بهدوء

بقلم
د.ناجي حجلاوي
الإعجاز القرآني: المفهوم والإشكالات (الحلقة السادسة : نظريّة النّظم )
 تضمّن القرآن الكريم أحسن الحديث والمتشابه منه والمثاني، حتّى أنّ الأبدان تقشعرّ منه. وفي قصّة عمر بن الخطّاب دليل على الفعل القرآنيّ في الوجدان، فقد كان إسلامه علامة فارقة على التّحوّل الخطير من وضعِ المصمّم على قتل الرّسول ﷺ إلى حالة المؤمن به المذعن له تحت تأثير الخطاب القرآنيّ(1). وكذلك حادثة إسلام جبير بن مطعم المتمثّلة في سماعه للرّسول ﷺ وهو يتلو قول اللّه تعالى: «إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ»(2)  فقال: «خشيت أن يدركني العذاب(3). وما ذلك إلاّ لما حواه الخطاب القرآنيّ من دفق موسيقي ثاو وراء براعة النّظم وحسن التّأليف، وكلّ ذلك في تعالقِ بين الشّكل والمضمون وقوّة قوليّة نافذة.
ولا مراء في أنّ الجرجاني قد أجاد وأفاد في اعتباره، أنّ لا معوّل في الإعجاز إلاّ على النّظم. وليس الدّليل في الإتيان بنظم جديد لم يُعرف من قبل، وإنّما أن يكون هذا النّظم مجموعا إلى أجزاء تنتظم في سياق واحد، حتّى إذا استقام المعنى لِفاهمه أحسّ بالعجز على الإتيان بمثله، حتّى كأنّ القلب قد أُفرغ(4)، فاستقرّ في الذّهن أنّ الّذي جاء به الوحي كلام يفوق قدرة الإنسان، ولا سبيل لديه أن يأتي بمثله أبدا، ولا معجزة إلاّ ما كان من هذا القبيل الّذي يظلّ متعاليا. وعلى الرّغم من ذلك، وما أُوتيَه العرب من بلاغة، فإنّهم عجزوا عن الإتيان بمعان هي من قبيل المعاني القرآنيّة. وعلى هذه الشّاكلة، يتّضح أنّ موطن الإعجاز من منظور الجرجاني يكمن في صنعة النّظم الّتي اعتمدها القرآن، فالتّحدّي، حينئذ، قائم في نظم المعاني من حيث شرفها وما قام بها من الرّفعة. وأنّ القرآن لا تنتهي معانيه لما انطوى عليه نظمه من طاقة إيحائيّة بدلا ممّا تكون عليه ضروب النّظم الصّادرة من بشر محدود بأحياز الزّمان والمكان. 
 ولا يُخفي الجرجاني رأيه المتمثّل في أنّه لمّا توهّم البعض أنّ اللّه صرف قلوب البلغاء أن يأتوا بمثل عبارة القرآن ونظمه، فإنّ ذلك يستتبع أنّ قدر البلاغة العربيّة قد تراجع، والحال أنّ الأمر ليس كذلك، فبان بذاك أنّ الإعجاز يعود إلى أمر أعلى من الفصاحة، لتشمل مزيّة تكون فوق قدرة العرب في القول وذلك ظاهر في الآية الصّريحة «قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرا»(5). ومع ذلك يظلّ السّؤال قائما في ذهن الدّارس وهو كيف يُمنع المرء من الإتيان بشيء إذا كان قادرا عليه؟ وينتهي عبد القاهر الجرجاني، إلى أنّ الصّرفة بهذا المعنى المتعلّق بالأسلوب في غاية التّبسيط والتّهافت، لأنّ الفصحاء قادرون على الإتيان بكلام يشبه أسلوب القرآن ممّا يدعم أطروحة أنّ التّحدّي ألصق بالمعاني، وهي الّتي تبدو سهلة ومع ذلك ينعدم الإتيان بمثلها، وهو ما يسمّيه الجرجاني بالنّظم(6). يقول: «إنّ العرب سمعوا منه ما بهرهم وعظم في نفوسهم، ولكنّهم على حال أنسوا من أنفسهم بأن يأتوا بمثله إذا هم اجتهدوا، فحيل بينهم وبين ذلك الاجتهاد، وأُخذوا عن طريقة، ومُنعوا فضل المنّة، الّتي طمعوا معها في أن يجروا إلى تلك الغاية، وليبلغوا ذلك المدى الّذي أرادوا»(7). ويعالج الجرجاني أطروحة القائلين إنّ القرآن قد تحدّى العرب بالبلاغة من جهة الإتيان بهذا المقال ومن جهة العقل والخبر. ويخلص إلى بطلان ذلك، لأنّ ذلك يخرجه عن أن يكون وحيا، وأنّ الرّسول قد تلقّاه من جبريل، وأنّ ذلك من قبيل تكلّف المرء ما ليس أهلا له. 
وقد طبع الرّمّاني التّفكير البلاغي الّذي هو متين الصّلة بالإعجاز بما فصّله من طبقات البلاغة ومن براعة في اللّسان، فسار الّذين بعده في ما رسم من ضروب البيان، علما بأنّ ما يدرك بالتّعلّم من البلاغة وما يدرك بالتّعمّل له ليس صالحا بالضّرورة لمعرفة إعجاز القرآن، وأمّا ما يدرك بغير التّعمّل والتّعلّم، فهو السّبيل القويم لإدراك هذا الإعجاز(8)، حيث يعتدل النّظم، ويسلم ويحسن موقعه في السّمع، ويسهل في اللّسان، ويقع في النّفس موقع القبول، ويُتصوّر تصوّر المشاهد، حتّى يحلّ محلّ البرهان ويدلّ على التّأليف(9).
وهكذا تتوالد علامات التّأثير والإقناع، حيث المرامي البعيدة والمسالك الدّقيقة، وهو ما اختصره الرّمّاني بقوله: «إنّ البلاغة هي الطّبع». 
وإذا حصر الرّمّاني البلاغة في الطّبع، فإنّ أبا سليمان الخطّابي قد ذهب إلى أن الإعجاز يكمن فيما يتجاوز هذا الطّبع المتمثّل في البراعة البيانية واللّغويّة، إذ يتجاوز طاقة البشر من الأساس، لذلك انقطع العرب دونه رغم طول المدّة التي استغرقها زمن التّحدّي في حياة الرّسول(10). وما دلّ ذلك إلاّ على عجز العرب، وهو ما يحيل على أنّ القصد من عروبة القرآن تتجاوز طبيعة اللّسان إلى معنى الاكتمال وانعدام النّقص. 
ولئن ذهب البعض إلى القول بالصّرفة، وهي صرف الهمم عن المعارضة رغم توفّر الإرادة والفترة البيانيّة، فإنّ معنى الصّرفة، حينئذ، قد اقترن بالمعنى الّذي تحتلّه المعجزة. والمعجزة لا تصحّ أن تكون معجزة، إلاّ إذا خرقت العادة وكانت مناقضة لها ولا تُقاس بضخامة الحدث أو الحركة الجارييْن فيها.  
ولعلّ نظريّة النّظم، مع عبد القاهر الجرجانيّ، تمثّل ذروة التّفكير البلاغيّ عند العرب بمقتضى المعطى الثّقافيّ العربي، وبمقتضى تفاعلها مع المؤثّرات اليونانيّة البادية في كثير من المؤلّفات اللّغويّة والمنطقيّة. 
إنّ النّظم يمثّل منطلقا نظريّا يجعل النّصّ بنية متكاملة ونسقا كليّا تتفاعل أجزاؤه الصّوتيّة واللّفظيّة والتّركيبيّة والمعنويّة. ولكلّ أسلوب من الأساليب مجال يحاوره العقل البشريّ بحسب طاقة كلّ عقل على الفهم والاستيعاب. والمجاز هو مفخرة العرب، على حدّ عبارة عبد الحميد أحمد يوسف هنداوي(11)، في لغتهم لأنّها اتّسعت به وتجمّلت. والتّفسير اللّغويّ يدّعي المعقوليّة من خلال التماسه للمعنى الجاري في الألفاظ المعتمدة في الأساليب البلاغيّة كما دأب عليها اللّسان العربيّ. 
وهكذا بدت النّزعة التّأليفيّة في المنظور البلاغيّ العربي تتشكّل وتتبلور وتتّضح معالمها شيئا فشيئا، يقول شكري عيّاد في هذا الاتّجاه: «نظنّ أنّ كتاب البديع قد تأثّر بكتاب الخطابة لأرسطو، لأنّه كان أوّل محاولة منتظمة للخروج من أفق النّقد الجزئيّ إلى أفق التّقنين والتّعميم»(12).
ولقد دأب القرآن على مخاطبة العرب بما يفهمون باستعماله أساليبهم في الكلام وخصائصهم في التّشبيه وتوسّعهم في اللّغة، ولذلك انبرى علماء اللّغة يستنبطون منه فنون مجازه وصنوف بلاغته. وقد انصبّ هذا المجهود على تنظيم الاستعمال اللّغوي باعتماد القواعد والقوانين وباعتبار المقولات المنطقيّة والمعرفيّة، وإن بدا التّعارض ظاهرا بين القاعدة والاستعمال(13). 
وقد فُكّ هذا التّعارض سريعاً بمقتضى التوّسّع المتجاوز للاستعمالات العربيّة والفرديّة. فالدّلالة كامنة في اللّفظ وخصائصه وعلاقته بغيره من الألفاظ. وما حُذف من الألفاظ يُقدّر ويُفهم بحسب السّياق. فاللّفظ قد يحسن في مقام ولا يحسن في مقام آخر. والاهتمام بالتّشبيه والاستعارة والمجاز والكناية، إنّما هو من باب تقديرها أدوات تساعد على تحديد المراد.
واللاّفت للانتباه أنّ باب المجاز قد كان مدخلا للتّهجّم على أسلوب القرآن والطّعن فيه من بعض المنتقدين. ومصداق ذلك ما تعرّض له تحريم الخنزير من أخذ ورد،ّ وبالتّحديد في الآية: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ»(14)، إذ اعتبروا أنّ الآية ذكرت اللّحم دون الشّحم ودون الرّأس والمخّ والعصب وسائر الأجزاء بدعوى أنّ الخنزير لم يُذكر بصفة إجماليّة كذكر الميتة بأسرها وكذلك الدّم. ويبدو أنّ الّذي فات المنتقدين، هو أنّ البلاغة تذكر الجزء ويُراد منه الكلَّ المتضمّن لجميع الصّفات، والحقيقة أنّه لا فرق بين الشّحم واللّحم. 
والعقل وحده قادر على استنباط المراد من ذكر الجزء الملازم للجزء الآخر. فمن غير المنطقي أن يحرَّم لحم الخنزير دون غيره من الأجزاء المتعلّقة به، فالرّجل يقول لوكيله: اشتر لي بهذا الدّينار لحما أو بهذه الدّراهم،  فيأتيه باللّحم فيه الشّحم والعظم والعرق والعصب والغضروف والفؤاد والطّحال والرّئة وببعض أسقاط الشّـاة وحشـو البطـن والرّأس، ولحم السّمك أيضا لحـم، فهو اللّحم الطّريّ الّذي ذكره  القرآن. وللنّاس أن يضعوا كلامهم حيث أحبّوا إذا كان لهم مجاز. ولمّا كانت الآية المذكـورة آنفا تدلّ على أنّ كلّ الأجزاء المشبّهـة باللّحم تدخـل في باب العمـوم الوارد في اسم اللّحم، فإنّ القــول واقـع على الجميع.
وانظر إلى الآية الّتي تشير إلى أنّ السّائل من جوف النّحل يسمّيه القرآن شرابا، والعسل ليس بشراب وإنّما هو شيء يحوّل بالماء شرابا أو بالماء نبيذا وسمّاه شرابا لأنّ الشّراب يجيء منه باعتبار ما سيكون. ولمّا كان المجاز مفخر العرب في لغتهم، فإنّ آفاقها اتّسعت به وبأشباهه(15).
وما من شكّ في أنّ التّفسير اللّغويّ، إنّما ينهض على دلالة الألفاظ ومنه ينبع العمل التّأويليّ الذي تسمح به طبيعة اللّغة المرنة لما تحتوي عليه من سعة آفاق دلاليّة. ومن ثمّ تتلوّن المعاني بألوان المقامات وضروب السّياق المختلفة. ومن ثمّ تولّد الاهتمام بقضايا الائتلاف والاختلاف والتّلاؤم والتّنافر بين الألفاظ والأصوات. 
ولقد اضطلع الفكر الاعتزاليّ بالذَّود عن اللّسان العربيّ بوصفه اللّسان الحاوي لمعاني القرآن. ومن ثمّ تصدّى لطعنات الفئات المتوثّبة الّتي لا تتورّع عن التّشكيك في خصائص هذا اللّسان وقدرته البيانيّة الّتي تمثّل الأساس الّذي ينهض عليه إعجاز هذا الكتاب(16). 
ولمّا أشار الجاحظ، على سبيل المثال، إلى أنّ المعاني ملقاة على قارعة الطّريق، فهي إشارة إلى أنّ الارتباط بالمعنى يقتضي الإقرار بتساوي حظوظ الأجناس المتعايشة والمتنوّعة في الانتماء الفئوي والاجتماعي، وإن اختلفت في الأشكال اللّغويّة والألسنة وضروب الصّياغة(17). وإذا اعتبر الجاحظ المعاني عبارة عن غوان والألفاظ معارض، فإنّ ذلك يحيل على الفصل بين الأشكال والمضامين في فضاء ثقافيّ يعتبر اللّفظ جسدا والمعنى روحا، واللّفظ زائل والمعنى باق وكلّ ذلك في رؤية لا تنفصل عن التصوّر العام للوجود، فاللّه هو الباقي إزاء الكون الزّائل.
الهوامش
(1) تجدر الإشارة إلى وجاهة ما ذهب إليه عباس محمود العقاد من أن إسلام عمر يعود إلى أسباب عديدة متضافرة نفسيّة واجتماعيّة وما الحادثة الّتي جرت له مع أخته وزوجها إلاّ عرَض وقدح. انظر عباس محمود العقّاد، عبقريّة عمر، منشورات المكتبة العصرية، بيروت، د ت ، ص81 وما بعدها.
(2) سورة الطور52، الآيتان 8،7.
(3) أبو بكر الباقلاّني، إعجاز القرآن، ص10.
(4) الجرجاني، الرّسالة الشّافية، م س، ص133.
(5) سورة الإسراء 17، الآية 88.
(6) الجرجاني، الرّسالة الشّافية، م س، ص152.
(7) الجرجاني، م ن، ص ن.
(8) انظر الجرجاني، الرّسالة الشّافية، وبالتّحديد في قسم: تعليقات من جاؤوا بعد الرّماني على آرائه البلاغيّة واقتباسه من تلك الآراء، م س، ص165.
(9) انظر الجرجاني، م ن،  ص166. 
(10)  انظر الخطّابي، بيان إعجاز القرآن، م س، ص21.
(11)  عبد الحميد أحمد يوسف هنداوي، الإعجاز الصّرفي في القرآن الكريم، م س، ص9.
(12)  انظر شكري محمّد عياد، كتاب أرسطوطاليس في الشّعر، دار الكتاب العربي، القاهرة، 1967، ص233.
(13) انظر حمّادي صمّود، التّفكير البلاغي عند العرب، م س، ص100.
(14)  سورة المائدة 5، الآية 3.
(15)  انظر الجاحظ، الحيوان، ج5، م س، ص ص 423،426.
(16) انظر أحمد كمال زكي، الحياة الأدبيّة في البصرة إلى نهاية القرن الثّاني للهجرة، منشورات دار المعارف، القاهرة، 1971، ص76.
(17)  انظر حمّادي صمّود، التّفكير البلاغي عند العرب، م س، ص 175.