القرآن والعلم

بقلم
نبيل غربال
المقال الأول: الجبالُ أوتادٌ الجزء الثّالث: الموجات الزلزالية «ترى» جذور الجبال
 بعد التّدقيق اللّغوي، في الجزء الأوّل من هذا المقال، في المعنى الأصلي للجذر «وتد» والذي يشير الى جسم مغروز في الأرض بإحكام لغاية التّثبيت لجسم آخر، بدأنا في الجزء الثّاني تتبّع تطوّر المفاهيم والتّصورات المتعلّقة ببنية الجبال منذ التّخمينات العلميّة الأولى في القرن السّابع عشر وصولا الى النّماذج المقترحة في القرن التّاسع عشر والقائمة على فرضيّة أنّ الجبال تشكّل جزءا لا يتجزأ من قشرة صخريّة تطفو على طبقة الوشاح التي تسلك سلوك السّوائل على نطاق زمني يمتدّ ملايين السّنين. وقد رأينا أنّ تلك النّماذج واجهت مشكلة اللاّتعيّن في الدّراسات الفيزيائيّة لباطن الأرض، والتي تفيد أنّه يمكن تفسير عدم تطابق نتائج القيس بنتائج الحسابات النّظريّة بعدد كبير من النّماذج المختلفة لهذا الباطن. لذلك صار ملحّا على العقل العلمي البحث عن وسيلة أخرى للتّأكد من النّموذج الأقرب للحقيقة المخفيّة والمتعلّقة أساسا ببنية الجبال. سنعرض في هذا الجزء الثالث الأداة الفعّالة التي حسمت الأمر والمتمثّلة في تقنية الاستشعار الزّلزالي السّيزمي(Exploration sismique). لقد مكنت العلماء فعلا من «تصوير» باطن الأرض واظهار الطريقة التي تتوزع بها الصّخور تحت الجبال وبقيّة أشكال التّضاريس الأخرى.
الزّلازل والموجات الزّلزاليّة
تحدث الزّلازل عندما تتصدّع الصّخور أي تتكسّر بشكل فجائي وعنيف ويسمّى ذلك الصّدع بؤرة الزّلزال. يصاحب حركة التّصدّع العنيفة للصّخور اضطرابا شديدا ينتشر داخل الأرض في شكل اهتزازات للمعادن المكوّنة للصّخور تسمى موجات زلزاليّة. وبقدر ما يكون التّصدّع عنيفا بقدر ما تخترق الموجات الأرض عميقا من ناحية، وبقدر ما تكون الزّلازل مدمّرة من ناحية أخرى. ولكن، رغم الجانب المدمّر للموجات الزّلزاليّة فإنّ لها جانبا ايجابيّا يتمثّل في أنّها تمثل«الرّسول» الوحيد القادر على السّفر في باطن الأرض والعودة منه ليمدّنا بالمعلومات عن مكوّناته وبنيته. 
يعتمد الاستكشاف الزّلزالي للأرض إذًا على دراسة وتحليل سلوك تلك الموجات الزّلزاليّة، سواء كان مصدرها الطّبيعة كالنّاتجة عن الزّلازل أو كانت مفتعلة بواسطة الإنسان كتفجير كمّيّة محدّدة من الدّيناميت داخل الأرض. ويهدف الإنسان من وراء ذلك الى تحديد تركيب وخواص صخور الأرض الدّاخليّة. وللتّعرف على سلوك الموجات، يقيس العلماء المدّة التي تستغرقها الموجات النّاتجة عن الزّلازل للسّفر عبر الأرض من بؤرة الزّلزال الى المحطّة الأرضيّة التي تعترضها عند عودتها الى السّطح. تقع فيما بعد معالجة القياسات المتحصّل عليها وتحويلها الى بيانات تتعلّق بتغيّر سرعة الموجات الزّلزاليّة مع العمق باعتماد نماذج رياضيّة تحاكي البنية التي يمكن أن تعطي نفس النّتائج المسجّلة. وقد بيّنت تلك الطّريقة نجاعتها نظرا لقدرتها على مدّنا بصورة تظهر توزّع الصّخور في باطن الأرض من خلال توزّع السّرعات للموجات الزّلزاليّة من سطح الأرض لمركزها.
لمحة تاريخية
اهتم الإنسان بالزّلازل منذ فجر التّاريخ أو ربّما أقدم من ذلك لارتباطها بالدّمار الذي تخلفه. وقد «أجرى الصّينيّون أوّل تجربة معروفة للحركة الأرضيّة الزّلزاليّة منذ السّنة 130 قبل الميلاد»(1).  مكّن الجهاز المبتكر وقتها من «تسليط الضّوء على حدوث الحركة ولكن ليس تحديدها كمّيا. ولم تظهر الأجهزة التي تشير إلى اتّجاه الموجات الزّلزاليّة الاّ في القرن الثّامن عشر أوّلاً في إيطاليا، ثمّ في اليابان بمساعدة علماء بريطانيّين... وقد تمّ الحصول على المخطّط الزّلزالي الأوّل أي التّسجيل الأول على الورق (أنظر مثالا للمخطّط النّموذجي للأرض في الصّورة في الأسفل) في وقت واحد تقريبًا في إيطاليا وإنجلترا وألمانيا حوالي عام 1880... وفي وقتنا الحاضر أصبح من الممكن تسجيل حركات سطح الأرض الأضعف بكثير من ضوضاء الخلفيّة الطّبيعيّة لها، أي ذلك الاضطراب المتواصل لسطحها خارج أوقات النّشاط الزّلزالي نظرا لأنّ باطنها في حركة مستمرة. لم يجعل تطوير مثل هذه الأدوات من الممكن فقط الوصول إلى الوصف الدّقيق للزّلازل، ولكن أيضًا للتّحقّق من البنية الدّاخليّة للأرض»(2).
الموجات الزلزالية تؤكد نموذج آيري للجذور الجبلية
تعود أقدم الاكتشافات المتعلقة ببنية الأرض الى بداية القرن العشرين حيث لاحظ عالم الزلازل الكرواتي أندريا موهوروفيشيك(3) لأوّل مرّة في سنة 1909 أن سرعة الموجات الزلزالية تزداد مع العمق وأنها تزداد بشكل حاد لتتغير من 6 كيلومتر في الثانية في الصخور الخارجية للأرض والتي يتشكل منها الجزء الأعظم من السلاسل الجبلية, الى 8 كيلومتر في الثانية في الصخور التي تليها مما يعني انتقالها من نوع من الصخور الى نوع آخر مختلف عنها. أعطي لهذا الانقطاع في السرعة اسم ذلك العالم وأصبح معروفا اختصارا بانقطاع موهو. يفصل هذا الانقطاع في السرعة الطبقة الصخرية الخارجية للأرض والمسماة قشرة عن الطبقة التي تحتها والمعروفة الآن بالوشاح أم المعطف. فما علاقة هذا الاكتشاف بموضوعنا؟ 
يوجد انقطاع موهو في عمق 5 الى 10 كم تحت المحيط و20 الى 90 كم تحت اليابسة. ويبلغ أقصى عمقه تحت السلاسل الجبلية ممّا يؤكد ما ذهب اليه العلماء المتبنّين لنموذج آيري من ازدياد كبير لسمك القشرة تحت المرتفعات العالية وبالتالي وجود جذور عميقة لها تحت السلاسل الجبلية. كما تؤكد البيانات الزلزالية أن كثافة صخور القشرة الأرضية القارية التي تتشكل منها مادة الجبال لا تتغير أفقيا. وتوضح الصورة التالية(4) بنية الأرض المعتمدة الآن وقد قسمت الصخور حسب انقطاعات حادة في سرعة الموجات الزلزالية وما تعكسه من تغير جوهري في التركيبة المعدنية لطبقات متمركزة حول مركز الأرض. نلاحظ جليا كيف يزداد سمك القشرة الأرضية (اللون البنّي①) تحت اليابسة وخاصة تحت السّلاسل الجبليّة. كما نلاحظ جليّا أنّه بقدر ما تكون التّضاريس عالية بقدر ما يكون انقطاع موهو عميقا في الوشاح، وهو ما يتطابق مع نموذج آيري للقشرة والقائم على ظاهرة الطّفو (انظر الجزء 2).
 تقنية «التصوير المقطعي الزلزالي»
تشبه تقنية التّصوير المقطعي الزّلزالي تقنيات التّصوير المستخدمة في المجال الطّبّي. فما هو المبدأ الذي تقوم عليه تلك التّقنيات وما طبيعة المعطيات التي توفّرها؟ تبعث الآلة المستخدمة في الطّبّ أشعة كهرومغناطيسيّة قادرة على اختراق الجسم أو الانعكاس على أعضائه الدّاخليّة بدون أن تؤذيه، لتأخذ صورة لما يوجد في جوف الإنسان. تلعب الأشعّة دور«الرّسول» الذي يدخل الجسم ويخرج منه ليمدّنا بما لا يمكن رؤيته بالعين، وهو ما يسهّل عمليّة تشخيص الأمراض إذ تتجلّى حقيقة البنية الدّاخليّة للجسم أمام الطّبيب بفضل صورة ثنائيّة الأبعاد أو ثلاثيّة الأبعاد، أو في شكل فيديو مباشر، ويتفادى بذلك عمليّة جراحيّة مكلّفة صحيّا. إنّ الصّورة تظهر الحقيقة المخفيّة وترفع الشّكوك. ويمكن أن نذكر بعضا من الأدوات المستعملة مثل السّكانار، الايكوغرافي، الرّنين المغنطيسي والرّاديو.
تستخدم تقنية التّصوير المقطعي هذه أشعة مغنطيسيّة لسبر ما خفي من جسم الإنسان فما طبيعة «الرّسول» الذي يسافر في داخل الأرض ليستطلع مكوناتها وبنيتها، ثم يعود إلينا لمدّنا بمعلومات في شأنها؟ يعود الفضل لوجود «رسول» قادر على ذلك الى ظاهرة الزّلازل كما رأينا من قبل، حيث تمثّل الموجات الزّلزاليّة ذلك الرّسول الذي لا يمكن تعويضه للقيام بمثل هذه المهّمة.
التّصوير المقطعي الزّلزالي في جبال الهيمالايا: تأكيد وجود الجذور تحت الجبال
تمثل الصّورة التّالية مقطعا للأرض على امتداد ألاف الكيلومترات طولا من هضبة التّيبت شمالا (ب) الى الهند جنوبا (أ) مرورا بسلسلة جبال الهيمالايا. أمّا عمقا فتصل الى ألف كيلومتر. تظهر الجذور الممتدة تحت الجبال ممثّلة في ازدياد ملحوظ لسمك القشرة الأرضيّة (اللّون الأحمر)، ممّا يجعل من الجبال حقيقة أوتادا مغروسة في الصّخور التي تحتها ولا يظهر منها على السّطح إلاّ الجزء اليسير. فاللّون الأزرق يمثل المناطق التي تكون فيها سرعة الأمواج الزّلزاليّة مرتفعة وهو ما يشير إلى الصّخور الأثقل بالنّسبة للصّخور المحيطة. أمّا اللّون الأحمر، فيمثل الصّخور الخفيفة للقشرة. ونلاحظ في المقطع الزّلزالي أنّ صخور القشرة الأرضيّة تحت سلسلة جبال الهيمالايا الخفيفة تغوص عميقا في الأرض (70 – 80 كلم). فانغراز الصّخور الممثلة باللّون الأحمر واضح مقارنة بما يظهر شمال السّلسلة الجبليّة (ب) وجنوبها (أ) وتقدر نسبة الانغراز لارتفاع الجبل بثمانية مرّات، لذلك تصعب رؤية الجزء السّطحي من الجبل على المقطع.
خاتمة
أظهر نموذج «آيري» المعتمد على مبدأ الأجسام الطّافية لتفسير تغيّر سمك القشرة القارّية بالنّسبة لمناطق ذات مرتفعات مختلفة توافقا مع ما تمّ الكشف عنه بواسطة الدّراسات السّيزميّة، أي وجود قشرة قارّيّة سميكة ذات كثافة لا تتغيّر أفقيّا وتمتدّ عميقا تحت سلاسل الجبال، يسمّى الجزء السّفلي منها «جذر القشرة الأرضيّة». 
سنواصل في الجزء الرابع مع جذور الجبال لنقدّم دليلا آخر ملموسا على وجودها.