الأولى

بقلم
فيصل العش
ثقافة حبّ العمل... السّلاح الذي لا يملكه التونسيّون
 (1)
لا يختلف إثنان في تقدير حجم الأزمة الاقتصاديّة والاجتماعيّة الحادّة التي تعيشها بلادنا تونس هذه الأيام والتي تعود جذورها إلى عقود وليس إلى أعوام، ولكن الاختلاف حاصل لا محالة في تشخيص أسبابها، فالبعض يرى أنّ الفساد هو سبب البليّة، فقد هيمن الفاسدون على مفاصل الدّولة، وتحوّلوا إلى حاكمين فعليّين لمؤسّساتها، وآخرون يُرجعون الأزمة إلى الطّبقة السّياسيّة التي أتت بها ثورة الكرامة حيث أدارت هذه الأخيرة ظهرها لمشاغل البلاد الإقتصاديّة والاجتماعيّة، وسعت إلى التّموقع في أجهزة الدّولة والهيمنة عليها من أجل تصفية حساباتها القديمة مع منافسيها، ويرى آخرون أنّ النّظام السّياسي الجديد هو  شرّ البليّة بما أنّه لم ينتج خلال العشريّة الماضية سوى حكومات ضعيفة، مداهنة ومراوغة،  تحاول إيجاد حلول مؤقّتة للأزمات الماليّة والاقتصاديّة، وتسعى جاهدة للبقاء أكثر وقت ممكن في ظلّ هشاشة الحزام السّياسي والائتِلاَفات المساندة لها، وبالتّالي تقف عاجزة عن السّير في الاتجاه المطلوب لإصلاح الأوضاع.  فريق رابع يرى أنّ السّبب الرّئيس للأزمة يكمن في  العنجهيّة النّقابيّة التي تجسّدت في هيمنة النّقابات على شرايين المؤسّسات الوطنيّة والخاصّة، وتعطيلها المستمر للانتاج بتعلّة الدّفاع عن حقوق الشغّالين.
والحقيقة أنّ تردّي الأوضاع بشكل مخيف يرجع إلى سبب رئيسي واحد يتجنّب الجميع الحديث عنه لأسباب مختلفة يصبّ أغلبها  في المهادنة وربح الوقت وغياب الشّجاعة للصّدع بالحقيقة. هذا السّبب هو غياب ثقافة العمل لدى قسم كبير من التونسيين. وفي غياب هذه الثّقافة لن تتمكن البلاد من الخروج من دائرة الضّيق الى دائرة الفرج. فكيف يتجسّد غياب هذه الثّقافة عند التّونسيين؟ وما هي أسباب ذلك؟ وكيف يمكن إعادة زرعها من جديد حتّى يتسنّى الحديث عن أمل للخروج من واقع التخلّف والفقر والانحطاط الذي نعيش فيه؟
(2)
«رزق البيليك»، «مسمار في حيط»، «حقّنا في البترول وفي الفسفاط»، «نصيبنا من الأموال المنهوبة التي قام بتهريبها النّظام القديم»، «صبّوا الشهريّة؟» ... عبارات تتكرّر كلّ يوم في حوارات التّونسيين وجدالهم وتعبّر عن ثقافة راسخة في أذهان أغلبهم.. العاطلون عن العمل يطالبون الحكومات وأجهزة الدّولة بتشغيلهم،  فالتّشغيل استحقاق وحقّ الشّغل مضمون بالدّستور، لكنّ أغلبهم يسعون إلى التّوظيف في القطاع العمومي، لأنّه يضمن لهم راتبا شهريّا بمعزل عن حجم العمل الذي يقدّمونه ولا علاقة له بمستوى الانتاج والانتاجيّة، هؤلاء يرون أنّ «شهريّة  الوظيفة العموميّة» حقّ مكتسب وأن الحكومات لن تدفع مليّما واحدا من جيبها، فكلّها أموال تتأتّى من بيع الثّروات الطبيعيّة التي هي حقّ الشّعب وبالتّالي هي من حقّهم(1). 
تغيب عن أذهان هؤلاء ثقافة العمل، فهم لا يرغبون في العمل الذي يجعلهم يشقون ويتعبون، يرضون بالبقاء لساعات في المقهى ينتقدون الوضع ويلعنون البلد وما فيها، ولا يرضون بالعمل في القطاعات التي تتطلّب جهدا جسديّا كالفلاحة والبناء والتي أصبحت تلتجئ إلى اليد العاملة الوافدة من الدّول الإفريقيّة(2). 
المشتغلون في المؤسّسات العموميّة لا يتحدّثون إلاّ عن «زيادة في الشّهريّة»، وعادة ما يلوّحون بحقّهم في الإضراب، ثمّ يدخلون في إضراب مفتوح بلا سقف زمني، بصرف النّظر عن حالة الدّولة التي تشرف على الإفلاس.. يرفعون شعارات «الحقوق» وينسون شعار «الواجب»، فهم لا يحدّثون أنفسهم بواجبهم تجاه دولتهم المنهكة بالدّيون الخارجيّة، فلا يفكّرون في العودة إلى مواقع عملهم ولا في الزّيادة في حجم العمل، ولا يسعون الى الرّفع من مستوى الإنتاجيّة وتحسين الجودة. وكيف يفكّرون في ذلك وهم لا يقدّسون العمل ولا يرفعون من شأنه؟ 
وبالإضافة إلى عدم تقديسه، فقد تحول العمل عند طيف كبير من التّونسيين إلى شرّ لابدّ منه، يقبلون عليه متذمّرين ومتوتّرين ومضطرّين، وكأنهم رهن الاعتقال الإداري، ممّا يجعل زمن العمل عمليّة منظّمة لإهدار الوقت والقيام بالحدّ الأدنى من المجهود. شعور زادته المقاربة الإداريّة الخاصّة بالعمل تكريسا نظرا لارتكازها على مسألة التزام العون بالحضور والمغادرة والإمضاء في الوقت المحدّد، أكثر من مردوده وحجم إنتاجيّته ، وعمّقته أساليب العمل والتحفيز والتّرقيات التي تغيب فيها مقاييس الإنصاف ومعايير المنافسة الواضحة والنّزيهة.
(3)
العمل النّقابي في الدّول ذات الإقتصاد الإنتاجي يقوم على أساسين إثنين: الدّفاع عن حقوق العمّال من جهة والمساهمة في تأطير العمّال للقيام بواجباتهم في الإنتاج وتحسين الانتاجيّة من جهة أخرى. أمّا في تونس، فالعمل النّقابي أعرج لا يسير إلاّ على ساق واحدة، مهمّته الدّعوة إلى تحسين الأجور والتّلويح بسلاح الإضراب، والويل كلّ الويل للمسؤول الذي يفكّر في استخدام سلاح الخصم من الأجر. لم نسمع في يوم من الأيام مسؤولا نقابيّا يدعو إلى احترام السّلط الإداريّة ويساعدها في فرض النّظام ومطالبة الموظّفين والعملة بإنجاز ساعات عمل إضافيّة لفائدة المؤسّسة دون مقابل أو على الأقل بالقيام بواجباتهم المهنيّة. ولا نعتقد أنّنا نجانب الصّواب إذا قلنا أنّ العمل النّقابي في تونس أصبح في كثير من الأحيان رديفا لحماية «اللاّعمل»، فكلّ الاعتصامات تقريبا تجد الدّعم والتّوجيه من النّقابيين جهويّا أومركزيّا حتّى وإن تسبّبت في تعطيل الإنتاج في القطاعات الاستراتيجيّة كالفسفاط والنّفط (3). 
ساهم العمل النّقابي في تونس خلال العشريّة الفارطة في انهيار منظومة الانتاج العموميّة، كما ساهم في انقلاب الموازين الوظيفيّة، حيث أصبحت السّلطة في يد الكاتب العام للنّقابة وأعضائها وإن كان بشكل غير رسمي، ولم يعد بمقدور رئيس الإدارة أو رئيس المصلحة تجاوز أوامر النّقابيين ونواهيهم أو اتّخاذ قرار من دون  استشارتهم والحصول على موافقتهم بتعلّة حماية السّلم الاجتماعي في المؤسّسة وتجنّب التّوتّر.
ولأنّ العمل ليس عنصرا في ثقافة النّقابيين(4)، فإنّنا لم نسمع يوما أنّ مركزيتهم قامت بدعوة قواعدها العمّالية وتعبئتها من أجل إنقاذ المؤسّسات العموميّة التي يخيّم عليها شبح الإفلاس، ووضع خطّة للرّفع من مستوى العمل والإنتاج، والتّضحية ببعض المكاسب والامتيازات لتمكين المؤسّسة من مجابهة الأزمات الماليّة الخانقة. ما نسمعه من تصريحات كبار النّقابيين وما نقرؤه في بياناتهم لا يخرج عن  التّهديد والوعيد، وتحميل المسؤوليّة للحكومات المتعاقبة، التي لا يحقّ لها الاعتراض على السّلوك النّقابي وليس أمامها الاّ الاستجابة للشّروط المجحفة التي تفرضها «أكبر قوّة في البلاد» على حدّ تعبير النّقابيين.
(4)
إذا تجوّلنا في الأسواق التّونسيّة والمغازات والدّكاكين، نلاحظ بيسر أنّها غارقة بالبضائع التّركيّة والصّينيّة مع شبه غياب للمنتوج التّونسي.. أمّا ورشات العمل اليدوي من نجارة وتنظيف وبناء فقد اقتحمت من طرف الوافدين من أفارقة وسوريّين، في حين يجلس العاطلون من التّونسيين في المقاهي، ألا يعني ذلك عدم قبولهم التّواجد في تلك الورشات وترفّعهم عن العمل «الشّاق» فيها؟ ألا يعني اكتظاظ الشّوارع في أوقات ليست بأوقات للذّروة، وفراغ أغلب الإدارات من العاملين، وتسكّع العديد من الموظّفين بين المقاهي والأسواق أنّ هؤلاء لا يقدّسون العمل ولا يحترمون ميثاقه؟ 
غياب ثقافة العمل ليست كما يدّعي البعض وليدة الثّورة وإنّما هي جزء من إرث ثقافي كان سببا في تخلّفنا. ويمكن أن نرصد بعض أشكال هذه الثّقافة المضادّة للعمل في أحاديثنا اليوميّة وفي أمثلتنا الشّعبيّة، وأمثلة ذلك: «اليّ خدموا ماتوا»، و«إذا لقيت الزّهو والطّرب لا تبدلّو لا بشقاء ولا بتعب»، و«سعود موش تعرية زنود»، و«كان الرّزق بالتّعب راهو البهيم عندو سرير ذهب»... ومثال آخر على ذلك أنّنا نطلق على المتفاني في عمله والجاد فيه صفة «المحراث» وعادة ما يكون ذلك من باب الاستهزاء والسّخريّة والتّنكيل والتّشهير. ويكرّس طيف كبير من التّونسيين ذلك في سلوكهم، بالذّهاب إلى العمل متأخرين ومغادرته قبل انتهاء الوقت، وطغيان ثقافة التّسويف والتّأجيل برفع شعار «أرجع غدوة».
الواضح أنّ ثقافة العمل والانتاج قد تراجعت بشكل مفزع في بلادنا، وأنّ علاقة التّونسي بالعمل أصبحت ملتبسة ومهتزّة ورخوة وفضفاضة وحاملة لخميرة التّوتر والتّواكل وضعف الإنتاجيّة،نتيجة إرث ثقافي ونفسي واجتماعي مضادّ لثقافة العمل، يمجّد قيم التّواكل والقدريّة والصّدفة على حساب قيمة العمل التي تعتبر في الأصل مؤشّرا من مؤشّرات تقدّم الشّعوب وتنميتها. فلا تتقدّم الشّعوب إلاّ بالعمل، ولاتبنى الحضارات إلاّ بالعمل، ولا تُكسَبُ الرّهانات إلاّ بالعمل، ولا تصان الكرامة الفردية والجماعية إلاّ بالعمل.
لقد تغيّرت المعادلات الاقتصاديّة والاجتماعيّة كثيرًا في تونس، ولم يعد الحصول على شهادة جامعيّة ضمان لوظيفة مناسبة وارتفعت نسب البطالة بشكل كبير. هذه البيئة مع غياب ثقافة العمل وفّرت أرضيّة ملائمة لازدهار تجارة الوهم والثّراء السّريع، وكسب  الثّروة  بدون جهد أو تعب، وجعلت قسمًا كبيرًا من الشّباب التّونسيّ فريسة لإدمان الرّهان الإلكتروني(5)،  ينتظر ضربة حظّ لكسب الملايين. 
وفي تونس هذا البلد الذي لديه مليون عاطل عن العمل، تسعى الحكومات للتّداين من الخارج لصرف مرتّبات مليون موظف عمومي نصفهم لا يؤدّي أي عمل، إنّها حالة من التّناقض العجيب النّاتج عن غياب فاضح لثقافة العمل لدى التّونسيّين. ولكن هل يعني ذلك أنّ طريق الإصلاح أصبح مسدودا؟ وأنّنا -معشر التونسيين - قد حقّ فينا قول الأوزاعيّ (6) رَحِمَهُ اللهُ تعالىَ: «إنَّ اللّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا أَرَادَ بِقَوْمٍ شَرَّاً أَلْزَمَهُمُ الْجَدَلَ، وَمَنَعَهُمُ الْعَمَلَ»(7) ؟
ليس هذا صحيحا، فالأمل يبقى قائما مادام هناك مصلحون، ومادام الشّعب التّونسي يدين بالإسلام ويعتزّ بهويّته العربيّة الإسلاميّة. لأنّ الإسلام يقدّس العمل ويرفع من شأنه بل يجعله في سلّم الاهتمامات وفي جوهر خلافة الإنسان في الأرض. أليست مهمّة الإنسان تعمير الأرض؟ وهل يكون التّعمير بدون عمل؟ هذا ما سنتوسّع فيه في العدد القادم إن شاء اللّه.  
الهوامش
(1)   انظر إلى بعض فصول الاتفاقيات المبرمة بين الحكومة ومعتصمي الكامور الخاصّة تلك المتعلّقة بشركة البيئة والغراسة والبستنة التي صنّفت كشركة ذات مساهمة عموميّة تحت إشراف وزارة الفلاحة والموارد المائيّة والصّيد البحري وتخضع لزيادات القطاع العام، والإذن في التّسريع بخلاص أجور إطارات وأعوان الشّركة مع انتداب 1000 عون وإطار جديد. علما وأن هذه الشّركات التي تمّ بعثها منذ 12 سنة في العديد من الولايات على إثر اعتصامات للشّباب العاطل عن العمل، لا يزال يكتنفها الغموض ومازال الجدل حول تنظيمها وعملها وطبيعة نشاطها قائما، حيث تبلغ نسبة العملة غير المباشرين لعملهم أكثر من النصف فعلى سبيل المثال لا الحصر  يبلغ عدد العملة الذين لايقومون بأي نشاط في شركة البيئة والغراسة والبستنة بقابس نحو 1000 عامل!!! 
(2)   يشكو القطاع الفلاحي من ضعف كبير في إقبال الشباب عليه حيث تبيّن الأرقام أنّ 6% فقط من العاملين في الفلاحة  تقل أعمارهم عن 35 سنة وبفعل هذا التهرّم أصبحت العديد من القطاعت الفلاحيّة في مواجهة ندرة اليد العاملة في ظل هروب ونفور الشّباب التونسي من مهنة الفلاحة التي غالبا ما ترتبط في ذهنيّته بالمتاعب والمصاعب والربح القليل. 
(3)   تسبّبت اعتصامات نفّذتها مجموعات من طالبي الشّغل منذ شهر ديسمبر 2020 بأغلب منشآت شركة فسفاط قفصة وخاصّة بالمظيلة، في قطع تزويد معامل المجمع الكيميائي التّونسي بالمظيلة وأيضا بقابس بمادّة الفسفاط، وهي المادّة الأساسيّة التي تعتمدها معامل المجمع الكيميائي التونسي لصنع الأسمدة الكيميائية، فتمّ اللّجوء إلى توريد هذه المادّة من الخارج. فهل يجوز لبلد ثروته الأساسية هي الفسفاط أن يستورد فسفاطا لأنّ «بلطجية» تسندهم جماعات نقابيّة، يمنعون العمل في مناجم الفسفاط؟ 
(4)   يدلّ على ذلك موضوع التفرّغ النّقابي، وهو «عرف» تمّ اعتماده منذ عهد الرّئيس الرّاحل الحبيب بورقيبة،  يجري به العمل لفائدة النّقابيين الذين يشتغلون في مؤسّسات الدّولة والوظيفة العموميّة، يتمتّعون من خلاله بعدم القيام بمهامهم الإداريّة ليتفرّغوا للعمل النّقابي، رغم أنّ النشاط النّقابي في سائر أنحاء العالم يعرف على أنّه عمل تطوّعي يتطلّب تضحية ودافع قوي للانتصار للطّبقة الشّغيلة من دون كسب شخصي. وحسب التّقديرات فإنّ عدد النّقابيين المتفرّغين في تونس يبلغ، على الأقل، حوالي 630 موظّفا، وإذا قدّرنا معدّلا عاما لأجور هؤلاء الموظفين بـ 1100 دينار للفرد الواحد، تكون التكلفة الشّهرية للتّفرّغ في حدود 693 ألف دينار، أي ما يعادل 8,316 مليون دينار سنويّا وهو مبلغ ضخم يهدر سنويّا دون إنتاج ولا إنتاجيّة. والملفت للنظر في هذا الموضوع أن مجموعة من نوّاب البرلمان طلبوا النّظر في مسألة التّفرغ النّقابي، فكانت إجابة الحكومة أنّها تسعى  لتقنينه وليس لإلغائه لأنه مكسب وحقّ (تصريح المستشار لدى رئيس الحكومة المكلف بالملفات الإجتماعية سليم التيساوي لشمس آف آم يوم الثّلاثاء 29 ديسمبر 2020  - www.shemsfm.net )
(5)  ينتشر في تونس أكثر من 1500 محل للمراهنات الإلكترونيّة غير المرخّصة، وأضحى موقع المراهنات الشهير بلانات وين (Planet Win) ضمن أكثر خمس مواقع تصفّحًا في البلاد!!!
(6)  يذكر البعض أن القولة هي لعمر الفاروق رضي اللّه عنه، والله أعلم
(7)  المكتبة الشّاملة الحديثة، أرشيف ملتقى أهل الحديث، ص197 - www.al-maktaba.org