قبل الوداع

بقلم
فيصل العش
التنمية البشريّة .... أوّلا

 بعد ثلاثين عاما من تجربة «الدولة الوطنية الحديثة» التي قادها بورقيبة وزملاؤه من السياسيين، فشلت تونس في اللّحاق بركب الدول المتقدّمة واكتفت بموقع ضمن ما أطلق عليها مجاملة «دولا في طريق النمو» ولم تراوح مكانها في سلّم الرقّي والتقدّم المنشود ولم تتحقق الأهداف التي رسمها بورقيبة في بداية حكمه والتي كان يطمح إليها التونسيون بعد خلع جبّة «الاستعمار». وكان من نتائج هذا الفشل بروز  «بن علي» وزبانيته وانقضاضه على كرسي قرطاج ليحكم البلاد ربع قرن بقبضة من حديد ، ويمارس سياسة التهميش في أقصى مظاهرها وفي جميع أبعادها الإقتصادية والثقافيّة والتعليميّة ، محاولة منه لتأبيد حكمه وفرض سيطرته على مفاصل الدولة. فرضخ الشعب تحت نار الذل والهوان عقوداً. ومن تحت الرماد خرج الشعب عن بكرة أبيه في أكبر ثورة سلمية في تاريخ البلاد، دون زعيم أو قائد في جميع المناطق  ليواجه رصاص القنّاصة بصدور عارية وضحّت الأمهّات بفلذات أكبادهن فاستشهد منهم من استشهد، وجرح منهم من جرح، ولم يتزحزح الشعب من مكانه حتى تزلزلت الأرض تحت أقدام الطاغية فولّى هاربا وتحرر الشعب  من قيوده. 

شعب عاش ربع قرن من الاستبداد والقمع والذّل وشباب تربّى على ثقافة بلا هويّة ونخبة انقسمت بين موالاة تسوّق لبن علي ورغباته وتبرر له عنفه واستبداده، ومعارضة مطاردة لا يحق لبعضها التواجد ولا يسمح لبعضها الآخر بالنشاط والالتحام بالناس، كل هؤلاء يجدون أنفسهم بين عشيّة وضحاها ينعمون بالحريّة  بلا قيد ولا حاجز فماذا عساهم فاعلون؟ 
 استفاق الجميع، بعد نشوة الانتصار، على وقع صراعات حادّة بين مختلف النخب السياسية والفكرية التي اعتلت منصّة الثورة وتسلّمت المشعل من الشعب لتقرير المصير وقيادة البلاد، وعلى حركة مطلبية قلّ وجودها في صفوف الطبقة الشغيلة وجموع الموظفين والإطارات من جميع الاختصاصات تقودها أكبر منظمة شغيلة في البلاد من أجل الرفع في الأجور والحصول على امتيازات حُرِمَ منها الجميع طيلة عشريتين كاملتين . كما استفاق الجميع على وقع ارتفاع وتيرة العنف والحطّ من هيبة الدولة ومؤسساتها لنكتشف، كلّنا، أن البلاد بدأت في جني ثمار ما فعله بن علي في الشعب ونخبته وأننا نعيش مرحلة تفريغ للكبت والقمع والحرمانّ. أصبحت أغلب النخب فاقدة تماماً لمعاني الحوار والاختلاف وقبول الآخر وصار جلّ شباب المجتمع (المسييس وغير المسييس) متمرّدا لا يريد أن يتقيد بأي نوع من القيود، فانتشرت ظواهر التشاجر و«البلطجة»، وعشق مخالفة القوانين، والحنين إلى المواجهات.
وبعد سنتين ونيف من الأمل الممزوج بخوف عن مصير ثورته، أصبح الشعب التونسي أو لنقل الجزء الأكبر منه يتساءل عن مستقبل انجازه الذي وقفت له الأمم الأخرى إجلالا وتعظيما وتحّدثت عنه وسائل الإعلام بإطناب، في الشرق وفي الغرب وانتقلت عدواه إلى شعوب عربية أخرى. وغدا البعض يشكك في مصير هذا الإنجاز ويرى أن تضحيات الفقراء والمستضعفين في تونس قــد ذهبـت سدى وأن تحقيق التنميـــة أصبح حلمـــا صعب المنـــال وتعالت أصوات من كهوف الزمن الغابر تتباكى عهدي بورقيبــة وبن علي وتــروّج إلى بضاعة قديمة في ثوب جديد. 
إننا إذا في وضع انتقالي صعب، أمام كتلة بشرية مشحونـة تريد أن تفرّغ ما بداخلها من طاقة سلبيّة تراكمت عبر السنين ، فإذا تركناها تفرّغ شحنتها بعفوية في الخصام والاقصاء معتمدة علــى أداة العنـف في غياب ادوات أخرى للتفريغ، فإنها ستأتي على الأخضر واليابس ولن تكون للعقــلاء فرصة للبناء والتشييد حتّى يلج الجمـــل في سمّ الخيـاط. أمّــــا إذا عملنا على التحكّم في عمليّــــة التفريغ هذه ونجحنا في تحويل طبيعتها إلى طاقة إيجابيّة، فإننا سنكون قد نجحنا في أهمّ مراحل ما بعد الثورة ويمكن أن نلج بثبات في مرحلة بناء الدولة وتحقيق التنمية الشاملة. 
ليس المهم أن تنصبّ اهتماماتنا في اللحظة الراهنة على التنمية الاقتصادية وكيفيّة جلب الاستثمارات وتحقيق ارتفاع في مؤشرات التشغيل، فهذا لا يمكن أن ينجح في وضع مضطرب ومتشنّج . المهم الآن أن نبدأ بمعالجة شخصية «الانسان التونسي ذاته» فى جميع جوانب حياته (النفسية والروحية والمهنية والإجتماعية والمادية والصحية والبدنية والأسرية). إنها «التنمية البشرية» في أرقى مظاهرها. إنها عمليّة معقّدة لكنها ليست صعبة.
علينا أولا أن لا نتراجع في نشر الحرية وثقافة الاختلاف وفن الحوار المتحضر بين مختلف مكونات المجتمع التونسي وخاصّة الشباب منهم، فهم الأكثر نشاطاً وتأثيراً، كما أنهم الأكثر قابلية واستعدادا للتعلم من غيرهم. وعلى النخبة أن تتنازل في داخلها عن شرعيتها النضالية والانتخابية والعلمية وتضع نفسها في خدمة الجماهير. عليها أن تغيّر طريقة حوارها مع الناس في الشكل أولا والمضون ثانيا، فلا مجال للجلوس مثلا على منصّة مرتفعة للخطابة في الناس ولا نتائج ترجى من عمليّات التلقين. إن الشباب في حاجة إلى من ينزل إلى ميادينهم، يجلس معهم ويصبر على أذاهم ويتحدّث لغتهم لكن بمضمون إيجابي ومتفائل، يبني ولا يهدم.
على الطاقات الفاعلة والمؤمنة بالقضية الوطنيـــة، الطامحـــة إلى تغيير حقيقي أن يجعلوا من «التنمية البشرية» أساس مشروعهم الوطني وأن يعملوا على تحقيقها من خلال أربعة محاور متلازمة : «نشر ثقافة الحوار والتسامح والتعاون والنهوض بالتربية والتعليم لبلوغ مستوى عالٍ ورفيع والالتزام بالديمقراطية منهجا وسلوكا وإستخدام التكنولوجيات الحديثة فى العمل والإنتاج» ولنا في تجربة الشعبين«الفنلندي» و «الماليزي» خير مثال فقد استطاعا أن يحوّلا بلديهما من دولتين فقيرتين جداً إلى دولتين غنيّتين ومتقدّمتين في زمن وجيز.
فهل يستطيع التونسيون أن يحوّلوا اتجاه سفينتهم نحو هذا الهدف المنشود لترسو بميناء التقدم والرقي أم سيواصلون في نفس المسار والله وحده يعلم مآل سفينتهم ومرساها؟ 
وحتّى نلتقي، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه .