كلمات

بقلم
علي العوني
تنمية متوازنة خير من تنمية متوازية
 دخل القطران المغربيّان الكبيران المغرب والجزائر في منافسة شرسة لا تبرّرها الشّرائع السّماويّة ولا الأعراف الدّوليّة ولا القوانين الاقتصاديّة. فأنهكت هذه المنافسة اللاّأخلاقيّة اقتصادهما وتذمّر منها شعباهما، بل ويخشى من تحوّلها الى صراع عسكري لا قدّر اللّه. فطبقا لما صرّحت به جريدةl’opinion الفرنسيّة مؤخّرا فإنّ «كلّ شيء في الجزائر يجري الآن لإضعاف المغرب تجاريّا في إفريقيا» ولعلّ إقدامها على غلق أجوائها على الطّيران المغربي، مدنيّا كان أم عسكريّا، خير دليل على ذلك.
السّماء ملك اللّه، والطّيران فيه مجانا، ومع ذلك وجدت فيه الجزائر مكسبا وهو كلّ ما يخسره المغرب في الابتعاد عن أجوائها. وهكذا، وبدلا من أن يفتحا صدورهما وحدودهما لبعضهما ويتعاونا وفق نظام تكاملي متوازن، يزيدهما قوّة ومناعة واحتراما من الجميع، نراهما يسيران على خطّين متوازيين ، تباعد بين الأخوين وتفتّ في عضد كلّ منهما. 
ونظرا لما يزخر به البلدان من خيرات وإمكانات مادّية وبشريّة هائلة كان بامكانهما توظيفها لتشكيل قاطرة تجرّ شعبيهما وباقي المنطقة المغاربيّة  الى النّماء الاقتصادي والرّفاه الاجتماعي. بل وكان بإمكانهما إقامة قطب اقتصادي من الوزن الثّقيل بشمال إفريقيا، تدين له الوحدة الأوروبيّة بالولاء، بدلا من خضوعهما لها مشتّتين. فهما الآن يتناطحان كالكباش، ينفق كلّ منهما الغالي والنّفيس ليظهر لشعبه والعالم أنّه الأقوى وأنّه الأصلح. «أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَٰكِن لَّا يَشْعُرُونَ» صدق اللّه العظيم.
وبعيدا عن الدّخول في متاهات «الصّحراء» يمكن الإشارة هنا الى بعض المساحات التي كانت ولازالت مسرحا للمنازلة بين البلدين :    
على مستوى المعالم الدينية
أراد المغفور له الملك الحسن الثّاني أن يخلّد اسمه في التّاريخ، فبنى أكبر مسجد في المغرب وأجملها على الإطلاق، وأطلق عليه اسمه «مسجد الحسن الثّاني». فهو تحفة معماريّة رائعة ومعلمة دينيّة بارزة بالدّار البيضاء، فبات مزارا لكلّ من يقصدها. وبطبيعة الحال أُنفقت أموال طائلة في إنشائه من أموال الملك الخاصّة ومن المواطنين والموظّفين عن طريق الاكتتاب، وكان ذلك خلال الفترة 1987-1993. فهو مسجد عظيم في كلّ شيء، مئذنته ترتفع الى 210م...فكان الأجمل والأكبر على مستوى إفريقيا، حتّى جاء الأعظم منه، مسجد الجزائر.
شرعت الجزائر في تشييد المسجد العظيم سنة 2011 وانتهت من إنشائه سنة 2020 بكلفة بلغت 35،1 مليار أورو، ويتميز بخصائص لا يظاهيه فيها أي مسجد في إفريقيا وبمئذنة ترتفع الى 265 م.
فهل هذا  كلّ مايحتاجه المواطنون في كلاّ البلدين ؟ الفقر مازال منتشرا في البوادي ويعشّش في الأحياء المظلمة بالمدن الكبرى... وقد يتساءل المرء عن تفادي الجزائر صيغة التّفضيل المناسبة والمتوقّعة لتسمية مسجدها وهي «الأكبر». ذلك أنّ هذه الصّفة تحملها لوحة علّقت على واجهة أقدم جامع في الجزائر العاصمة، وكان لي الشّرف الصّلاة فيه سنة 1990، وهو معلمة تاريخيّة، بناه أحد سلاطين الدّولة المرابطيّة المشهور، يوسف بن تاشفين سنة 1097، في زمن ليس فيه بين الخيرين حساب ولا بين الأخوة الصّادقة  تنافس وعداء...
على مستوى المشاريع التّنمويّة
دشّن «محمد السّادس» بمعيّة «كارلوس غصن» المدير العام لشركة «رونو- نيسان» مصنع هذه الأخيرة بمقاطعة ملوسة بالقرب من طنجة سنة 2012، وبعده بسنتين دشّن «عبد المالك سلال» الوزير  الأول الجزائري الأسبق و«كارلوس غصن»، مصنعا مماثلا بتليلات بولاية وهران. وفي حين لاقى المشروع المغربي نجاحا باهرا، ولاقت منتجاته قبولا في القارّتين الأوربّية والإفريقيّة بل وحتّى الأسيويّة، فإنّ المشروع الجزائري لم يكتب له النّجاح، وتوقّف بعد 6 سنوات عن العمل، مكبّدا الخزينة الجزائريّة خسائر فادحة. ذلك أنّه لم يكن مدروسا بما فيه الكفاية، وإنّما عبارة عن تقليد أعمى أريد من ورائه منافسة المغرب ومعاكسته... 
سمعنا كثيرا في السّتينات والسّبعينات عن الصّناعات الثّقيلة في الجزائر، فأين وصلت؟ ولماذا لا تعود اليها مجدّدا وتتخصّص في صناعة الجرارات والشّاحنات والقاطرات وهي منتجات تفتقر اليها المنطقة بأسرها ناهيك عن الدّول الإفريقيّة، بدلا من المحاولة  مجدّدا إقامة مصنع «رونو» اللّعين؟
وتفاديا لنكسة «رونو» أو للتّعويض عنها انخرطت الجزائر في أكبر مشروع مينائي، إنّه «ميناء شرشال العظيم» أو ميناء الحمدانيّة  بالتّعاون مع الصّين الشّعبيّة تمويلا وتشييدا. بدأت دراسة المشروع سنة 2012 وهو يندرج ضمن طريق الحرير الصّيني وأُبرمت اتفاقيّة تمويله في البداية من الصّين بمبلغ 3.3 مليار دولار سنة 2015، ثمّ تراجعت الجزائر ليصبح التّمويل مشتركا بعد أن تحسن أداؤها الاقتصادي. وصمّم المشروع ليكون أكبر ميناء في البحر الأبيض المتوسّط، بقدرة استيعابيّة متوقّعة بحوالي 5،6.مليون حاوية (فئة 20 قدما) سنويّا، أي قريبا من الطّاقة الاستيعابيّة لميناء «طنجة المتوسّط». وكان من المؤمّل أن تنطلق الأشغال فيه بداية العام الجاري الاّ أنّ عراقيل ذات صبغة عقاريّة مرتبطة خاصّة بنزع الملكيّة، الى جانب معوقات أخرى حالت دون الشّروع في بنائه حتّى هذا اليوم.
خطّط لهذا المشروع المينائي العظيم ليكون نقطة انطلاق الطّرق السّيارة الجزائريّة شرقا وغربا وجنوبا، لتخترق الصّحراء في اتجاه إفريقيا. إنّه مشروع عظيم آخر يحمل اسم «الطّريق العابر للصّحراء» والذي يربط الجزائر العاصمة بلاقوس، عاصمة نيجيريا القديمة وبطول 4504 كلم. وهو مشروع قديم، ولد بعد استقلال الجزائر مباشرة سنة 1962. فاجتمعت ستّ دول وهي الجزائر ونيجيريا وتونس وتشاد ومالي والنّيجر، واتفقت على إنشاء هذه الطّريق السّيارة والذي اطلق عليه حينئذ اسم «طريق الوحدة الإفريقيّة». ظلّ المشروع يتقدّم ببطء طيلة 6 عقود نظرا لصعوبة الظّروف الاقتصاديّة والسّياسيّة لهذه البلدان، ولم يتحرّك بقوة من جانب الجزائر الاّ خلال العشريتين الأخيرتين عندما تحسّنت أوضاعها المادّية أو ربّما بسبب تحرّك المغرب على الجانب الغربي لافريقيا، وشروعه في مدّ الطّريق السّيار جنوبي المملكة بطول 1000 كلم تقريبا ليربط بين تزنيت والدّاخلة في اتجاه افريقيا طبعا. 
المنافسة هنا بين المشروعين غير واردة وكلاهما مفيد لاقتصاد بلده، وانّما ستنشأ المنافسة على مستوى الأسواق الإفريقيّة، يخشى معها تصادم المنتجات الزّراعيّة لكلّا البلدين في هذه الأسواق وبما لا يعود عليهما بالنّتائج المرضيّة.
أما المشروع الذي استأثر بمنافسة حادّة وبحق، فهو يتعلّق بأنبوب الغاز الذي سيربط نيجيريا بأوروبّا، مارّا إمّا بالجزائر أو بالمغرب، وهو مشروع ضخم تتجاوز تكلفته 25 مليار دولار، ويعود على البلد الذي سيمرّ منه بخير عميم من خلال أتاوة المرور خاصّة. فالمنافسة هنا مشروعة والغلبة ستكون لمن يقدم أفضل العروض. ظهرت فكرة المشروع في الجزائر خلال عقد الثّمانينات، وبدأت تتبلور شيئا فشيئا حتّى تمخّضت عن اتفاقيّة موقعة بين حكومتي الجزائر ونيجيريا سنة 2009. استبشر الجميع خيرا بالمشروع الذي يمتدّ طوله الى 4128 كلم، ولكن سرعان ما دبّ الفتور في عضد منفّذيه لأسباب تتعلّق خاصّة بتنامي خطر العصابات المسلّحة بدولة النّيجر التي سيمرّ منها أنبوب الغاز. فالى جانب الطّوارق في شمالي النّيجر تنشط تنظيمات أخرى ذات توجّهات إسلاميّة بشمالي نيجيريا وجنوبي الجزائر وكلّها تدعو للتّخوّف من خطر تخريب المشروع. الأمر الذي شجع المغرب على مفاتحة نيجيريا في أنبوب غاز بديل أكثر أمنا وكان ذلك أثر زيارة الملك محمد السّادس لنيجيريا في ديسمبر 2016، تلتها بعد سنتين زيارة مماثلة لرئيس نيجيريا الى المملكة المغربيّة تحدّدت فيها الخطوط العريضة للمشروع والذي قُدّر طوله حينئذ  بحوالي 5660 كلم برّا وبحرا، ويمرّ بعشر دول من غربي إفريقيا بالإضافة الى المغرب. لم تتوقّف اتصالات ومناقشات الطّرفين للخطوات التّنفيذيّة للمشروع مع نيجيريا خلال العامين المنصرمين. وكلّ منهما يقدّم الأدلّة ويدّعي أن أنبوب الغاز سيمرّ من أرضه. ولا أحد يتوقّع لمن ستكون له الغلبة.
تضخّمت الحساسيّات والمنافسة بين البلدين وغطّت كل الجبهات،  لعلّ آخرها التّنافس على أحقّية احتضان الزّاوية التّيجانيّة التي أسّسها أحمد بن محمد التّيجاني الذي ولد بقرية عين ماضي بولاية الأغواط الجزائريّة ثم هاجر سنة 1787 الى فاس حيث أسّس أوّل زاوية صار لها أتباع في العديد من الدّول العربيّة والافريقيّة...  وبات يخشى من انتقال هذه المنافسة  الى المبارزة العسكريّة لا قدر اللّه . فتكدّست ترسانات الأسلحة الفتاكة في كلاّ البلدين على حساب التّنمية الاقتصاديّة والاجتماعيّة وساهمت وسائل الإعلام ووسائط التّواصل الاجتماعي في إذكاء هذا الصّراع على زعامة المغرب العربي. 
لقد أُنفقت أموال ضخمة على الأسلحة وعلى المشاريع ذات الطّابع «البرستيجي» وفي ذلك هدر للامكانيّة وضياع لفرص ثمينة للتّنمية. لقد ضرب البلدان من قبل رقما قياسيّا في هدر الامكانيّة عندما عطلا خطّ السّكّة الحديد الذي يربط بين مراكش وتونس، مارّا بكلّ المدن الكبرى المغاربيّة. فهو شريان حياة، وقطعه كقطع الحياة. وهو أفضل وسيلة لتنقل الأفراد والسّلع في المنطقة المغاربيّة أهدته فرنسا لها لتستفيد منه في زيادة القيمة المضافة لمنتجاتها، ولكن للأسف الشّديد لم تحسن استغلاله، فعطلته، وأكله الصّدا. مظاهر هدر الامكانيّة لم تقف عند تعطيل السّكّة الحديد بل تعدّته الى تعطيل مؤسّسات بكاملها لعلّ أبرزها اتحاد المغرب العربي الذي وقع قادة المغرب العربي الخمسة على إقامته سنة 1989، ونادوا بالتّكامل الاقتصادي سعيا لتحقيق الاكتفاء الذّاتي... بل وضمّنته ثورة تونس المجيدة، دستورها  لسنة 2014 قبل أن ينسفه قيس سعيد بجرّة قلم ويضمّ القادة الخمسة الى قائمة «المخمورين». 
تعيش منطقة المغرب العربي أحلك أيامها. ولكن ليس بعد العسر الاّ اليسر. والأمل مازال معقودا على خيرة  شبابها وحنكة مثقّفيها وعقلائها ليجروها الى برّ الأمان لا سيما أنّ بذرة الحبّ المتبادل لازالت تختبئ في الصّدور، وجذوة الشّعلة المغاربيّة لن تخفت أبدا، ولي دليل على ذلك.
نفذت سنة 1990 دراسة ميدانيّة في كلّ من تونس والجزائر والمغرب، انتقلت في إطارها بسيارتي من طنجة الى الجزائر بصحبة أبنائي وزوجتي. وجدت صعوبة في عبور الحدود، وتجاوزتها بقدرة قادر. كانت سيارتي تحمل لوحة كتبت عليها عبارة «OI – المغرب». وهي لا تحمل أي معنى بالنّسبة للمواطن الجزائري عدا أنّ السّيارة من المغرب ولا يعرف أنّ سائقها تونسي. قطعت آلاف الكلمترات على الطّرقات الجزائريّة ذهابا وإيّابا من المغرب الى تونس ومررت بعشرات المدن والقرى الجزائريّة ولم أجد الاّ ترحيبا من المواطنين وابتسامات بريئة وتحيّات صادقة وخدمات مميّزة على الآخرين تكريما  ليس لشخصي ولكن لعبارة المغرب التي كتبت على سيارتي .
يخطئ من يعتبر أن المنطقة محكوم عليها بالتّنافر وباستحكام عداوة  أبديّة بين الشّعبين الجارين المغربي والجزائري، ذلك أنّ دروس التّاريخ تفنّد هذا التّوجّه وتعطيهما فرصة للتّوحد بدلا من التّنافر. أوروبا على الجانب الآخر من البحر الأبيض المتوسط تسكنها شعوب متنافرة عرقيّا ودينيّا وثقافيّا وعرفت حروبا متعدّدة سالت فيها أنهار من  الدّماء على مرّ العصور، ولكن في النّهاية وحدها العامل الاقتصادي ليخلق منها قوّة اقتصاديّة وبشريّة كبرى يعمل لها ألف حساب. لقد قلّد أبناء المغرب العربي، الأوروبيّين في كلّ أفعالهم وسلوكهم ولغتهم وحتّى في مأكلهم وملبسهم، ولكنّهم تناسوا – الى حين- تقليدهم في وحدتهم. كلّ مقومات الوحدة متوفّرة لدينا من دين ولغة وتاريخ ومصير مشترك... فواجب الوحدة ينادينا... هل من مجيب ؟