شخصيات الإصلاح

بقلم
التحرير الإصلاح
المؤرخ والمفكر التونسي الدكتور هشام جعيّط رحمه الله
 الدكتور محمد هشام جعيط مفكر وأكاديمي ومؤرخ تونسي، يعدّ من أهم المفكرين العرب الذين اشتغلوا بالتّاريخ الإسلامي ونقّبوا في فتراته الحرجة وناقشوا أهمّ الإشكاليّات المركزيّة فيها بدون خلفيّات إيديولوجيّة أو عاطفة دينيّة. وقد نجح في أن يجعل من التّاريخ مادّة فكريّة، لا مادّة إخباريّة مملّة، مجسّدا في كتاباته فكرة ابن خلدون التي تقوم على أنّ «التاريخ في ظاهره لا يزيد عن الإخبار، وفي باطنه نظر وتحقيق». 
ولد جعيط في السّادس من ديسمبر 1935 في العاصمة تونس، ونشأ في إطارٍ محافظ ضمن عائلة مميّزة من المثقّفين والعلماء والقضاة المتخصّصين في الفقه الإسلامي، فهو حفيد الوزير الأكبر يوسف جعيط وابن أخ الشّيخ محمد عبد العزيز جعيط. التحق بالمدرسة الصادقيّة، ثمّ سافر إلى فرنسا ليواصل دراسته الجامعيّة بجامعة السّوربون بباريس أين تحصّل على الدكتوراه في التّاريخ الإسلامي سنة 1981. وقد تحدّث جعيّط عن تأثير رحلته التّعليمية إلى باريس في فكره وتوجهاته الأكاديميّة إذ قال: «كان اكتشافي للفلسفة أمرًا حاسمًا، وكان بمثابة الفتح والتّجلّي، ولستُ أعني بذلك الميتافيزيقا فقط، وإنّما أيضًا علم النّفس والأخلاق والمنطق. عندئذ بدأت تذوب عندي بديهيات أساسيّة، وفي الآن نفسه اكتشفت علم البيولوجيا ونظريّة التّطور، وهذا كلّه أثار إعجابي واندهاشي في نفس الوقت».
لقد كانت معرفته بالمجتمع الأوروبي عموما والمدرسة الاستشراقية خصوصا، بالإضافة إلى تعمقه في التّاريخ الإسلامي، ميزة حقيقيّة جعلت من كتاباته إضافة مهمّة ومرجعا أساسيّا في فهم الشّخصيّة العربيّة والإسلاميّة من جهة، وفهم العلاقة المتشنّجة بين الغرب والعالم الإسلامي من جهة أخرى. 
ولأنّ المنهج التّاريخي بلغ بالنسبة لجعيّط درجة من المصداقيّة قرّبته كثيراً من العلوم الصّحيحة،  فقد اعتمده في أبحاثه مستعينا بمجموعة أخرى من العلوم والمعارف مثل علم الأجناس والفيلولوجيا.
ويلخّص جعيط منهجه في التّعامل مع التاريخ الإسلامي بقوله: «إنّه استقراء الماضي متسلّحاً بمعرفة دقيقة بالمصادر والمراجع، وبالتّعاطف اللاّزم مع موضوعه وبرحابة صدر وثقابة الفكر»، ويضيف قائلاً: «ما سنحاوله هنا هو إعطاء نظرة أنثروبولوجيّة للثّقافة العربيّة قبل الإسلام أولاً، واستقراء للنّص القرآني وتتبّع التّأثيرات الخارجيّة والنّظر النّقدي في المصادر التّاريخيّة والبيوغرافيّة»
لكنّ هشام جعيط يختلف عن بقية المفكّرين الآخرين من العرب والمسلمين الذين يتبنّون المنهج التّاريخي في تحليلهم للدّراسات الإسلاميّة ويتميّز عنهم بايمانه القوّي بأنّ الإسلام هو العنصر الأساس الذي يشكّل الشّخصيّة العربيّة والإسلاميّة وعامل محدّد في بنائها، وبالتّالي لا يمكن الاستغناء عنه. وما يجب تغييره بالنّسبه له هو الفهم الخاطئ للإسلام وللتّاريخ الإسلامي الذي يحاول الكثير من المفكّرين الإسلاميّين قراءته قراءة إيمانيّة تغيب الحقيقة وتغتالها، لتنتج ثقافة إسلاميّة مأزومة خالية من كلّ علميّة وموضوعيّة. لقد غيّر هشام جعيط النّظرة التّاريخية إلى الإسلام، وأنسنها بعد أن أخضعها للإجرائيّة المنهجيّة التّاريخيّة، ووصل بها إلى نتائج أظهرت اللّوحة الخفيّة لمختلف الصّراعات وأسسها الدّينيّة والسّلطويّة.
لقد كان شغله الشّاغل فهم الشّخصيّة العربيّة والثّقافة الإسلاميّة ونقدها باعتبارها من أهمّ القضايا المركزيّة. كما عالج تاريخ الأزمات التي عاشها المسلمون وحاول تفكيك أهمّ الإشكاليات الكبرى التي واجهوها، فكان كتابه «الشّخصية العربية الإسلاميّة والمصير العربي»(1984)ثمّ كتاب «الفتنة: جدليّة الدّين والسّياسة في الإسلام المبكر»(1992). وبحث في السّيرة النّبوية بطريقة علميّة تجمع بين التّاريخ المقارن والبصيرة الأنثروبولوجيّة، فجاء بحثه في ثلاثة أجزاء «الوحي والقرآن والنبوة»(1999) و«في تاريخية الدّعوة المحمّدية» (2006)، وأخيرا «مسيرة محمد في المدينة وانتصار الإسلام» (2014).
وفي أطروحته حول نشأة «المدينة العربيّة» اعتبر هشام جعيّط المدينة نظريّة في تعّددية التّحضّر العمراني والإنساني وليست صراعا بين البادية والتّحضّر. وقد أسهمت دراسته لتجربة «دولة المدينة» في بلورة نظريّته تلك بصفة خاصّة ورؤيته بشأن أسئلة الحضارة العربيّة بصفة عامّة. أمّا من حيث الحضارات، فالرجل لا يؤمن بصراعها وإنّما يرى أنّها تتداخل وتنتقل مراكزها في ازدهارها أو خفوتها. وعليه لم يشكّل حضور الحضارة الغربيّة في البلاد الاسلاميّة شرقا وغربا «صدمة» لديه. 
لم يكن جعيط أكاديميّا منعزلا عن واقعه ولكنّه كان يرفض الدّخول إلى عالم السّياسة، لأنّه يرى أنّ للمفكر دورا يختلف عن السّياسي، فإذا كان السّياسيّون  يهتمّون-كما يقول- بالعوامل الظّرفيّة، فإنّ المفكر والمثقّف يجب أن تكون له نظرة بعيدة المدى، ولهذا فهو يهتمّ أكثر بالخلفيّات الفكريّة والدّينيّة والثّقافيّة وبالعوامل الأنتروبولوجيّة والهيكليّة. لكنّ جعيّط لم يغب عن الرّاهن السّياسي في تونس وفي الوطن العربي. فقد ظلّ مواكبا للأحداث والمتغيرات. وما يحسب له وقوفه المستمرّ مع القضيّة الفلسطينيّة ووقوفه ضدّ العدوان الاستعماري على العراق في مطلع تسعينات القرن الماضي وترأّسه لإحدى لجان المساندة. وفي العشرية الأخيرة واكب «الرّبيع العربي»، وتابع خاصة الثّورة التّونسيّة وانعطافاتها مُحلّلا، ناقدا، ومستشرفا، ومناصرا للحريّة والدّيمقراطيّة، مستغلّا في ذلك كلّ ما ترسّخ في ذهنه وفي ذاكرته من تجارب التّاريخ ودروسه. ويرى جعيط أنّ الدّيمقراطيّة معركة شاقّة من الواجب كسبها. وأنّ على بلاده أن تحمي أصولها الدّيمقراطية مهما كانت التّكاليف الاجتماعيّة والاقتصاديّة.
توفي الدّكتور جعيّط في غرّة جوان 2021 عن عمر يُناهز 86 سنة، وخسرت بذلك تونس والعالم الإسلامي مفكرا وفيّا لشخصيته لا تابعا لغيره، ومؤرّخا تعامل مع الوثيقة دون الرّضوخ لأيّة سلطة مهما كان نوعها. وقد خلّف وراءه جيلا من الباحثين الذين تتلمذوا على يديه واستفادوا من خبرته ومن تأطيره العلمي. فهل سيسير هؤلاء على درب معلّمهم، مواصلين مشواره، مُخلّدين ذكراه بنشر منهجه؟