تمتمات

بقلم
رفيق الشاهد
صرخة في صخب صامت (12) - الأخيرة
 تيقّنت «نوفل» أنّها ليست خللا وإنّما تتمّة لجمال وروعة الكون. إنّها الجزء الذي لا يكتمل بدونه الكلّ. وهي روح خلق اللّه. وهي تعتقد أنّ اللّه أحسن خلقها وجعلها في أحسن تقويم. ولا اعتراض على تدبيره طالما خصّت بالشّيء النّادر والنّفيس. تعلّمت «نوفل» من خلال قراءاتها الفلسفيّة كيف تكون الاسم الفاعل لا المفعول، فلم تكترث لما يشاع من أفكار سيّئة. وواصلت ذلك النّسق من التّفكير الذي صنع منها المرأة المهابة التي أغوت الجميع، ولا أحد تجرّأ واقترب منها.
أصبحت «نوفل» منذ مدّة يراودها قلق مأتاه سؤال متكرّر وملح وهو  «ماذا لو تجرّأ أحدهم وطلب يدها من البابا ؟».  المسألة تبدو بسيطة، وما هو إلاّ غشاء رقيق  يمكن فضّه بسهولة ولكن كلّ يوم يمرّ على «نوفل» يراكم على رأسها خوف جديد حتّى أصبح الغشاء قشرة سميكة يصعب على الفرخ بداخلها فقسها دون الاستعانة بمطرقة من الخارج. كم يمكن لأبيها الصّبور أن يتحمّل هذا الحرج، وماذا بإمكانها أن تفعل لتكسّر الصّدفة التي أصبحت من فولاذ؟
لابدّ أن تتصرّف بحكمة حتّى لا تزيد المسألة تعقيدا وتُدخل والدها في متاهات أخرى، وتزيد في الطّين بلة. هي كثيرة القرب من والدها الذي تعوّدت تشاركه أفكارها وهواجسها والبرامج المستقبليّة، ولم تجد منه إلّا تعاونا ووفاقا على كلّ ما بادرت به لرسم حياتها. وكانت لا تخفي عليه شيئا إلاّ ما أخفى نفسه، أي أنّه رغم كلّ هذا القرب، بقيت هناك زوايا خفيّة لم يمكن لها إضاءتها لأبيها، أشياء تعتبرها جدّ خصوصيّة. هو كذلك يشاركها هذا الرّأي باعتبار أنّه لم يبادر يوما بتسليط الضّوء على هذه الزّوايا المظلمة والتي لم تكن منسيّة ولكن ظلّت متروكة لأجلها المحتوم الذي بقي لمشيئة الأقدار.
أبوها يعتقد أنّ ابنته ذكيّة بما يكفي لتعالج مشكلاتها الخصوصيّة وتسطّر حياتها. ووضع نفسه تحت الطّلب والتزم في قرارة نفسه وكما تسرب لنوفل أن لا يدّخر جهدا في الاستجابة لخيارات ابنته.  وعلى قدر اعتقاده في قدرتها على معالجة المسائل الصّعبة والمعقّدة فإنّه يخشى عليها بقدر خشيتها عليه من مجابهة مسألة الزّواج التي لم تعد تحتمل التّأخير. وثقل عليه أن يبادر يوما ويتناول في حديثه المعتاد مع ابنته - وإن كان عبر التّراسل الإلكتروني هذا النّمط الجديد من التّقارب عن بعد الذي فرض نفسه بإيعاز من ابنته «نوفل»- لمعرفة موقفها حتّى يتبنّاه كما هو أو بعد تعديله بالتّوافق بما يتناسب وما يراه.
هل كان بالإمكان أفضل ممّا كان؟ شارفت «نوفل» على الثّلاثين بقامتها المكتملة وجمالها الفتّان. لمّا كانت إلى جانبه وبالقرب منه كانت حبّات سبحته بعدد السّنين بيضاء ناعمة يلفها بلهفة منشرحا لا يعكّر صفوه شيطان. ولكنّها لم تعد قريبة منه وأصبح غيابها يطول أكثر فأكثر، فتطول سبحته وتثقل بحبّات رماديّة قاتمة تسرّبت إليها فلا يكمل دورتها إلاّ بشق الأنفس، وفي كلّ مرّة يعتصر قلبه الذي سلك طريقا أطول، فيستهلك من مخزون الزّمن بإِسْراف حتّى الاستنزاف.
أدرك أنّه لم يعد يتحمّل منذ أن أخفى على «نوفل» وللمرّة الأولى النّوبة التي أصابته ونقل على إثرها في عجل إلى المستشفى. وإن كانت هذه النّوبة الأولى خفيفة إلاّ أنّها مزعجة باعتبارها نوبة قلبيّة وبأنّ التّالية عادة ما تكون أخطر. المهمّ بالنسبة إليه أن لا يزعج ابنته الغالية بهذا الخطب، وقد أقنع نفسه أيضا أنّه لم يخف عنها شيئا إلاّ بقدر ما أخفى نفسه. وكان ذلك لفترة قصيرة لمّا فاجأته عبر مكالمة هاتفيّة تستلطفه بعد أن اطمأنت عليه من والدتها التي كانت باتصال كثيف ومستمر معها، تتابع تطوّر صحّة أبيها بكلّ حرقة استجابة لرغبة «بسمة» الملحّة على البقاء حيث هي ولا فائدة من العودة لزيارتهما لغاية في نفسها هي قضتها.
أصبحت «نوفل» قلقة من ثقل هذه الأحداث المؤثّرة وإن كانت متوقّعة باعتبارها معرضة للمصائب مثل غيرها ولا تغيب عن حسبانها. بل إنّها تعتقد أنّ لذة الحياة في بساطتها التي لا تكتشف إلاّ بعد الابتعاد عنها والحرمان منها. دوّنت يوما تعليقا حول «الكبر في هدوء» الذي اعتبرته مأساة جديدة: «... هل يصحّ أن نعتبر حياتنا نحن كذلك؟ لا، بالطّبع حياتنا أكثر ديناميكيّة في مشاعرنا المتلاطمة بين قمم السّعادة وقعور البؤس والشّقاء، ونحن نجري وراء آمالنا البعيدة هناك في الأفق القزوردي. حياتنا تراجيديا لا رتابة فيها والدّليل تفاوت الأعمار عند الموت الذي أصبح مفاجئا لا نستعد له. إنّنا نعيش حياتنا اليوميّة بثقل همومها، إنها معاناة سيسيف القرن الواحد والعشرين بين أمواج عاتية، فمرّة فوق قممها وأخرى في غياهب غورها. ما أسعدنا بحياة نستحق أن نفتخر بعيشها وأن نستمتع بسجل معركتنا من أجل مبادئ انسانيّة مفقودة فقط لأنّنا آمنا بها. والمعارك المقدسة هي التي تدار من أجل إثبات إنسانيّة الإنسان ما أحوجنا إليها حتّى جَعَلَ الجريُ وراءها حياتَنا تستحق كلّ هذا الفخر والاعتزاز. أنا يكفيني شرفا أنّني لم أعش حياة راكدة متفرّجة في أحداثها، بل خضت فيها وحركت أمواجها ولم أبالِ متى ألقى حتفي ولا بأي أرض أموت. ...».
كلّ هذا جعل «نوفل» تهتم بمآسي من مثلها من مزدوجي الجنس وما يلقونه من اضطهاد وتفرقة باعتبارهم أقلّية. بل هي تعتقد أنّهم أغلبيّة في غياب تعداد حقيقي لنسب الذّكورة والأنوثة عند كلّ فرد وفي غياب مقاييس موضوعيّة لتحديد هذه النّسب. كما أصبحت مقتنعة بضرورة التّأثير في ثقافة تنبذ جميع هؤلاء المزدوجين وتستهجن سلوكهم. ولا يكون ذلك إلاّ بالوقوف إلى جانبهم والاستماع إليهم والدّفاع عنهم، وإن لزم الأمر إدارة المعارك المشروعة التي تتطلّب التّضحية بكلّ غال ونفيس طالما الأمر يستحق. 
لم تخْفِ نوفل شيئا إلاّ ما أخفى نفسه ولم تخْفِ مساندتها «للنّاس الّي تعاني» على لسان الفنان لطفي بوشناق ولا للأقليّات المسحوقة بكامل أقطار الأرض من ضحايا الميز العنصري والإثني والعقائدي وكذلك من يعيش معاناتها. فكيف لا تهتمّ بذويها وكيف لا تفتخر بمثل هذه المواقف التي أصبحت تدوّن وتسجّل في السّيرة الذّاتية لمن يريدون الاعتلاء إلى مراتب الشّخصيّات المرموقة. هي لم تبحث أبدا عن الشّهرة ولا أن تزوّق سيرتها الغنيّة حتّى الثّراء كفاءة علميّة ومساهمات فكريّة بشهادة المنظمات الدّولية. كلّ هذا لحاجة في نفسها قضتها. فلم تتأخّر نوفل يوما على حضور اجتماع دعيت إليه بالمشاركة أو الحضور. وتعوّد القائمون على الأنشطة الدّاعمة لهذه الفئة المضطهدة على حضورها المميّز في كلّ مرّة وعلى مداخلاتها القيّمة وسخائها في العطاء من وراء ستار. وفهم الجميع أفكارها الجديدة الدّاعية إلى ضرورة التّفرقة بين ازدواجيّة التّوجّه الجنسي وازدواجيّة الجنس حيث تكون الأولى نتيجة الثّانية وإلى التّشكيك في أقليّة مزدوجي الجنس باعتبار ما صرحت به الأخصائيّة عند تحديد جنسها : «إذا ما اعتبرنا الذّكورة والأنوثة حالتين متضادّتين فلا بدّ أن توجد أوضاع ومراتب وسطيّة وبنسب مختلفة من الذّكورة والأنوثة بما فيها الحالة النّادرة نسبة هذه تعادل تلك». كما عُرفت بينهم كذلك بشدّة حرصها على الارتحال من وضعيّة الضحيّة التي كُتِب لها تحمّل الاضطهاد إلى مواجهته، فتوزّعت كتابتها في مناشير تدعو إلى الضّغط على الرّأي العام لما يتعرّض له هؤلاء من تعسّف وظلم. وذهبت نوفل إلى أبعد من ذلك بالدّعوة إلى إغراق صفحات التّواصل الاجتماعي بصور لحقيقة ما لديهم من ازدواجيّة ليكتشف من لا يعرف الحقيقة كم هي قبيحة إذا تعرّت وكم كثر هم هؤلاء مزدوجي الجنس والتوجه حتّى يعيشوا حياة كريمة وإن قلّ عددهم.  
وجدت نوفل أناسا لا تهمّهم نسب الذّكورة والأنوثة لديهم ولا يهمهم أن يسميهم البعض «مراجل». وجدت بينهم الرّاحة وطيب المعاشرة ووجدوا لديها أفكارا لا يحتويها مكان.