الأولى

بقلم
فيصل العش
في الذكرى الحادية عشرة للثّورة: «هل أُغلق القوس؟»
 (1) 
تحلّ الذّكرى الحادية عشرة لثورة الحرّية والكرامة وتونس تعيش حالة من الاحتقان السّياسي والاجتماعي في غاية من الخطورة، خاصّة بعد  إجراءات 25 جويّلية وما تبعها من قرارات أهمّها المرسوم 117 الصادر في 22 سبتمبر 2021. حيث قام رئيس الجمهوريّة بحلّ الحكومة وتجميد عمل البرلمان وتعطيل نشاطه وإلغاء هيئة مراقبة دستوريّة القوانين، وإعلانه تولّيه السلطة التنفيذيّة بمعاونة حكومة قام بتعيين أعضائها. 
انقسمت النّخبة السّياسيّة في تونس إلى فسطاطين أحدهما مساند لإجراءات الرّئيس، معتبرا إيّاها عملا بطوليّا من أجل تصحيح مسار الثّورة وحمايتها من أعدائها. والثّاني معارضا لماحدث، معتبرا ما حدث انقلابا صارخا على الدّستور ووأدا للثّورة ونزوعا واضحا نحو حكم استبدادي مطلق. كلّ من الفريقين يدّعي انتماءه للثّورة وحرصه على تحقيق أهدافها. وقد احتدم الصّراع بينهما وكثُرت الاتهامات المتبادلة، وغابت لغة الحوار بينهما ممّا يوحي بانهيار المسار الدّيمقراطي الذي سلكته البلاد منذ أكتوبر 2011. 
وفي ظلّ أجواء مشحونة بالخلافات والانقسامات، والنّوايا غير الحسنة التي يضمرها الفرقاء المشاركون في العمليّة السّياسيّة بعضهم لبعض واعتمادهم أسلوب التّجييش وحشد الأنصار في الشّارع لإثبات الوجود واستعراض القوّة. وفي ظلّ هشاشة الوضع الاجتماعي والصّعوبات الاقتصاديّة المتراكمة منذ سنوات، فإنّه لا يمكن إخفاء المخاوف الحقيقيّة من الانزلاق نحو اعتماد العنف السّياسي المنظّم كأسلوب للتّعامل بين الفرقاء السّياسيين، وعندها ستحصل الكارثة لا قدّر اللّه .. فبلادنا لا تستطيع تحمّل مزيد من الأزمات والفتن. ونحن الآن أمام لحظة فارقة في تاريخ ثورتنا ستتحمّل النّخبة السّياسيّة والثّقافيّة مسؤوليتها في توجيه المسار في الاتجاه الصّحيح أو السّقوط المدوّي المصحوب بموجات من العنف ستأتي على الأخضر واليابس، وسيتضرّر منها الفاعل والمفعول به، وسيكتوي بها الجميع، لأنّ الانزلاق نحو العنف السّياسي بجميع أشكاله سيكون إعلانا لنهاية حلم شعب بأكمله دفع من أجله الغالي. حلم يتمثّل في تأسيس جمهوريّة المواطنة ودولة مدنيّة تتّسع للجميع وتعمل على تحقيق شعار الثّورة المركزي « شغل، حرّية، كرامة وطنيّة».
(2)
إن العنف إذا انطلقت شرارته الأولى لن يتوقّف قبل تدمير البلاد وتفقير العباد، ولنا في تجارب جيراننا عبرة ومثل. وستكون الفرصة مواتية لبعض الأطراف الأجنبيّة لمزيد حشر أنوفها في شأننا الدّاخلي وتوجيهه نحو تحقيق مصالحها. وفي الأثناء يزداد الفساد تغلغلا في مفاصل الدّولة وتتّجه مؤسّساتها نحو الإفلاس أو مزيدا من الخسائر، ويتعقّد الوضع الاجتماعي جراء غلاء المعيشة وتدنّي الخدمات ونتيجة ارتفاع البطالة وغياب الحلول المناسبة لمشاغل الفقراء والمساكين ممّا يرفع درجة الاحتقان لدى النّاس.   
الصورة سوداء لا يختلف إثنان في وصفها بالقتامة، فهل يعني هذا أنّ الأمل أصبح مفقودا وأنّ الإصلاح لم يعد ممكنا بعد الذي صار؟ هل يعني أنّ ما يحصل في تونس هذه الأيام إعلان لغلق قوس «ثورة الحرّية والكرامة» وبالتّالي الانتهاء من حقبة ثورات الرّبيع العربي؟ أمّ أنّ ذلك مؤشّر لاستمراريّة الثّورة، وأنّ ما حدث كان لابدّ أن يحدث حتّى يتمّ تمييز الخبيث من الطيّب وتتمّ غربلة السّاحة السّياسيّة؟ وكيف ستتمكّن سفينة التّونسيين من تعدّي الأمواج العاتية التي تعصف بها لترسو من جديد في ميناء الإصلاح والنّمو والازدهار؟
(3)
إنّ المتابع للحالة التّونسيّة لا يمكن أن يتوقّع أفضل ممّا كان، والسّبب في تقديري أنّ المسار الذي سلكته النّخب السّياسيّة التي سلّمها شباب الثّورة مقاليد التّسيير كان خاطئا منذ البداية. ففكرة أنّ الثّورة تمّ اغتصابها يوم 14 جانفي وما بعده ليست مُجَانَبَةً الصَّوَاب تماما، حيث لم يتمّ إسقاط النّظام وإنّما التخلّص من رأسه فقط، فقد واصل نفس الفريق الحكم حيث تقمّص رئيس برلمان المخلوع مهام الرئيس المؤقت وحافظ رئيس حكومته على رئاسة أول حكومة بعد الثّورة.. وحتّى اعتصاما القصبة 1 و2 اللّذان نفّذهما الشّباب لم يغيّرا في الأمر الكثير، فقد جيء  بأحد وزراء بورقيبة لرئاسة الحكومة. ثمّ جاءت لجنة «بن عاشور» طويلة الإسم لتفرض على الجميع قانونا انتخابيّا نخبويّا أعدّ على القياس كان سببا في الوضع الذي وصل إليه البرلمان. 
لكنّ الدعوة إلى حلّ البرلمان وتغيير نظام الحكم إلى نظام رئاسي لن يغيّر في الأمر الكثير، فالخلل يكمن في النّظام الانتخابي وليس في نظام الحكم نفسه. وليس مهمّا أن يكون النّظام برلمانيّا أو رئاسيّا، المهمّ أن يكون ديمقراطيّا.
وممّا زاد في تعقيد الحالة التّونسيّة سياسيّا، عدم وجود أحزاب سياسيّة بالمعنى المعروف للكلمة وإنّما دكاكين يشرف عليها ويتحكّم في مصيرها من كانت «الباتيندا» باسمه. أغلب هؤلاء شخصيّات اتّكأت على سجلّها في معارضة بن علي وملأت الدّنيا صياحا وشعارات ثمّ اكتشف النّاس أنّها خاوية بلا رؤية واضحة للواقع، غير عارفة لامكانيّات البلاد الحقيقيّة وقدرات هذا الشّعب، عاجزة عن تقديم بدائل وتصوّرات قادرة على زحزحة الواقع المزري الذي تركه الدّكتاتور قبل أن يهرب، وكلّما تخاصم أصحاب «الباتيندا» تصدّع الدكّان وأُغلق، لتُفتح عوضا عنه دكاكين أخرى لكلّ منها زعيمها. ولقد زاد بروز ظاهرة المستقلّين كبديل عن الأحزاب في هشاشة السّاحة السّياسيّة، وهي ظاهرة تعبّر بشكل فاضح عن صبيانيّة ودنكيشوتيّة السّياسيين.
ولا تبرز صبيانيّة السّياسيين في تشتّتهم وغياب بدائلهم فقط بل تبرز بشكل أوضح في تعاملهم فيما بينهم، فالعلاقة لم تقم على التّنافس في خدمة النّاس وثورتهم بل على عداء وتناحر على أسس أديولوجيّة وفي كثير من الأحيان لأسباب ذاتيّة، كما تبرز في انتهازيتهم حيث يخيّر أغلب الفائزين منهم الاصطفاف في المعارضة وعدم المجازفة بالحكم خوفا من الفشل الـذي يؤدّي حتمـا إلى الانهيـار والتلاشي والبقـاء في وضع تصيّد أخطاء الذين يحكمون.
ساهم هذا الوضع في عزوف النّاس عن المشاركة في الانتخابات وإعلان عدائهم لهذه الكيانات الحزبيّة، ممّا ساهم في ارتفاع أسهم الدّاعين إلى حلّ الأحزاب وإلغائها واعتبارها سببا في أزمة البلاد، وهو شعار يحرص الرّئيس ومن حوله على رفعه في كلّ مناسبة. ولكن هل من الممكن أن ينهض نظام ديمقراطي من دون أحزاب سياسيّة؟ قطعا لا، لأنّ الأحزاب هي التي تبني الحياة السّياسيّة، والبلدان التي يُعترف بأنّها ديمقراطيّة هي مجتمعات منظّمة بوسائط وجلّها أحزاب وتنظيمات المجتمع المدني.
إنّ أيّة محاولة لفرض نظام سياسي جديد يقطع مع مكونات الدّيمقراطيّة الغربيّة بشكلها السّائد، ستدفع بالبلاد نحو عزلة حقيقيّة وفوضى ستؤدّي حتما إلى غلق قوس الثّورة والإصلاح نهائيّا. الحلّ ليس في حلّ الأحزاب وإنّما في صياغة قانون ينظّمها من جهة، وفي إعادة هيكلتها من جهة أخرى بطريقة يتمّ تقليل التّركيز فيها على شخصيّات قادَتِها، وبالتّالي بناء تنظيماتها بشكل لا يعتمد على المصير السّياسي لمؤسّسيها سواء كان شخصا أو مجموعة من الأشخاص. 
أمّا إذا بقي الحال كما هو عليه من دون قانون ينظّم الأحزاب ويحدّد مصادر تمويلها وطرق مراقبتها، فإنّ الفساد سيستفحل في الحياة السياسيّة وسيؤدّي ذلك حتما إلى انهيارها.
 (4)
لا يختلف إثنان في وصف الوضع الإجتماعي والاقتصادي الذي أصبحت عليه البلاد بالخطير. فجميع المحلّلين متّفقون على الضّعف الفادح لاقتصاد البلاد وارتهانه للخارج وتفشّي ظاهرة الفساد والرّشوة في مسالك الدّولة، إضافة إلى نسبة الفقر والبطالة خاصّة بالمناطق الدّاخليّة مع تفكّك وتآكل النّسيج الاجتماعي وانحدار ثقافي رهيب. هذه البنية الاجتماعيّة المتآكلة والتي فشل الحكّام الجدد في إنقاذها وتحسين وضعها أوعلى الأقل وضع استراتيجيّة جديدة لإعادة بنائها، هي إحدى المطبّات الكبرى التي عطّلت الإنتقال الديمقراطي وهي مؤشّر خطير ينبّئ بفشل المسار الثّوري وتحقيق أهدافه، وهي سبب من أسباب ما حدث يوم 25 جويليّة وما بعده، ذلك أنّ الفقر والبطالة والتّهميش، ليست تربة مناسبة لنموّ شجرة الدّيمقراطيّة. فالمواطن الذي لا يجد قوته وقوت عياله، لا يهمّه من يحكمه. فهو مستعدّ لمبايعة من يوفّر له رغيف الخبز والماء والدّواء، وقد يثور على من لا يجد له حلاّ لوضعه مهما ارتفعت نسبة وطنيته. 
إنّ عدم انحياز الطّبقة السّياسيّة الحاكمة قبل 25 جويليّة إلى الفئات الفقيرة المهمّشة وعدم عملها على تغيير النّمط الاقتصادي اللّيبرالي السّائد زاد الواقع الاجتماعي تأزّما وتعقيدا، الأمر الذي ساهم في ارتفاع أسهم الشّعبويّة وكُفْر عدد لاباس به من التّونسيين بالدّيمقراطيّة. وكلّما ازداد تآكل البنية الاجتماعيّة وانعدمت الحلول الجادّة للمشكلات الإقتصاديّة التي تعاني منها البلاد، ارتفع منسوب الانتكاسة ممّا يؤدّي حتما إلى فشل الحراك الثّوري في تحقيق أهدافه وبالتالي إلى غلق قوس الثّورة. 
(5)
إنّ أزمة تونس أكبر من أن تُحلّ بمجرّد تجميد نشاط البرلمان أو حلّه، أو بإصدار خارطة طريق يعلم الجميع استحالة تحقيقها على أرض الواقع، ولا بالهروب إلى الأمام عبر حلّ الأحزاب وتفريغ الحياة السّياسيّة من مكوّناتها، ولا بتعطيل الدّستور أو إلغائه أو تعويضه بتنظيم مؤقّت للسلطات. فلا يمكن حلّ أزمة بخلق أزمة جديدة، وإنّما الحلّ في اتخاذ القرار الشّجاع المناسب المتمثّل في الجلوس إلى طاولة الحوار مع الخصوم قبل الأصدقاء، ومع المعارضين قبل المؤيّدين. حوار لا يقصي أحدا،  تكون مخرجاته كيفيّة إرجاع الأمانة لأصحابها أي للشّعب، ليأخذ قراره عبر صناديق الإقتراع ويختار من جديد من يحكمه. 
لا سبيل للعودة إلى ما قبل 25 جويليّة، هذا مؤكّد، فالعودة إلى الحياة السّياسيّة كما كانت بنفس الوجوه ونفس التصرّفات سيزيد الوضع تأزّما، ولكن أيضا لا سبيل إلى إقصاء من  جاء إلى السّلطة عبر الصّندوق. فالنّوّاب الذين تمّ تجميد نشاطهم لم يأتوا إلى البرلمان عنوة أو فوق دبّابة وإنّما عبر صناديق الإقتراع مثلهم مثل رئيس الجمهوريّة، وإذا أخطأ الشّعب في اختيار من ينوبه في المرّة الفارطة فما عليه إلاّ أن يتّعظ في المرّة القادمة ولا يختار إلاّ من يرى فيه القدرة على الإفادة والإصلاح.  
(6)
لقد عاشت البلاد خلال العشريّة الفارطة تجارب عديدة وأزمات مختلفة لم تشهدها من قبل، وهي -رغم مرارتها - نقطة قوّة يمكن أن تكون منطلقا للبناء من جديد، إذا ما غيّرت نخبها من طريقة تعامل بعضها مع البعض واقتنعت بمبدأ الحوار ومقارعة الحجّة بالحجّة والبحث عن مشترك وطنّي يجمع ولا يشتّت عوضا عن الصّدام وسياسة كسر العظام وإلغاء الآخر. 
وبناء هذا المشترك يتطلّب حوارا حقيقيّا وليس حوارا مغشوشا؛ ولا يكون الحوار حقيقيّا إلآّ إذا سارعت جميع الأطراف إلى نقد ذاتي لتجربتها في السّنوات العشر الأخيرة، نقد من مخرجاته تقديم كلّ طرف لجرد في الأخطاء التي ارتكبها وتعهّد بتفاديها مستقبلا، وبعدها يكون النقاش حول المشترك الذي يمكن أن يجمع أكبر قدر ممكن من القوى الوطنيّة حول برنامج واضح لحلّ الأزمة ولما لا القطع مع التشتّت الحزبي وتبنّي سياسة «الخيمة الكبيرة» التي تستوعب الجميع أي الاندماج في حزب شامل يتمتّع بدعم مجتمعي وله القدرة على المنافسة والصّمود. 
أمّا إذا سعى كلّ طرف إلى تحميل الآخرين مسؤوليّة ما آلت إليه الأوضاع، والتمسّك بالطّهر السّياسي، وبقيت مفردات التّخوين والإقصاء والتّنافي تخنق الحناجر والأفئدة، فإنّ ذلك سيؤدّي إلى دخول البلاد في أزمة خانقة وحصول كوارث يصعب مقاومتها والخروج منها بسلام. عندها سيغلق قوس ثورة 17-14 ويفتح قوس جديد لثورة جديدة ولو بعد حين، لن يكون للطّبقة السّياسيّة الحاليّة  فيها نصيب. وتلك سنّة اللّه في خلقه، ولن تجد لسنّة اللّه تبديلا ولا تحويلا.
البعض يقول أنّ فاقد الشّيء لا يعطيه، فلا أمل في تخطّي الطّبقة السّياسيّة الحاليّة واقعها المتعفّن، فأغلب مكوّناتها قد عماها الحقد الايديولوجي والأنانيّة والمصلحيّة وهي لا تفقه غير التناحر والصّراع، بل أنّ جزءا منها قد تأسّس لهدف إلغاء الآخر لا غير فكيف يمكنه التصالح معه؟. 
البعض الآخر يؤمن بأنّ «الأزمة تلد الهمّة ولا يتّسع الأمر إلاّ إذا ضاق ولا يظهر نور الفجر إلاّ بعد الظّلام الحالك» كما قال جمال الدين الأفغاني رحمه اللّه، وبالتّالي ستكون هذه الأزمة سببا في توحيد صفوف القوى الوطنيّة المتمسّكة بالثورة وتجاوز الصّراعات الايديولوجيّة والحزبيّة، ومن ثمّ عودة الأمل إلى الثّورة وعدم غلق قوسها بل إلغاؤه تماما.  
الأمل مازال قائما بالرّغم من قتامة الوضع السّياسي والاقتصادي والاجتماعي، فهل ستحمل لنا الأيام القادمة بوادر انفراج. ربّما، فلننتظر...