قبسات من الرسول

بقلم
الهادي بريك
من هو محمّد صلّى الله عليه وسلّم؟ ( قراءة في خلقه وخصائصه وسيرته ) الحلقة الثّامنة : لأيّ غرض يعاتب
 من يقرأ القرآن الكريم يجد أنّ اللّه سبحانه قد عاتب نبيّه محمّدا ﷺ مرّات. ومن يتدبّر الكتاب العزيز إبتغاء حسن الفقه وتسديد التديّن لا مناص له من هذا السّؤال . لأيّ غرض يعاتب اللّه سبحانه نبيّه محمّدا ﷺ  وهو أقرب الخلق كلّهم إليه إذ أثنى عليه مرّات بأنّه عبده. ومقام العبوديّة هو أسمى مقام؟ علينا تدبّر معنى العتاب ـ وليس هو غضب كما يهرف الذين لا يعلمون ـ من جهة، ومن جهة أخرى علينا الإستمتاع بحلاوة هذا النّظم العربيّ السّاحر الذي ضمّخ به سبحانه عتابه لأحبّ بشر إليه ﷺ. دعنا بداية مع مواضع العتاب ذكرا على الأقلّ وليس حصرا.
الموضع الأوّل : والله أحقّ أن تخشاه
﴿وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاه﴾ ورد هذا في سورة الأحزاب المدنية ـ الآية 37.
مناسبة النزول ـ و هي محلّ إجماع ـ هي إستنكافه ﷺ من نكاح زينب التي هي زوج مولاه زيد الذي يدعى ولده على عادة العرب في التبنّي قبل أن يقطع دابر التبنّي بهذه المناسبة. خشيته النّاس ﷺ كانت بسبب الحرص على إيمانهم وإنقاذهم بإذن اللّه سبحانه من النّار. ذلك أنّ العرب كانت تعدّ التبنّي ـ بتبعاته النّسبيّة والماليّة المعروفة وليس ما نسمّيه نحن اليوم كفالة يتيم ـ كأكل الرّبا والرّقّ. أي فقرة من فقرات الحياة لا تسير الحياة بدون كلّ ذلك. إذ تأصّل فيهم ذلك عرفا معروفا لا يعترض عليه معترض حتّى ينال سخطهم بل حربهم. 
كان ﷺ يتوسّل بكلّ وسيلة تقرّبه من قلوبهم عسى أن يؤمنوا. إذ هو حريص على إيمان كلّ إنسان. فإذا نكح مطلّقة إبنه زيد ـ وهو غير صلبيّ ـ فقد ناصب العرب العداء وسفّه أعرافهم في أقماحها ولا مجال بعد ذلك لدعوتهم إلى دين يوحّدون فيه اللّه توحيدا خالصا صافيا. لذا شقّ عليه هذا الأمر الذي رآه في نومه أيّما مشقّة فكان يخفيه في نفسه ويخشى أن يكون ذلك النّكاح نقطة الفراق الأخيرة بينه وبين العرب فيهلكوا. ذلك هو معنى خشيته النّاس التي عوتب عليها ﷺ. وليس المعنى الآخر الذي يهتك عصمته أو يظهره في مظهر الذي يؤثر الدّنيا على الأخرة أو رضا النّاس على رضا اللّه سبحانه. عوتب إذن لفرط حرصه على النّاس ورحمته التي شملت العالمين كما نصّ على ذلك الوحي الكريم نفسه.
الموضع الثّاني : عبس وتولّى
﴿عَبَسَ وَتَوَلَّىٰٓ. أَن جَآءهُ ٱلأَعمَى﴾ ورد هذا في الآيات الأولى من سورة عبس المكيّة.
ومناسبة النّزول ـ وهي كذلك محلّ إجماع ـ هي أنّه لمّا كان ﷺ منهمكا في دعوة بعض كبراء قريش ساقت إليه أقدار الرّحمان سبحانه الصّحابيّ الكبير المعروف : عبد الله إبن أمّ مكتوم ـ وهو رجل ضرير ـ يستفتيه في بعض ما عرض له. لم يشأ ﷺ أن يقطع عليه هذا الرّجل حواره مع هؤلاء الكبراء فعبس في وجه الرّجل الذي لم ير ذلك العبوس لأنّه ضرير. ومع ذلك عاتبه ربّه عليه. 
السّؤال هو : لم ضاق ﷺ بهذا الرّجل؟  ضاق به لأنّه يقدّر أنّ قطع حواره مع كبراء قريش ليس مناسبا لمكانتهم في المجتمع ذي التّركيب القبليّ العصبيّ الذي يؤمن النّاس فيه بإيمان أولئك الكبراء ويكفرون بكفرهم. تماما كما قال القائل بحقّ سنّة عمرانية : «النّاس على دين ملوكهم». لم يضق ﷺ بالرّجل ولا بسؤاله. إنّما ضاق به وبسؤاله في ذلك الموقف. تقديره أنّ فتح مسالك جديدة للدّعوة يقتضي طرق أفئدة الكبراء الذين يكون النّاس لهم تبعا. 
كثير من النّاس يعتقدون أنّه ﷺ عوتب على دعوة الكبراء أو الحوار معهم. لا أبدا. إنّما عوتب أنّه ضاق بهذا الرّجل في هذا الموقف لا في غيره. ومرّة أخرى يعاتب ﷺ من لدن ربّه ليس في حظّ دنيا إنّما في شدّة حرصه على هداية النّاس والرّحمة بهم إلى درجة الضّيق بسائل يسأل عن دينه حتّى لو كان بقطع ذلك الحوار. 
اللّه سبحانه يريد أنّ يعلمّنا ـ نحن جميعا ـ قيمة جديدة عنوانها أنّ الحوار مع غير المؤمنين فريضة مطلوبة دون ريب. ولكن ما ينبغي التعلّق بها إلى حدّ بعيد سيما أنّ مثل هؤلاء الكبراء المترفين في كلّ زمان وفي كلّ مكان لا ينشدون الحقّ الذي غاب عنهم إنّما ينشدون منازلهم في الدّنيا في عيون النّاس كبرا فاجرا وترفا رخيصا. ومن ذا فإنّ إهمال الفقراء والمساكين وأولي الضّرر من المؤمنين لأجل أولئك الكبراء ولأجل إيمانهم ليس مطلوبا ولا حتّى محلّ رضى. عتاب آخر يلحق به ﷺ لأجل تفانيه في خدمة دعوته وحرصه غير المحدود على هداية النّاس.
الموضع الثّالث : حتّى يثخن في الأرض
﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْض﴾. ورد هذا في سورة الأنفال المدنية ـ الآية 67.
والمناسبة كذلك محلّ إجماع. وهي أنّه ﷺ عفا عن أسرى المشركين في بدر مقابل فدية أو أن يتولّى كلّ أسير تعليم عشرة من أصحابه الكتابة والقراءة. وذلك بعد أن إستشار صاحبيه الكبيرين ـ أبا بكر وعمر ـ فلم يجمعا على رأي بينهما. وبعد أن تأخّر الوحي لمعالجة هذا الوضع الجديد إذ لم يكن له من قبل أسرى. لمّا كان منه ذلك جاء الوحي يعاتبه ويصحّح رأي الفاروق عمر نكالا بهؤلاء العتاة الذين ظلّوا يحاربون النّبيّ ﷺ وصحابته أزيد من عقد كامل وقتلوا منهم من قتلوا وهجّروا وعذّبوا. 
معنى العتاب هو أنّ إستخدام القوّة هنا مطلوب رسالة إلى الذين مازالت تحدّثهم أنفسهم بالعدوان على المسلمين أنّ الزّمن تغيّر والموازين تبدّلت وأنّ الإسلام الذي كان مطاردا محاصرا يلوذ اليوم بفضل اللّه وحده سبحانه بركن ركين. وفي هذا من معاني الإرهاب النّفسيّ الذي فيه. إذ أنّ العدوّ المصرّ على عداوته لا مناص له عند الغلبة والنّصر من رسالة قويّة جليّة أن إلزم حدّك أو السّيف في جنبك. وعندما تمرّ هذه العاصفات ويكون في الأرض إثخان وقوّة وأمن فإنّ الفيئة إلى المنّ أو الفداء مفهوم ومقبول. 
مرّة أخرى يُعاتب ﷺ ليس لحظّ دنيويّ ولكن لأنّه كان أرحم من الرّحمة نفسها بالنّاس. حتّى النّاس الذين لم يألوا فيه إلاّ ولا ذمّة. حتّى النّاس الذين أخرجوه ومن معه من ديارهم قهرا. حتّى أولئك لمّا كتب الله له النّصر عليهم في أوّل لقاء حربيّ مال فؤاده الكريم ﷺ إلى المنّ عليهم وقبول الفدية بدل الإجهاز عليهم. والله الذي لا إله إلا هو سبحانه لو ظلّ الفؤاد يتدبّر رحمة هذا النبّي الأكرم ﷺ ألف ألف عام لما إنتهى في ذلك إلى شيء تقرّ به العين لفرط رحمته التي قال عنها ربّه نفسه سبحانه : ﴿ وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين﴾. أجل. للعالمين. ومن العالمين أعداؤه. عدا أنّنا لا نقبل ذلك زعما منّا غيرة على الدّين. ليت شعري. من أغير منه ﷺ على دين اللّه ؟
الموضع الرّابع : عفا الله عنك لم أذنت لهم
﴿ عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُم﴾. ورد هذا في سورة التّوبة المدنية ـ الآية 43.
المناسبة التي هي محلّ إجماع هي أنّه ﷺ لمّا إستأذنه المنافقون في القعود عن المسير معه إلى تبوك لأجل ردع الرّوم الذين يجمعون قواهم لغزو المدنية أذن لهم. والعجيب أنّ ربّه ـ وفي السّياق ذاته ـ يقول له : ﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ﴾. يعني أنّه عاتبه بداية على الإذن لهم وأخبره نهاية أنّ عدم خروجهم معه كان أولى بسبب ما هو معروف من حركات النّفاق على مدار الأيّام.
 لم يُعاتب إذن ﷺ؟ إذا كان قعودهم أولى فلم العتاب؟ عوتب ﷺ لأنّه أذن لهم ـ ربّما ـ بالجملة كعادته ﷺ في التّسامح واللّطف والرّفق وعدم نبش الصّدور والتعمقّ في التّدقيقات الفرعيّة الجزئية وإيكال النّاس في بواطنهم إلى ربّهم سبحانه. 
عُوتب ﷺ لأنّه لو دقّق في عذر كلّ واحد منهم لعلم المنافق من غير المنافق إذ تخلّف عن المسير إلى تبوك مسلمون صادقون كما تخلّف عنها أصحاب أعذار وغيرهم. جاء هذا المعنى في الآية نفسها : ﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ﴾. 
لم يعاتب إذن على الإذن العام الذي أخبر عنه سبحانه أنّه كان ضروريا حتّى لا يخترم المنافقون الصّف وهو في حالة قتال ومسير طويل وساعة عسرة كما سمّاها القرآن الكريم نفسه. إنّما عوتب لأنّه أذن لهم بالجملة فكلّ من إستأذن أذن له. ومرّة أخرى لا يعاتب ﷺ في حظّ دنيا إنّما يعاتب في رحمته التي وسعت العالمين. عوتب لأنّ فؤاده أرحم من الرّحمة نفسها. لا ريب عندي في ذلك. ليست نفسه من النّفوس التي تلهث وراء معرفة السّبب بكلّ دقة وتتحرّى في نبش الصّدور. تلك هي نفسه وذلك هو مزاجه الكريم وذلك هو المبعوث رحمة للعالمين. وذلك من مطلق حيائه ﷺ إذ يكل باطن النّاس إلى ربّ النّاس
الموضع الخامس : ولولا أن ثبّتناك لقد كدت تركن إليهم
﴿ وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلا﴾. ورد هذا في سورة الإسراء المكية ـ آية 47.
ربّما يكون هذا الموضع من مواضع العتاب في القرآن الكريم هو الأشدّ. بل إنّه موضع فتنة لمن لا يرعى الحقّ في حسن قراءة هذا المشهد. ليس معناه أنّه ﷺ قابل للرّكون إليهم ركونا يأباه الإسلام ولا هو مؤهّل لذلك بأيّ حال من الأحوال لأنّه معصوم. إنّما المعنى مزدوج : المعنى الأوّل هو أنّه ﷺ لفرط رحمته غير المحدودة ولا المتناهية كان يبحث عن أيّ نقطة لقاء مع النّاس لعلّهم يفيؤون إلى الحقّ وينقذهم اللّه بذلك من الخلود في النّار. وكان ﷺ يحدب لذلك حدبا في حرص دائم لا يفتر. وربّما كان يحدّث نفسه بذلك ليل نهار صباح مساء ويتحرّى أيّ المسالك أولى بالإلتقاء معهم من دون شغب على عقيدة التّوحيد الصّافية الرّقراقة إذ كان المشركون متعلّقين بنظمهم العقدية القديمة تعلّقا عجيبا وكثير منهم ـ سيما قادتهم ـ يفعلون ذلك بكبر وصلف عجيبين. وكان ﷺ يبخع نفسه أسفا عليهم ويذهبها عليهم حسرات. ومن هذا شأنه فإنّه يشغل نفسه بالبحث عن نقطة لقاء تحفظ الإسلام في عقائده العظمى التي لا مساومة عليها وتحفظ سعادة هؤلاء المشركين بفيئتهم إلى التّوحيد في الآن نفسه. ولكنّه لم يقترف أيّ شيء ممّا يجور به على ما أنزل إليه من ربّه سبحانه. 
المعنى الثّاني ـ وقد ذكره إبن عبّاس نفسه ـ أنّ الكلام موجّه إليه هو ﷺ في ثوب عتاب. ولكنّ المقصود به هو كلّ من يخلف النّبيّ ﷺ في الدّعوة إلى الإسلام أن يلزم الحدود العقديّة المرسومة، فلا يركن عقديّا ـ وعمليّا كذلك فيما لا إجتهاد فيه ـ إلى أيّ كان بدعوى البحث عن نقطة لقاء معه. لأنّ القلوب بيد الرّحمان وحده سبحانه وهو الذي يهدي من يشاء ويضلّ من يشاء. وليس على الرّسول نفسه عدا البلاغ المبين. فكيف بمن يأتي في إثره. 
هذا المعنى الثّاني مهمّ جدّا بسبب أنّنا رأينا بأمّ أعيننا في زماننا هذا دعاة كبارا وعلماء أكبر وممّن لهم سابقة فقه وكدح ركنوا ـ ربّما بحسن نيّة واللّه وحده أعلم بما تكنّ الصّدور ـ إلى الذين ظلموا. هذا التّنبيه مهمّ جدّا لنا نحن اليوم وهو رسالة إلينا نحن. أمّا النّبيّ ـ كلّ نبيّ ـ فهو معصوم ومهما حدّثته نفسه فإنّه لا يقترف عملا عدا ما يرضي اللّه سبحانه.
خلاصة مواضع العتاب
 لم يعاتب ـ ﷺ ـ  في حظّ دنيا أو حظّ نفسه أو لأنّه مال عن الحقّ أو حاد عن الصّراط. حاشاه. فهو معصوم عن ذلك. إنّما عُوتب ﷺ بسبب فرط رحمته التي وسعت العالمين بشهادة ربّ العالمين. ومن يعاتب لأنّه أفرط في بثّ الرّحمة يكون عتابه نافلة أي هديّة. كما أنّه عوتب ﷺ لغرض آخر مهمّ جدّا وهو غرز النّاس كلّهم في كلّ زمان وفي كلّ مكان أنّ محمّدا ﷺ عبد عابد وبشر ككلّ بشر، فليس له من الإلهيّة مثقال حبّة من خردل أو أدنى من ذلك. ومن ثمّ فلا مجال لأنّ يفعل به كما فعل بمن قبله عيسى ﷺ إذ عبد من دون اللّه.