر هذه الوسائط، بدلًا من تصحيحها، الأمر الذي يؤدّي إلى إحداث الانقسامات الاجتماعيّة(2).
العنصر الثاني: عوامل اقتصاديّة
يمكن إجمال العوامل الاقتصاديّة في المال السّياسي وما يلعبه من دور سلبي، ففي عالمنا اليوم أصبح المال السّياسي يتحكم بالديمقراطية واختيار الشعوب لحكامها عن طريق الكثير من القوانين التي تنتج تحالفات بين رجال المال ورجال الحكم، بحيث يوصل الأثرياءُ السّياسيّين إلى سدةّ الحكم عن طريق دعمهم السّخي في حملاتهم الانتخابيّة، لكي يشرّعوا لهم قوانين تسهل عليهم التّهرب الضّريبي، وما بين حلف الطّرفين تضيع موارد الدّولة وتُسحق الطّبقات الفقيرة والمتوسّطة التي تأكلها الضّرائب. وتعتبر الانتخابات الأمريكيّة لسنة 2016 وصعود ترومب إلى سدّة الحكم أجلى التمظهرات لخدمة المال في عالم السّياسة ما جعل اليساري الدّيمقراطي «بيرني ساندرز» يصرّح قائلا: إنّ جشع طبقة المليارديرات في عالم الشّركات والأعمال الأمريكي يدمّر هذه البلاد، وسوف نضع لذلك حدّا (3). 
الهوامش
(1)   ابن خلدون، المقدمة، فصل التربية (6.40)
(2) للمزيد يمكنك الإطلاع على الرابط التالي: دراسات-حديثة-وسائل-التواصل-الاجتماعي/https://www.qposts.com
(3) للمزيد يمكنك الإطلاع على الرابط التالي: تقارير/المال-السياسي-في-أمريكا-أن-يزداد-الغني/https://doc.aljazeera.net