الأولى

بقلم
فيصل العش
العبوديّة لله، تحرّر أم استلاب؟
   (1)
اختار اللّه سبحانه الإنسانَ من بين مخلوقاته ليكون خليفة في الأرض، يستعمرها ويحافظ عليها. لكنّ اللّه لم يجعل تنفيذ هذا التكليف جبريّا أي بصفة آليّة كسجود الملائكة وتسبيح مَن فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِى ٱلْأَرْضِ ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ، كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ﴾(1)، بل جعله إراديّا أي باختيار الإنسان. فالإنسان الذي خصّه اللّه بالسّمع والبصر والفؤاد ﴿قُلْ هُوَ ٱلَّذِىٓ أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلْأَبْصَٰرَ وَٱلْأَفْـِٔدَةَ﴾(2)، وألهم نفسه فجورها وتقواها ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾(3)  له أن يختار إمّا أن أن يكون مصلحا وإمّا أن يكون مفسدا. هو امتحان للإنسان (ابتلاء) ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾(4) والإنسان هو الذي يختار بكامل الحرّية كيفيّة اجتيازه، وعليه أن يتحمّل نتيجته التي سيعرفها في الآخرة (يوم الحساب). 
ميّز الخالق سبحانه الإنسان عن المخلوقات الأخرى، الحيوان والنّبات والجماد وكذلك الملائكة، بأنّ جعله كائنا راشدا ومكلّفا، ولا يتأتّى له ذلك إلاّ بكمال الحريّة على جميع مستوياتها الكونيّة، ووفق ذلك يتحمّل مسؤوليّة جميع أعماله وتبعاتها. 
إنّ الإستخلاف في الأرض أمانة والأمانة مسؤوليّة، ولأنّها مسؤوليّة فهي تتطلّب ممّن يتحمّلها أن يكون حرّا ذا إرادة، لأنّ فاقد الإرادة لا يمكن بحال من الأحوال أن يتحمّل المسؤوليّة، فكيف تجتمع الحرّية مع العبوديّة؟ وهل تعني العبوديّة للّه الاسترقاق بما تحتويه الكلمة من معنى؟ وهل العلاقة ببن العبد وربّه هي علاقة استلاب  أم هي علاقة تحريريّة للعبد ممّا سوى الخالق؟
 (2)
تختلف العبوديّة للّه عن العبوديّة لغير اللّه، فالأولى على عكس الثّانية مقترنة بأعلى درجات الحرّية، إذ العبوديّة للبشر أو الإسترقاق قسريّة في حين تكون العبوديّة للّه اختياريّة ﴿فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾(5)  والأمانة لم تفرض فرضا على الإنسان بل هو الذي حملها بكامل الحرّية. ويوضّح لنا اللّه سبحانه وتعالى هذا الاختلاف بنفسه في سورة النّحل ويضرب لنا في الأيتين المواليتين مثلا يحدّد به الفارق بين عبودية البشر للّه وعبوديّة المسترق المملوك لمالكه البشري: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَّمْلُوكًا لَّا يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ، وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا، هَلْ يَسْتَوُونَ، الْحَمْدُ لِلَّهِ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ، هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ، وَهُوَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾(6) فالعبد الذي يعيش الرّق لا يقدر على شيء لأنّه لا يملك حقّ التّصرّف، وهو أبكم لاحقّ له في التّعبير أو إبداء الرّأي وإنّما ينفّد أوامر مولاه، فهو إذا «كامل الاستلاب العبودي لمولاه» على حدّ تعبير الدكتورالمرحوم «محمد أبو القاسم حاج حمد». أمّا عبداللّه فله الحقّ في التّصرّف في ما أعطاه اللّه من رزق وهو يسعى إلى تحقيق صفات المعبود بإرادته ومنها العدل. فلا مجال لسحب علاقة (السيّد- العبد) على علاقة (اللّه -العبد) أو مقارنتهما.
 إن العبودية للّه تعنى الانقياد التّام والطّاعة الكاملة له، وهو ما يعني التّحرّر من العبوديّة لغير اللّه والتحرّر من الانقياد لأيّ جهة ما أوالرّضوخ لها، وهذا هو المعنى الحقيقي لـ«أشهد أن لا إله إلاّ اللّه». العبوديّة للّه تحرّر حقيقي للإنسان من كافّة الأغلال والقيود التي لطالما قيّدت إرادته وفكره وجسمه وروحه، والتي سلبت منه نعمة الحرّية والحياة الآمنة والعيش الهانئ خلال مسيرته الحافلة بالعناء.
ففي غياب العبوديّة للّه، يعيش الإنسان أنواعا من العبوديّة من أشدها خطرا وأبعدها أثرا خضوع الإنسان لإنسان مثله، يحلّ له ما شاء ومتى شاء ويحرّم عليه ما شاء كيفما شاء، ويأمره بما أراد فيأتمر، وبعبارة أخرى يضع له نظاما للحياة ويفرض عليه منهجا ليتّبعه، فلا يكون بإمكانه إلاّ الإذعان والتّسليم والخضوع. 
إنّ إقرار العبودية للّه هو دعوة التّحرّر الحقيقي للإنسان ليس من قيود الظّلم والامتهان والاستعباد فقط(القيود الخارجيّة)، وإنّما أيضا من من قيود النّفس الجامحة ونزعاتها الجنونيّة كالأنانيّة وحبّ الشهوات(القيود الدّاخليّة) كي تفسح المجال للعقل للتّدبّر بحريّة واتخاذ القرارات بشكل سليم، وهو ما يتيح للإنسان شقّ طريقه بشكل أفضل وأداء دوره بالصّورة المطلوبة.
وكلما ارتقى العبد في مسالك العبوديّة للّه يشتدّ شعوره بحرّيته، فلا يقول ولا يفعل إلّا ما تمليه عليه إرادته الحرّة. وكلّما انحطّ في مسالك العبوديّة للّه تقلّصت إرادته وارتبطت بقوى أخرى غير اللّه كالشّهوات والخوف من السّلطان، وبذلك يصبح كالرّقيق الذي يشترك فيه عدّة مالكين متشاكسين، كلّ منهم يشده إلى ناحية حتّى يكاد يتمزّق من شدّة التّجاذب. قال اللّه تعالى:﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا، الْحَمْدُ لِلَّهِ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾(7).
لقد أراد اللّه أن يكون الإنسان حرّا كامل المسؤوليّة في ما يقرّره لحياته، يمارس إرادته كما يشاء سواء اختار سبيل الحقّ أو سبيل الباطل، قال تعالى: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً﴾(8) لهذا فإنّ العبادة التي يرضاها اللّه للإنسان والتي من شأنها تأهيله ليكون خليفته في الأرض هي عبادة أحرار وليست عبودبّة ورقّ. 
إنّ العبوديّة للّه هي نفي قاطع لكل أنواع العبوديّة الأخرى وهي تحقيق فعلي لحرّية الإنسان وفي هذا يقول أحمد بن خضرويه البلخي: «في الحرّية تمام العبوديّة وفي تحقيق العبوديّة تمام الحرّية»(9) ولكن كيف تتحقّق حريّة الإنسان وما هي الأدوات التي يمتلكها لممارستها؟
(3)
يُردّ مفهوم الحرّية إلى تكوين الإنسان نفسه، باعتباره الكائن المركّب على مقومات الحرّيّة : ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾(10) و﴿ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ﴾(11) فالسّمع والبصر والفؤاد هي مقومات الوعي التي تجعل الإنسان في حالة تدامج وتواجد. وبوجود هذه الأدوات يكون الإنسان مدركا عاقلا، مميّزا بين الخير والشّر والحقّ والباطل، مأمورا بالبحث والنّظر في الكون بتأمّل وتدبّر، سواء في الكتاب المسطور (القرآن) أوفي الكتاب الكوني الطّبيعي بكامل الحرّية، ولهذا ماثل الله آفاق حريّة هذا الإنسان بحركة الطّير في جوّ السّماء بقوله:﴿أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾(12) وقوله في آية أخرى:﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى ٱلطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَٰٓفَّٰتٍ وَيَقْبِضْنَ، مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا ٱلرَّحْمَٰنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ بَصِيرٌ﴾(13). 
لقد أطلق اللّه خليفته (الإنسان)، حرّا طليقا، ليتدامج بقوّة السّمع والبصر والفؤاد مع الكون كلّه بحركته ومظاهره وآياته كما هي حالة الطّير في جوّ السّماء، لم يخلقه حجرا مقيّدا إلى المكان لا ينفعل إلاّ بآليّة الحرارة والبرودة. ولم يخلقه نباتا يحسّ وهو مأسور في المكان. ولم يخلقه بهيمة تسعى في كلّ ما حولها من الأرض، فإن تغيّرت البيئة الطّبيعيّة انقرضت، لكن جعله إنسانا مزوّدا بقوّة السّمع والبصر والفؤاد، ثمّ ماثل آفاق حرّيته بحركة الطّير في جو السّماء . يقول الدّكتور أبو القاسم حاج حمد «مثال الطّير في جو السّماء، دلالة الحرّية في أرقى مناظرها المرئيّة بالعين النّاظرة، الطّائر بجناحين، والإنسان بثلاثة أجنحة، السّمع والبصر والفؤاد وفي الكون كلّه، وليعلم الإنسان من بعد أن أخرجه اللّه من بطن أمه لا يعلم شيئا. والطّائر رمز الحرّية في أدبنا المعاصر، فمن ذا الذي يفتري على اللّه كذبا ويقيّد معنى الحرّيّة عند هذا الإنسان؟» (14) .
(4)
إنّ الانسان خليفة اللّه –سبحانه- في عمارة الوجود، ومن ثمّ فإنّ حريته هي حريّة الخليفة، وليست حرّية سيد هذا الوجود، إنّه حرّ في حدود إمكاناته المخلوقة له، وهو حرّ في إطار الملابسات والعوامل الموضوعيّة الخارجيّة التي ليست من صنعه، والتي قد يستعصي بعضها على تعديله وتحويره وتغييره، وهو حرّ في إطار أشواقه ورغباته وميوله التي قد لا تكون دائما ثمرات حرّة وخالصة لحرّيته وإرادته، وإنّما قد تكون أحيانا ثمرات لمحيط لم يصنعه، ولموروث ما كان له إلّا أن يتلقاه. لهذا فإنّ هذا الخليفة في حاجة ماسّة لعلاقة متواصلة مع المستخلف (اللّه) ليستمدّ منها الطّاقة اللاّزمة لتجاوز ضعفه ﴿وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا﴾(15) وليتصدّى للمعيقات التي تسعى إلى تحديد حرّيته. فما هو نوع هذه العلاقة وكيف تتجسّد في حياة الإنسان؟.
الهوامش
(1) سورة النور - الآية 41
(2) سورة الملك - الآية 23
(3) سورة الشمس - الآية 7-8
(4) سورة الملك - الآية 2
(5) سورة الكهف - الآية 29
(6) سورة النحل - الآيتان 75-76
(7) سورة الزمر - الآية 29 
(8) سورة الأحزاب - الآية 72
(9) السُلمي، طبقات الصوفية، تحقيق: نور الدين شريبة، الطبعة الثالثة، (القاهرة: مكتبة الخانجي، 1969م)، ص 94
(10) سورة النحل - الآية 78 
(11) سورة السجدة - الآية 9 
(12) سورة النحل - الآية 79  ولقد جاءت هذه الآية مباشرة بعد الآية التي يذكر فيها الله سبحانه خلق الإنسان وتمكينه من السمع والبصر والفؤاد .
(13) سورة الملك - الآية 19 
(14) أبو القاسم حاج حمد، الحرية في الإسلام، م. س، ص 23
(15) سورة النساء - الآية 28