الأولى

بقلم
فيصل العش
الثورة المغدورة
  (أ)
لم تعرف «السّياسة» في دول العالم العربي والإسلامي في تاريخها إلاّ الاستبداد والحكم العضوض. هي اغتصاب كرسيّ الحكم ومواقع النّفوذ من طرف شخص أو قبيلة أو مجموعة ايديولوجيّة لتحقيق أكبر قدر ممكن من الامتيازات العينيّة والمعنويّة وتوسيع رقعة ممتلكات العائلة الحاكمة وحواشيها من الذين كرّسوا حياتهم لخدمة الحاكم والتّمعش من سلطانه ونفوذه. والحكم عند هؤلاء غنيمة، والسّياسة هي البحث عن السّبل النّاجحة للسّيطرة على مراكز النّفوذ حتّى يتسنّى التحكّم في الشّعب والاستفادة من ثرواته. ومن أهمّ هذه السّبل دمغجة المحكومين واستمالة تأييدهم سواء عبر وسائل الإعلام التي كانت حكرا على الحاكم أو عبر ماكينة رجال الدّين. ولا تعتمد طريقة السّاسة (الحكّام) في تخاطبهم مع المحكومين على الحوار بل على قاعدة التّرغيب والتّرهيب وإن كان التّرهيب أحبّ إلى قلوب هؤلاء من التّرغيب.
اعتُبِر العمل السّياسي طيلة قرون، حكرا على الحكّام وحواشيهم، وهو جريمة يُعاقب عليها غيرهم إن فكّر فيها خارج أسوار فكر السّلطان واختياراته، فيحاصر ويمنع عنه الاختلاط بالنّاس وتسلّط عليه أقسى العقوبات، فينكّل به تنكيلا ويُصَبُّ عَلَيْهِ سَوْطَ عَذَابٍ. وإذا ضجر النّاس وخرجوا إلى الشّوارع مطالبين بحقوقهم في العيش الكريم اعتبر ذلك فتنة وضلالا وجوبهوا بالعنف والقوّة.
(ب)
هذه «السّياسة» لم تصنع دولا متقدّمة ولا أمّة متّحدة، بل عجّلت بتدمير نقاط القوّة فيها وأنشأت منظومة قيم تخدم الاستبداد وتتكامل معه، فتسبّبت في تعفّن الأخلاق وانتشار الفساد ونموّ ثقافة مشوّهة تقوم على التملّق للحاكم والتقرّب إليه أوعدم الاهتمام بالشّأن العام وغياب الضّمير والتّفريط في معايير أداء الواجب. كما تسبّبت هذه «السّياسة» في الاحتقان الاجتماعي وزرع الحقد بين شرائح المجتمع وانتشار الفقر وزيادة حجم المجموعات المهمّشة والمتضرّرة وخنق كلّ فكر مستنير يخالف هوى السّلطان ومزاجه مقابل فسح المجال لخطاب سياسي يخاطب الغرائز لا العقول. والأخطر من كلّ ذلك ترسيخ «التّبعية» للقوى الخارجيّة التي يستنجد بها الحكّام لتمتين ركائز حكمهم في ظلّ انعدام الثّقة بينهم وبين شعوبهم.
هكذا كان الواقع في الدّول العربيّة سواء في الماضي البعيد أو في الماضي القريب، وسواء قبل الاستعمار أو بعده. ففي تونس كمثال، وبعد ثلاثين عاما من تجربة «الدّولة الوطنية الحديثة» التي قادها بورقيبة وزملاؤه من السّياسيين، فشلت البلاد في اللّحاق بركب الدّول المتقدّمة واكتفت بموقع ضمن ما أطلق عليها مجاملة «دولا في طريق النّمو» ولم تراوح مكانها في سلّم الرقّي والتقدّم المنشود ولم تتحقّق الأهداف التي رسمها بورقيبة في بداية حكمه والتي كان يطمح إليها التّونسيون بعد خلع جبّة «الاستعمار». وكان من نتائج هذا الفشل بروز نجم «بن علي» وانقضاضه على كرسيّ قرطاج ليحكم البلاد طيلة ربع قرن بقبضة من حديد، ويمارس سياسة التّهميش في أبشع مظاهرها وفي جميع أبعادها الإقتصاديّة والثقافيّة والتعليميّة، لتأبيد حكمه وفرض سيطرته على مفاصل الدّولة. فرضخ الشّعب تحت نار الذّل والهوان عقوداً. 
ومن تحت الرّماد خرج الشّعب عن بكرة أبيه في أكبر ثورة سلميّة في تاريخ البلاد، دون زعيم أو قائد ليواجه رصاص القنّاصة بصدور عارية. وضحّت الأمهّات بفلذات أكبادهن، فاستشهد منهم من استشهد، وجرح منهم من جرح، ولم يتزحزح الشّعب من مكانه رافعا شعار «الشّعب يريد» حتّى تزلزلت الأرض تحت أقدام الطّاغية، فولّى هاربا وانتصرت إرادة الشّعب، فتحرّر من قيوده.
(ج)
شعب عاش ربع قرن من الاستبداد والقمع والذّل وشباب تربّى على ثقافة بلا هويّة، ونخبة انقسمت بين موالاة تسوّق لبن علي ورغباته وتبرّر له عنفه واستبداده، ومعارضة مطاردة لا يحقّ لبعضها التّواجد ولا يسمح لبعضها الآخر بالنّشاط والالتحام بالنّاس، كلّ هؤلاء يجدون أنفسهم بين عشيّة وضحاها ينعمون بالحريّة بلا قيد ولا حاجز، يحلمون بتحقيق شعار «الشّعب يريد»، ذلك الشّعار الذي رفعه الشّباب بين 17 ديسمبر و14 جانفي ثمّ في اعتصامي القصبة «1» والقصبة «2»، وهو ما يعني سياسيّا القطع مع سياسة «الزّعيم والقطيع» وفسح المجال أمام مفهوم جديد للسّياسة يكون «الشّعب» فيه الوسيلة والهدف. لكنّ ما حدث كان معاكسا تماما، فبالرّغم من تغيير رأس النّظام وفتح المجال أمام الجميع لاقتحام المجال السّياسي، ومحاولة القطع مع الماضي والتّأسيس من جديد وإنجاز تحوّل ديمقراطيّ في البلاد من خلال انتخاب مجلس تأسيسي وكتابة دستور جديد، إلاّ أنّ جزءًا كبيرا من الطّبقة السّياسية مدعوما بالمنظومة القديمة (بقايا التجمّع والعائلات المتنفّذة ولوبيّات الفساد) التي لم تتمّ محاسبتها، لم يسع إلى تغيير مفهوم العمل السّياسي وانخرط في معارك طاحنة مع المنافسين للوصول إلى السّلطة، فانقسم مناضلو الأمس إلى حكّام ومعارضة وخاضوا صراعات مستمرّة ضدّ بعضهم بسبب ذاتيّة وانتهازيّة بعضهم وضيق أفق البعض الآخر وضعف بصيرته، فانحرفوا عن المسار، فكانت النّتيجة منظومة حكم مشوّهة لا تعرف الاستقرار، مهمّتها حماية لوبيّات الفساد (1)
لقد تسبّب هذا التمشّي خلال العشريّة الماضية في نفور غالبيّة الفئات الشّعبيّة - وأبرزها الشّباب-من الاهتمام بالشّأن السّياسي وخُلقت لديها قناعة بفساد السّياسة والسّياسيين بمختلف أطيافهم ومشاربهم، بل عاد حنين بعضهم إلى نظام الاستبداد الذي ثاروا من أجل تغييره والقضاء عليه(2).
وممّا زاد في تعقيد وضعيّة منظومة ما بعد 2011 الوضع الاقتصادي الحرج الذي عاشته البلاد جرّاء غياب برامج التّنمية الواضحة وتحكّم الفساد في مفاصل الدّولة بالإضافة إلى الوضع الوبائي الخطير جرّاء انتشار فيروس كورونا. والأخطر من ذلك أن الطّبقة السّياسيّة التي تغافلت عن حالة الغليان الشّعبي وتأزّم الوضع الاجتماعي، انخرطت في صراعاتها وتحالفاتها المشبوهة تمسّكا بالسّلطة بالنّسبة للبعض أو خدمة لأجندات إقليميّة بالنّسبة للبعض الآخر، فتعطّلت لغة الحوار بين الرّئاسات الثّلاث واشتدّ الصّراع بينها ممّا ادّى إلى شلل مؤسّسات الدّولة، فكانت  أحداث 25 جويليّة وما تبعها من قرارات رئاسيّة منحت الرّئيس نفسه صلاحيّات الإشراف على السّلطة التّنفيذية بأكملها وتعطيل السّلطة التشريعيّة عبر غلق أبواب البرلمان وتجميد نشاطه.  
(د)
هل ستعود تونس إلى مربّع حكم الفرد الواحد والزّعيم الأوحد؟ ربّما، فعشر سنوات غير كافية لتغيير ثقافة النّخب بصفة خاصّة والشّعب بصفة عامّة، خاصّة في غياب أي برامج أو محاولات لتغيير تلك الثّقافة. لقد عاش الشّعب قرونا طوالا تحت وطأة الاستبداد والحكم الفردي، تارة بغطاء ديني وطورا بغطاء وطني تحرّري، ولم يعرف في تاريخه تداولا على السّلطة السّياسيّة إلاّ بالوراثة أو بحدّ السّيف، ولم يتعوّد على الاختيار الحرّ بل تمّت تربيته على السّمع والطّاعة والإذعان لولي الأمر أومن ينوبه، لهذا لا يمكن بمجرّد تغيير الدّستور أو إصدار القوانين أو تنظيم انتخابات أن نغيّر الواقع. فمازال المجتمع بنخبه المختلفة تحت سيطرة ثقافة الاستبداد ويظهر ذلك جليّا من خلال التّعبيرات الثّقافيّة التي تحصل هنا وهناك وفي أسلوب التّعامل بين الفرقاء السّياسيين والفكريّين المرتكز على مبدأ الإقصاء واعتماد العنف اللّفظي والجسدي عوضا عن الحوار والمجادلة. 
لقد تميّزت العشرية الفارطة بالاهتمام الكبير بالمسار السّياسي وتغييب المسار الثّقافي. فسيطرة رجال السّياسة على المشهد العام وتحكّمهم في مواقع القرار واهتمامهم بتصفية حساباتهم القديمة جعل من التّغيير الثّقافي مسألة ثانويّة.والكلّ يعلم أنّ نجاح أيّ مشروع للتّغيير مرتبط بتلازم المسارات الثّلاثة السّياسي والثّقافي والاقتصادي. فلم يكن من الممكن نجاح التحوّل الديمقراطي من دون تبنّي مشروع ثقافيّ ينسف ثقافة الاستبداد والأنانية والفوضى ويكرّس بديلا وطنيّا قائما على حبّ العمل والاستثمار في الوطن ومن أجل الوطن والاحترام المتبادل بين الدّولة والمواطن وبين المواطنين أنفسهم. 
بالإضافة إلى ذلك، فإنّ الديمقراطيّة التي بشّرت بها الطّبقة السّياسيّة ما بعد بن علي لم تؤثّر إيجابا في مستوى معيشة التّونسيين ولم تقدّم للمواطن العادي حلولا لمشاغله الاقتصاديّة والاجتماعيّة، فلم توفّر الشّغل للعاطلين ولم تجلب العدالة للمظلومين ولم تحارب الفساد والفاسدين؛ فكان من السّهل إقناع قطاعات واسعة من النّاس بفشل المنظومة السّياسيّة الحاليّة والتّشكيك في أهمّية الدّيمقراطيّة والكفر بها.
لن تعود الحياة السّياسيّة إلى ماكانت عليه قبل 25 جويليّة، هذا مؤكّد. وقد يغلق قوس التحوّل الدّيمقراطي في تونس لفترة ربّما تطول أو تقصر، ولكنّ هذا لا يعني النّهاية. 
على كل من يحلم بحياة عنوانها الحريّة والكرامة وعيش عماده احترام حقوق الإنسان ودولة مدنيّة تقوم على المواطنة وتعمل عل تحقيق النّماء والعيش الكريم لكلّ تونسي وتونسيّة أينما كان، أن يستوعب الدّرس جيّدا ويستفيد من أخطائه وأخطاء الآخرين ويراجع كيفيّة تفاعله مع هموم مجتمعه ومشاغله.... وينطلق من جديد ... و«أَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ»