الأولى

بقلم
فيصل العش
ولينصرن الله من ينصره
 (1)
ما حصل في الأيام الأخيرة إنجاز عظيم للفلسطينيّين لم يكن يتوقّعه أكثر المحلّلين تفاؤلا، فأقصى ما كنّا نطمح إليه كمناصرين للقضيّة الفلسطينيّة عند بداية المواجهات في بيت المقدس لم يكن يتعدّى وقف العدوان الصّهيوني في حي «الشّيخ جراح» وكبح جماح المتطرّفين من اليهود في مسعاهم لتدنيس المسجد الأقصى. وبين أهداف الكيان التي كان يسعى إلى تحقيقها وما آلت إليه الأمور بعد دخول المقاومة على خطّ المواجهة بون شاسع، وهو ما جعل الجميع يقرّ بانتصار الفلسطينيّين وتكبّد الكيان الصّهيوني هزيمة لم يسبق أن مني بها منذ قيامه. فبالإضافة إلى فشله في تحقيق أيّ من أهدافه، فقد تسبّب الكيان الصّهيوني نتيجة تقديره الخاطئ للموقف في تخريب ما حقّقه من إنجازات خلال العشريّة الفارطة، أمّا المقاومة فقد نجحت في حماية المسجد الأقصى والمرابطين فيه، وصدّ اعتداءات الاحتلال وتحقيق ما لم يكن في الحسبان. فماذا كان يريد الكيان الصّهيوني؟ وهل حقّا فشل في تحقيق ما يريد؟ وماذا تحقّق للقضيّة الفلسطينيّة عموما وللمقاومة بالخصوص بعد انتهاء معركة «سيف القدس»؟ 
(2)
نجح الكيان الصّهيوني في السّنوات الأخيرة بمعيّة الولايات المتّحدة الأمريكيّة وبعض الأنظمة العربيّة في تغييب القضيّة الفلسطينيّة عن المشهد السّياسي الإقليمي والدّولي، فقام بمحاصرة حماس في غزّة وتشويهها إعلاميّا، ومحاولة تأليب الشّارع الفلسطيني ضدّها، وعمل على كتم أنفاس المقاومة المسلّحة وعزلها في الدّاخل وفي الخارج، مستفيدا من موجة العداء الدّولي للإسلام السّياسي التي تقودها بعض الأنظمة العربيّة كالإمارات ومصر. وحرص في المقابل بمساعدة «ترامب»على توسيع دائرة التّطبيع مع الأنظمة العربيّة ونجح في ذلك. ونتيجة تقديره أنّ الطّريق أصبح مفتوحا لكسب معركة تهويد القدس نهائيّا، رفع «نتنياهو» من وتيرة الاستيطان وتهجير الفلسطينيّين مستعينا بالجماعات اليهوديّة المتطرّفة، لكنّ المقدسيّين الذين خبروا الكيان وسياساته وتيقّنوا بأنّ التّراجع أمام عربدة المتطرّفين اليهود هو إعلان عن فقدان القدس عموما والمسجد الأقصى خصوصا، دخلوا في مواجهات عنيفة مع الجنود الصّهاينة والجماعات المتطرّفة من أجل حماية الأقصى والمحافظة على المقدّسات الإسلاميّة.
ولأنّ فصائل المقاومة الفلسطينيّة، لا سيّما حركة حماس، كانت تراقب عربدة الاحتلال بغطاء دولي، وتنتظر الفرصة الملائمة للقيام بشيء ما لافتكاك المبادرة وفكّ الحصار عليها، فقد استغلّت الاعتداء على المسجد الأقصى وتهجير الفلسطينيّين من حي الشّيخ جراح، للدّخول على الخطّ، وخوض معركة في بضعة أيام فاقت تداعياتها مواجهات سابقة أطول مدّة وأكثر تدميراً ودمويّة، وقد أظهرت المقاومة من خلالها تطوّرا مهمّا على صعيد أدائها السّياسي والعسكري برغم الحصار .
(3)
الكيان الصهيوني كان يريد مزيدا من تقسيم الأراضي وتفتيت الفلسطينيّين، وزرع بذور الانقسام ورعايتها سواء بينهم وبين محيطهم العربي، أو بين الضفة والقطاع، أو بين الفصائل المختلفة خاصّة بين حماس وفتح. لكنّ هبّة المقدسيّين ومعركة «سيف القدس» وحدت كلّ الفلسطينيّين، ليس في القطاع والضفّة فقط بل شملت من هم داخل الخطّ الأخضر، وجمعت كلمة اللاجئين الفلسطينيين في الخارج، والأهمّ من ذلك كلّه أنّ القدس أصبحت عنوان تلك الوحدة والهدف المشترك لكلّ الفلسطينيين، وباتت القدس لأوّل مرّة تحت وصاية فصائل المقاومة وبات المسجد الأقصى في حمايتها، ولم يعد قطاع غزة معزولاً عن محيطه الفلسطيني بل أصبح يتولّى مهمّة حماية كلّ الفلسطينيّين. 
لقد تسببت معركة«سيف القدس» في إحداث انقلاب تاريخي في المشهد الفلسطيني الدّاخلي، فمركز ثقل القيادة الفلسطينيّة وقرارها، انتقل من رام اللّه إلى غزّة، وكسبت بذلك « حماس» معركتها السّياسيّة مع سلطة عبّاس، بعد أن امتلكت قرار الحرب والسّلم، وهي وحدها من الجانب الفلسطيني، من أدار عمليّات التّفاوض حول التّهدئة ووقف إطلاق النّار، في حين بقي الرّئيس عباس يراقب ما يحدث، عاجزا عن مواكبة التّطورات من حوله، فاتسعت الفجوة بينه وبين الرّأي العام الفلسطيني،ممّا ينبئ بخروجه نهائيّا من السّاحة السّياسيّة الفلسطينيّة.
ومن النّقاط المضيئة للهبّة المقدسيّة ومعركة «سيف القدس» نجاحهما من جهة في إعادة القضيّة الفلسطينيّة إلى صدارة الاهتمام العالمي، بعد عقد من التّهميش والتنكّر لحقوق الفلسطينيين الأساسيّة، ومن جهة أخرى في الرّفع من أسهم خيار المقاومة وانقلاب موازين القوى لفائدته أمام خيار التّطبيع والتّسوية والسّلام المغشوش.  وبذلك تمّ توجيه بوصلة الفلسطينيّين من جديد نحو مشروع المقاومة وقطع الطّريق أمام مسارات التّطبيع والتّذلّل للكيان الصّهيوني ولو لحين.
نقطة مضيئة أخرى يمكن استنتاجها هي التحوّل النّوعي في طبيعة المقاومة وتشكيلها، حيث ازدادت الكتائب العسكريّة للفصائل الفلسطينيّة تماسكا ولم تتأثّر البتّة بالصّراع بين سياسيّيها، والأهمّ من ذلك التّنسيق المحكم بينها والتّحرّك حسب خطّة ونظام يجسّد ذلك التّماسك بالإضافة إلى القدرة على التّصنيع العسكري والقدرة على المناورة والتحرّك على أرض المعركة. ولأوّل مرّة منذ 1948، باتت صواريخ المقاومة قادرة على الوصول الى كلّ التّجمّعات الصّهيونيّة، فصار العدوّ يخشى «جيش غزّة» أكثر من كلّ الجيوش العربيّة مجتمعة باعتراف الرّسميين منهم والإعلاميين.  
 وما يثلج الصّدر حقّا أنّ العدو الصّهيوني قد خسر أيضا حربه الإعلاميّة رغم أنّه استنهض كلّ من معه واستغلّ نفوذه(1)، ورغم المجهودات الجبّارة التي قامت بها وسائل الإعلام العالميّة المؤيّدة له والعربيّة المطبّعة معه، فقد استطاع الشّباب العربي باستغلال التكنولوجيّات الحديثة ومواقع التّواصل الاجتماعي(2)وبعض وسائل الإعلام الحرّة كالجزيرة، أن ينشر في المباشر جرائم العدو ويفضح وحشيته ويوصل إلى العالم صورا حيّة من غزّة للضّحايا المدنيّين، والمجازر والمذابح التي ارتكبها طيران الاحتلال في إبادة عائلات بأكملها. وقد خلق بذلك مدّا إعلاميّا عربيّا وإسلاميّا ودوليّا استنكر تلك الجرائم الوحشيّة، وكوّن صورة ذهنيّة جديدة غاية في البشاعة عن الكيان الصهيوني لدى أغلب شعوب العالم، سيحتاج العدوّ سنوات وربّما عقودا لمحوها من الأذهان إن استطاع إلى ذلك سبيلا. 
(4)
ومن التّداعيات المهمّة للمعركة بناء وعي جديد لدى القوى الإقليميّة والدّوليّة عن حقيقة مكانة الكيان وقدراته،إذ فقدت تل أبيب، الكثير من عناصر تفوّقها المعنويّة والأخلاقيّة في حواضنها الغربيّة وظهر تآكل قدرتها الرّدعيّة، وخبو صورة «الجيش الذي لا يُقهر». وفي المقابل، بدأ السّاسة الغربيّون يقتنعون باختلال موازين القوى في الدّاخل الفلسطيني لصالح «حماس» التي أصبحت عنوان كلّ الفلسطينيّين. 
ومن مظاهر هذا التّغيير إعراب المستشارة الألمانيّة أنجيلا ميركل عن تأييدها إجراء «اتصالات غير مباشرة» مع حركة حماس التي تصنّفها أوروبا «حركة إرهابيّة»، وهو ما يعني الضّوء الأخضر لدول غربيّة أخرى، لإجراء «حوار مباشر» مع الحركة(3) وقد تزامن ذلك مع تصريحات أمريكيّة تتحدّث عن إعادة إعمار غزّة، وتقرّ بحق الفلسطينيّين والإسرائيليين (بالقدر ذاته) من الحرّية والرّفاه، وهو ما يعني أنّ المعركة فرضت على «بايدن» تجميد صفقة القرن التي تمّت في عهد سلفه وربّما وأدها، والعودة إلى مشروع حلّ الدّولتين، وإن كان هذا الحلّ مرفوضا من طرف العديد من الفصائل الفلسطينيّة. 
(5)
من النتائج الإيجابيّة لمعركة «سيف القدس» المأزق الأمني والوجودي الذي سبّبته صواريخ المقاومة للكيان الصّهيوني، وذلك بتقويض أساس المشروع الصّهيوني الذي يقوم على ثلاث ركائز مترابطة، هي الأمن والهجرة والاستيطان، فالأمن أساس جلب اليهود الصّهاينة وهجرتهم إلى «أرض الميعاد» والاستيطان فيها، وفقدانه يعني أنّ الكيان لم يعد أكثر مكان آمن لليهود في العالم، بل أصبح خطراً يهدّد حياتهم، الأمر الذي سيحدّ من هجرة يهود جدد إليها، وربّما تحدث الهجرة العكسيّة، فيتأثّر الاستيطان سلباً، وهو جوهر المشروع الصّهيوني، وفي ذلك يبدو الخطر الأمني خطراً وجوديّاً على «دولة الكيان».
لقد أسقطت صواريخ المقاومة صورة «إسرائيل القويّة» وجيشها الذي لا يقهر، ودفعت بالمستوطنين إلى فقدان ثقتهم في «دولتهم»، لتصبح مكاناً غير آمن للعيش، وفقدان ثقتهم في «جيشهم»، ليصبح مؤسّسة غير قادرة على حمايتهم، وفقدان ثقتهم في قيادتهم السّياسيّة، لتصبح قيادة لا تستطيع قيادتهم إلى برّ الأمان، ولسان حالهم يقول: «إذا كانت دولتنا عاجزة أمام جبهة غزّة منفردة، فكيف إذا ما انهمرت الصّواريخ على الكيان من كلّ الجبهات مرّة واحدة؟»
(6)
أمّا في الجانب الاقتصادي، فقد عمل الكيان الصّهيوني على تسويق نفسه منذ 2009 كلاعب إستراتيجي في السّوق الدّولية للغاز، وبشكل أخصّ في ملف غاز شرق المتوسّط الذي تضعه عدد من الدّول في مرتبة متقدّمة على سُلّم سياستها الخارجيّة. وقد نجح في مسعاه بدخوله قائمة المنتجين للغاز الطّبيعي وتحوّله من مستورد للطّاقة إلى منتج ومُصدِّر لها إلى دول عربيّة وأخرى أوروبيّة، وبحصوله على عضويّة «منتدى غاز شرق المتوسّط»(4) في عام 2019، وهو أوّل منظمة إقليميّة يكون الكيان عضوا فيها جنبا إلى جنب مع دول عربيّة باركت ذلك ودعّمته. 
لكنّ المقاومة استغلّت المعركة الأخيرة لاستهداف البنية التّحتية للطّاقة في دولة الاحتلال وأهمّها مشروع أنابيب خطّ «إيلات-عسقلان» ومنصّات الغاز الطّبيعي الصّهيونيّة في مياه شرق المتوسّط، بأكثر من عشرين صاروخا، وهو قصف أثار شكوك الشّركات الدّوليّة الكبرى حول قدرة الكيان على حماية حقول الإنتاج، وهو ما سيدفعها إلى  الإحجام عن الاستثمار بعيد المدى في تلك الحقول المعرضة لخطر التّصعيد العسكري في أيّة لحظة، خصوصا مع امتلاك المقاومة القدرة على استهداف هذه الحقول أو تعطيلها. فرغم تعزيز قدراته العسكريّة البحريّة، فإنّ الكيان فشل في حماية حقول الغاز أمام استهداف المقاومة، حيث تمكّنت كتائب القسّام الجناح العسكري لحركة حماس في 12 ماي 2021 من استهداف حقل «تمار»(5) بطائرة مسيّرة من طراز شهاب، ناهيك عن محاولة استهدافه بغواصة مسيّرة، وهو ما أدّى في النّهاية إلى تعطيل العمل في الحقل، وإغلاقه مؤقّتا من قبل شركة «شيفرون الأميركيّة» المشغِّلة له لمدّة تسعة أيّام كاملة، قبل أن تعلن إعادة فتحه مع سريان اتفاق التّهدئة.
باستهدافها حقل الغاز الطّبيعي «تمار»، تكون المقاومة قد دشّنت مرحلة جديدة عنوانها القدرة على تعطيل مصادر الطّاقة الإسرائيليّة وربّما تدميرها في المستقبل، وهو تهديد جدّي للأمن الطّاقي للكيان العبري وشركائه. وبذلك تصبح للمقاومة ورقة ضغط جديدة يمكن استخدامها لحماية الفلسطينيين، ولم لا إجبار الكيان على تقديم تنازلات للغزّاويين لتسمح لهم بتطوير حقل «غزّة مارين» القابع في المياه الإقليميّة قبالة سواحل القطاع، ‏ويقدّر حجم احتياطي الغاز فيه بـ 1.2 تريليون قدم مكعب. وهذه الورقة لم تكن لتحصل عليها المقاومة لولا نشوب معركة «سيف القدس».
(7)
هذه بعض النتائج الإيجابيّة الكثيرة والإنجازات التي تخدم القضيّة الفلسطينيّة، والمهمّ الآن هو البناء عليها والاستفادة منها وعدم الغرور بما حققته المقاومة من انتصارات على الميدان، فالعدو لم يرم المنديل وسيعمل بدعم من حلفائه الغربيين والعرب ترميم وضعه وقدراته، والتّخطيط للإطاحة بالمقاومة خصوصا والشّعب الفلسطيني عموما. ولكن إذا كان الصّهيوني يريد، فإنّ اللّه يفعل ما يريد. «وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ» (6)
الهوامش
(1) استعمل الكيان نفوذه ليفرض على إدارة الفايس بوك القيام بملاحقة تقنيّة صارمة لمستخدميه من مناصري القضيّة الفلسطينيّة تحجب وتقيّد الوصول إلى أيّ محتوى قد يصب في صالح التّعاطف مع المدنيين في القدس أو غزّة.
(2) منذ اندلاع المواجهات على الأرض بين الصهاينة والفلسطينيين اندلعت مواجهات موازية على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، كان للفيسبوك نصيب الأسد منها.
(3)  التّصريح الألماني يوم 20 ماي 2021 مشبّع بالدّلالة، لأنّ ألمانيا تقف بقوّة مع الكيان ولديها «حساسية مفرطة» حيال كل ما يتعلّق بأمنه ووجوده، وهو موقف متأسس على إرث «الهولوكوست» وعقدته. كما تتّخذ عادة مواقف متشدّدة حيال حركات الإسلام السّياسي خاصّة حماس.
(4) تأسس في جانفي 2019، ويقع مقره الرئيس في القاهرة، ويضم سبعة أعضاء مؤسّسين، وهم مصر واليونان والسلطة الفلسطينية وقبرص اليونانية والأردن وإيطاليا والكيان الصهيوني، بصحبة كلّ من الولايات المتّحدة والاتحاد الأوروبي وفرنسا والبنك الدّولي بوصفهم مراقبين دائمين.
(5) يُعدُّ حقل غاز «تمار» أحد حقول الغاز الرئيسية في المياه الإقليمية الفلسطينية المحتلة، وهو يقع قبالة سواحل عسقلان، وتبعد منصته قرابة 35 كم عن قطاع غزة، وتشير التقديرات إلى وجود 9.1 تريليون قدم ‏مكعب من احتياطات الغاز فيه، وتذهب الحصة الرئيسة منه للسوق المحلية ‏الإسرائيلية
(6) سورة الأنفال - الآية 30