في العمق

بقلم
سعيد السلماني
فلسفة العلوم الإنسانية والتأسيس المنهجي البديل لفهم الإنسان (2) المبحث الثاني: الأسس المنهجية للوضع
 نظرا لكون العلوم الإنسانيّة آخر حلقة في دائرة «الوضعيّة»، كانت تبعيّتها الإبستمولوجيّة للعلوم الفيزيائية أمرا مسلما به، ورغم محاولات الإفلات من هذه التبعيّة أكثر من مرّة، إلاّ أنّ العلوم الطبيعيّة والفيزيائيّة ظلّت نموذجاً أعلى يقف أمامها، ولا شكّ أنّ هذه التّبعيّة كانت أكثر صلابة في عصر «دوركايم» والمرحلة الوضعيّة أو العلميّة المتطرّفة. أمّا الآن فقد أصبحت أقلّ حدّة، نظرا لكون التّقليد الأعمى ولّد أبحاثا فجّة ومتعسّفة جدّا في السّابق. وبالتّالي ينبغي على الباحث في العلوم الإنسانيّة أن يعرف كيف يستفيد من مناهج العلوم الطّبيعيّة من دون أن يقلّدها بشكل حرفي استعبادي، أي يستفيد منها بحذر وذكاء ومرونة(1). 
-1 الأسس المنهجيّة في دراسة الظاهرة الانسانيّة
من الواضح إذن، أنّه نظرا لولادتها المتأخّرة، كانت العلوم الإنسانيّة تُدرج ضمن نطاق الفلسفة أو الدّين أكثر من العلم، لهذا كانت أكبر قضيّة شغلت تفكير «دوركايم» واستأثرت به في عديد من مؤلّفاته قضيّة الأخلاق والتّربية، وكيفيّة إخضاعها للدّراسة «الواقعيّة» التي تقوم على أسس منهجيّة واضحة ترقى الى مستوى «الدّقّة العلميّة» بعيدا عن تأمّلات الفلاسفة والمناهج الاستبطانيّة. فما هي إذن الأسس المنهجيّة التي اعتمدت في ميدان العلوم الإنسانيّة؟ وما تأثيرها في بناء «الحقيقةالعلميّة»؟ نجمل هذه الأسس في النّقط الآتية:
أ) اعتبار الحسّ وحده مصدرا لبناء الحقيقة العلميّة في العلوم الإنسانيّة: 
وهذا المنحى واضح من خلال التوجيهات المنهجيّة الدّوركايمة، والمتصفّح لكتابه «قواعد المنهج في علم الاجتماع» يدرك دلالة هذا الأساس، ومعناه اعتبار الحسّ السّلطة المرجعيّة الوحيدة في بناء المنهج العلمي، ونفي كلّ مصدر معرفي خارج هذا الإطار.
ب) اعتبار النموذج الطّبيعي سلطة مرجعيّة للعلوم الإنسانيّة: 
قلنا سابقا بأنّ التّبعيّة الابستيمولوجيّة لنموذج العلوم الطبيعيّة من الأمور المسلّم بها، باعتبارها النّموذج الضّامن لبلوغ نتائج يقينيّة وموضوعيّة، في سعي حثيث نحو تأكيد وحدة المنهج في التّفكير بغضّ النّظر عن الموضوع المدروس. ورغم أهمّية هذا المسعى فإنّ ملاحظات نقديّة كثيرة وجّهت إليه من طرف النّقاد والباحثين في العلوم الإنسانيّة، ففي تعقيب للنّاقدة السّوسيولوجيّة «مادلين غرافيتس» في كتابها: «مناهج العلوم الاجتماعيّة» تقول: «إنّ مطالبة الوضعيّين بالنّظام الأساسي للعلم في العلوم الاجتماعيّة معناه أن نفرض عليها بأن تكون موضوعيّة على نفس نمط العلوم الطّبيعيّة، فقد أجهد «كونت» والوضعيّون أنفسهم للمماثلة بين المجتمع والطّبيعة، وذلك يلزم بأن نتعرف على المجتمع باعتباره خاضعاً للقوانين، ويلزم علماء الاجتماع أن يكشفوا عن هذه القوانين عن طريق ملاحظة حرّة دون استحسان أو استهجان للظّواهر السّياسيّة وأن يروا فيها بصفة أساسيّة – كما هو في العلوم الأخرى – مجرّد موضوع قابل للملاحظة»(2).
ت) إخضاع الظّواهر الإنسانيّة للتّجريب:
وضعت العلوم الإنسانيّة نصب أعينها نموذجا للعلوم الطبيعيّة يلزمها تقليده، وكان هذا النّموذج العلوم الفيزيائيّة التي تعتبر معيار «التّحقّق التّجريبي» المعيار الوحيد في بناء الحقائق العلميّة، وكان الهدف من هذا المسعى واضحا، وهو محاولة تحقيق العلميّة في العلوم الإنسانيّة. لكنّ التّفكير في تحقيق هذا الهدف كان ينبغي أن يأخذ في الاعتبار طبيعة الموضوع. 
وممّا ينبغي أن نشير إليه أيضا هو أنّ «المنهج الوضعي» يهدف بالدّرجة الأولى إلى إقصاء التّجريد والتّأمّل واستبدال ذلك بالملاحظة والتّسجيل الدّقيق للوقائع. ولا شكّ أنّ هذا المسعى في البحث سيقدّم نتائج باهرة على مستوى بناء الحقيقة العلميّة في باب الانسانيّات، لكن «المنهج الوضعي» لا يلجأ الى التّجربة باعتبارها أداة معرفيّة بقدر ما يهدف إلى سدّ الطّريق أمام كلّ ما هو تأمّلي تجريدي. ففي كتابه: «عصر الأيديولوجيّة» يشير «هنري ايكن» الى أنّ تجريبيّة «كونت» وضعيّة، وهو يستعملها بوضوح وصرامة كأداة إيديولوجيّة لتهديم أغاليط التّفكير غير العلمي بأجمعها، وكان يهدف كفيلسوف إلى غرس عقليّة لا تفكّر باصطلاحات غير علميّة، وترفض قضايا اللاّهوت التّقليدي والميتافيزيقي بكلّ بساطة على أساس أنّها غير علميّة(3).
ث) شيئيّة الظّواهر الإنسانيّة:
يكفي الباحث أن يرجع إلى كتاب «قواعد المنهج في علم الاجتماع» ليقف على الثّوابت المنهجيّة التي سطّرها «يميل دوركايم»، وأهمّها: شيئيّة الظّواهر الاجتماعيّة. فهذه الأخيرة مستقلة عن الأفراد وخارجة عن ذواتنا ويجب أن تدرس على أنّها «أشياء».
وفي دفاعه عن هذه الشّيئيّة للظّواهر السّوسيولوجيّة يقول: « فما حقيقة الشّيء في الواقع؟ إنّ الشّيء يقابل الفكرة، بمعنى أنّ معرفتنا له تأتي من الخارج على حين أنّ معرفتنا بالفكرة تأتي من الدّاخل والشّيء هو كلّ ما يصلح أن يكون مادّة للمعرفة... إنّنا لا نقول في الواقع بأنّ الظّواهر الاجتماعيّة أشياء مادّية، ولكن نقول إنّها جديرة بأن توصف بأنّها كالظّاهرة الطّبيعيّة تماماً...ومعنى أن نعتبر الظّواهر الاجتماعيّة على أنّها أشياء هو دراستها بنفس الطّريقة التي تدرس بها الظّواهر الطّبيعيّة: أن تتحرّر من كلّ فكرة سابقة حول هذه الظّواهر، وأن تأتي معرفتنا بها من الخارج عن طريق الملاحظة والمشاهدة، وليس من الدّاخل عن طريق التّأمّل والاستبطان. وليس معنى أنّنا نعالج طائفة خاصّة من الظّواهر على أنّها أشياء هو أنّنا ندخل هذه الظّواهر في طائفة خاصّة من الكائنات الطّبيعيّة، بل معنى ذلك أنّنا نسلك حيالها مسلكا عقليّا خالصا، أي أن نأخذ في دراستها وقد تمسّكنا بهذا المبدأ الآتي: وهو أنّنا نجهل كلّ شيء عن حقيقتها وأنّنا لا نستطيع الكشف عن خواصّها الذّاتيّة وعن الأسباب المجهولة التي تخضع لها عن طريق الملاحظة الدّاخليّة مهما بلغت هذه الطّريقة مبلغا كبيرا من الدّقة»(4) .
يتبين من هذا القول؛ بأنّ هناك توجّها واضحا نحو الهيمنة الوضعيّة في مقابل الهيمنة اللاّهوتيّة. وإلاّ فما معنى تشييء الظّواهر الإنسانيّة؟ وما معنى التّحرّر من كل ّفكرة سابقة؟ أليس جعل الإنسان تابعاً للمادّة في كلّ شؤونه؟ ألم يعد الإنسان أمام هذا الطّرح مجرّد آلة متحرّكة مستهلكة لا تفكّر؟  ألم تسقط «الوضعيّة» في نفس «الأدلوجة»(5) اللاّهوتيّة التي وقفت في وجهها؟ ألم يسقط دعاة «الوضعيّة» في الواحديّة المطلقة عندما جعلوا الطّبيعة/المادّة مرجعاً؟ أليس هذا هجوما على الطبيعة البشريّة عندما يساوي «المنهج الوضعي» بين الظّاهرة الإنسانيّة والشّيء؟ فما هي إذن، مرجعيّة هذه الفلسفة التي تقصي الإله من الكون والحياة؟
-2 مرجعيّة الفلسفة الوضعيّة:
لا ينكر أحد اليوم، سواء في الضّفة الغربيّة الشّماليّة أو الضّفّة الشّرقيّة الجنوبيّة، بأنّ هناك أزمة خانقة تعصف بالعالم، تولّدت عن صراع وهمي بين «الحقيقة» و«اللاّحقيقة». وأمام هذا الوضع المتأزّم ظهرت أبحاث حاولت أن تتدارك الإنسان من المستنقع الذي أوقعته فيه «الفلسفة الوضعيّة» مستخدمة مفاهيم جديدة دالّة. وبالتّالي أصبحنا نتكلّم عن «الإنسان ذي البعد الواحد» و«الإنسان - النّموذج» وغيرها من المفاهيم والتّصوّرات التي تنذر بحجم الأخطار القادمة(6). 
إنّ هذا الانقلاب في التّرسانة المفاهيميّة لا يمكن فهم فحواه دون الوقوف على خصوصيّات «المنهج الوضعي» الذي جعل من «المادّة» مرجعا لكلّ حقيقة كيفما كانت سواء بيولوجيّة أو سيكولوجيّة أو سوسيولوجيّة..، ففي كتابه «الفلسفة المادّية وتفكيك الإنسان» يقف الدّكتور عبد الوهاب المسيري على هيمنة «المنهج الوضعي» الذي جعل من الطّبيعة/المادّة المرجع والضّامن لكلّ حقيقة علميّة. فالطّبيعة كما يقول «المسيري» ليست هي الأحجار والأشجار والسّحب والقمر، وإنّما هي كيان يتّسم ببعض الصّفات الأساسيّة وتشكّل في مجموعها أساس الفلسفة الوضعيّة المادّية التي يمكن تلخيصها في النّقاط الآتية(7):
أ) الإيمان بوحدة الطّبيعة:
أي الإيمان بأنّ الطّبيعة شاملة لا انقطاع فيها ولا فراغات، فهي الكلّ المتّصل وما عداها مجرّد جزء ناقص، فهي لا تتحمّل وجود أي مسافات أو ثغرات أو ثنائيّات.
ب) الإيمان بقانونية الطبيعة:
أي لكل علة سبب، فالطبيعة إذن، شيء منتظم متسق مع نفسه، فكل سبب يؤدي إلى النتيجة نفسها في كل زمان ومكان.
ت) الإيمان بأن الطبيعة بأسرها خاضعة لقوانين واحدة:
أي قوانين ثابتة منتظمة صارمة حتمية مطردة وآلية، وبأنها كذلك رياضية واضحة، ولهذا فهي لا تقبل أي خصوصيات.
ث) الإيمان بأنه لا يوجد غائية في العالم المادي:
بمعنى أن الطبيعة قوة متعينة لا تكترث بالخصوصية ولا بالتفرد أو بالظاهرة الإنسانية ولا بالإنسان الفرد أو باتجاهاته ورغباته. ذلك لأن الانسان ليس له مكانة خاصة في الكون، فهو لا يختلف في تركيبه عن بقية الكائنات. والانسان الفرد أو الجزء يذوب في الكل ذوبان الذرات فيه.
ج) الإيمان بأنه لا يوجد غيبيات أو تجاوز للنظام الطبيعي:
بمعنى أن الطبيعة تحوي داخلها كل القوانين التي تتحكم فيها وكل ما تحتاج إليه لتفسرها، فهي علة ذاتها، توجد في ذاتها، مكتفية بذاتها، وهي واجبة الوجود.
يتبين إذن من هذه المرتكزات أن «الوضعية» لا تقبل سوى «المادة»(8)باعتبارها الشرط الوحيد للحياة سواء كانت طبيعية أو بشرية. وكلمة «المادة» - كما يقول «المسيري» - قد تبدو لأول وهلة كلمة واضحة، لكن الأمر أبعد، فالشيء المادي هو الشيء الذي كل صفاته مادية: حجمه، كثافته، لونه، سرعته، صلابته، كمية الشحنة الكهربائية التي يحملها، سرعة دورانه، درجة حرارته، مكان الجسم في الزمان والمكان...الخ. فالصفات المادية هي التي يتعامل معها علم الطبيعة (الفيزياء). فالمادة ليس لها أي سمة من سمات العقل: الغاية، الوعي، القصد، الرغبة، الأغراض والأهداف، الاتجاه، الذكاء، الإرادة، المحاولة، الادراك...الخ(9).
إذا كان «علم الطبيعةّ» لا يتعامل إلا مع الصفات المادية، وأن أهم ميزة تميز«الانسان» هي «العقل» وسمات هذا الأخير مجاوزة إن لم نقل مفارقة للمادة، فهل يمكن بالتالي جعل الظاهرة الإنسانية مثل الظاهرة الطبيعية ودراستها كما تدرس الأولى بنفس المنهج والآليات والقوانين؟
الهوامش
(1) صالح هاشم، مخاضات الحداثة التنويرية، القطيعة الابستمولوجية في الفكر والحياة، دار الطليعة، بيروت، ط 1، 2008، ص، 169.
(2) أمزيان محمد، منهج البحث الجتماعي؛ بين النظرية والتجربة، المعهد العالمي للفكر الاسلامي، الولايات المتحدة، ط4، ص، 40.
(3)  نفس المرجع السابق، ص، 42.
(4) دوركايم إيميل، قواعد المنهج في علم الاجتماع، ترجمة محمود قاسم، والسيد محمد بدوي، القاهرة، دار المعرفة الجامعية، 1988، د ط، ص، 23-24.
(5) إن مفهوم «الأدلوجة» مرتبط بمجال وبعلة وبوظيفة، ويقود حتما الى نظرية ويخلق نوعا من التفكير. وتستعمل كقناع أو كأحكام ورؤى ومقولات مرجعية للكون والحياة. ويستخدمها العروي كمرادف لمفهوم الأديولوجية.فالفكر الأدلوجي يتعارض مع الفكر الموضوعي حسب العروي. وتشتغل حسب «بول ريكور» من خلال ثلاث وظائف أساسية: التبرير والتزييف والادماج. من هنا يمكن أن ندرج «الوضعية» كإيديولوجية. فهي مذهب فكري يريد حشر الانسان والطبيعة ضمن رؤية واحدية اختزالية.  (العروي عبد الله ،مفهوم الأيديولوجيا، المركز الثقافي العربي، المغرب، ط، 8، 2012، ص، 13-14)
(6) الباهي حسان، جدل العقل والأخلاق في العلم، افريقيا الشرق، 2009، د ط، ص، 255.
(7) المسيري عبد الوهاب، الفلسفة المادية وتفكيك الانسان، دار الفكر، سورية،  ط، 1، 2002، ص، 15-16.
(8) تطلق «المادة» عند ديكارت في مقابل الروح. و»المادة «ما به يتكوّن الشيء كالرخام الذي يصنع منه التمثال. نستخدمها في هذا البحث في مقابل كل ما هو روحي أو ميتافيزيقي. فهي السند المركزي «للفلسفة الوضعية».
(9)  المسيري ع الوهاب، نفس المرجع، ص، 17.