تمتمات

بقلم
رفيق الشاهد
صرخة في صخب صامت (8)
 أصبح أبوها من حين لآخر ينفرد بنفسه بعد أن يعصر لها قهوة تقاطرت خلاصتها مركّزة في قعر الفنجان، تعبق رائحتها الذّكيّة المتسرّبة من فقاعات زبدها، فتدغدغ مواسير الشّم لديه. وهو يتكيّف مرارتها الشّهيّة، يعتصر بعض السّطور تحت وطأة الضّغط النّفسي المتنامي نتيجة تردّي أوضاع البلاد هنا وهناك، من قبل الثّورات ومن بعدها. لم تعرف هذه الشّعوب الخروج من أزماتها ولو بأكبر الخسائر. فشمت الحاسدون ولم يندم الفاعلون، وإن سئموا نكد الحياة وبؤسها اللّذيْن أصبحا يدفعان الجميع إلى متنفّس وحيد وجدوه غير بعيد عنهم بل بين أيديهم. فتراهم يصدحون بالمنكر شتما وسبّا حينا، وبجلباب الأتقياء الأجلاء نصحا ودعاء حينا آخر.
فللّه الحمد الذي سخّر لهم هذا الفضاء الافتراضي المفتوح لجميع البشر والذي بنى لهم عوالم من صنعهم لم تطأها قدم، ولكنّها شحنت بهموم الدّنيا ومآسيها. فهل سيتّسع هذا الفضاء الرّحب بعوالمه السّيبرانيّة بما يكفي لنفي النّفايات وتخليص مجتمعاتنا ممّا أفرزته من قبح وقذارة. 
مازالت «نوفل» تخاطب صورة أبيها مبتسما كأنّه اطّلع على ما يدور في خلدها، وأبدى رضاه بالهديّة في انتظار الوقت المناسب الذي لم يحن بعد، حتّى انتبهت إلى نفسها كم كانت مأخوذة بهذه الصّورة التي رسمت على الورقة وحجبت ما كانت بصدد قراءته وفاحت منها قهوة أبيها.
بلهفة وبعد أن تلاشى بخار الذكرى من بين يديها، واصلت قراءة التّدوينة من حيث توقّفت منذ ما يقارب السّاعة في هذه المحاكاة اللّذيذة. كتب أبوها: 
«... معركتنا اليوم معرفيّة وثقافيّة أساسا. معركتنا وجوديّة وإنسانيّة أو لا تكون، ولا تختزل في صراعات فئويّة بين غني وفقير، وبين منتسب للحداثة ومتأصّل ماسك بأسنانه في السّلف ما صلح منهم وما طلح. معركتنا قد لا تنتهي وتطول طالما لم نُنْهِ صراعاتنا الوهميّة التي جعلتنا مذبذبين لا من هؤلاء ولا من هؤلاء، تنهشنا الفتنة من كلّ جانب. أرجلنا لا ترتكز على يابس، بل منغمسة في وحل لازج ورمال متحرّكة تبتلع كلّ من حاول التململ. كلّ المؤشّرات والدّلائل تشير إلى فشل الفكر الذي بني على تجارب الماضي جعلت واقعنا متعفّنا وعيشنا مريرا. وإن لم يكن لنا موطئ قدم في الحاضر، فكيف يمكن لنا أن نقيم ركائز للمستقبل؟ ...
أنطلق في تحليلي البسيط من ملاحظة دقيقة حول المترادفات لا أظنها تغيب عند عاقل نير متمعّنا في اللّغة، ولا يغفل عنها فقيه متبصّر صادق النّية،  إذ يبني عليها كمّ من الخطباء الذين لا يسعون إلّا لتعبئة الرّأي العام لمعركة التّدافع الاجتماعي والفكري والسّياسي، ومن وراء هؤلاء أصحاب المصالح تراهم يدسّون الحطب لتأجيج النّيران، وفي كلّ الحالات هم الرّابحون، إذ يبيعون الحطب المهرّب لإشعال الحريق ثمّ تجدهم في الصّفوف الأولى يؤجّلون إطفاءه ويحسبون ما أتلفته النّيران.
تبنى عادة الكلمات على مترادفات لتعزيز الفهم عند علماء الفقه واللّغة ومراجع اللّسانيّات، ولتطوير مفاهيم مبهمة أرادها البعض أن تبقى كذلك لغاية تنبني على حيل يُلجأ إليها عند توازن القوى المتصادمة. ويصبح كلّ من الدّهاء والتّآمر والخداع أساليب ووسائل تبرّر الغاية المتمثّلة في قلب موازين القوى لهؤلاء. ومن ذلك ما يسعى إليه آخرون من اعتماد الثّنائيّات المتضادّة والتّفريق بينها أكثر ممّا تحتمل. وعلى هذا المثال نسمع في خطابات اليوم تتردّد الثّنائيات «نحن وهم»، «تقدّميّون ورجعيّون»، «يمين ويسار» مؤمنون وكفار وامرأة ورجل.... لا لشيء إلاّ للتّمركز بالنّسبة للآخر، وبناء موقع يميّزه عن الآخر، لأنّه لا يرضى القسمة العادلة. لماذا يرضى بالخمسين من كان في مقدوره الحصول على المائة؟ ولماذا يرضى بالنّصف من تعوّد التّمتّع بالحصّة كاملة؟
أين العقلاء لتثبيت الحكمة والوقوف على المعاني الحقيقيّة للحياة الإنسانيّة التي تنبني على العدل والمساواة من أجل تحقيق الذّات الإنسانيّة وكرامتها وتكتمل بذلك فرحة الحياة « La joie de vivre » حسب القاموس الفرنسي. هل مازال هناك معنى للشّرف والعزّ في مناحي هذه الحياة؟ أين الحكماء للوقوف على معاني هذه المفردات التي أصبحت هلاميّة لا شكل لها وإن استقرت زاوية النّظر إليها؟. أيّ معنى للأخلاق إذا لم تقترن إحداثيّاتها بالأبعاد الإنسانيّة؟...»
كيف لا تنبهر «نوفل» بما يكتبه أبوها، وكيف لا تفتخر بشخص مثله؟ كم تشتاق إلى تلك الرّائحة التي كانت تشتمّها وهي صغيرة تختبئ في ثنايا ثيابه، حتّى كادت حين تمنّت أن تأخذ مكان حافظة النّقود في جيبه الدّاخلي الأيسر. لم تقل لأحد أنّها كانت تغار من حافظة النّقود الهزيلة التي جعلها أبوها أقرب إلى صدره، فكانت ترافقه أينما كان. وحتّى لمّا كبرت البنت لم يتقلّص وهج الغيرة لديها. وفضح حنينَها إلى جيب أبيها حيوان الكنغر الذي ملأت صوره غرفتها وصفحات كراريسها منذ أن تعرّفت عليه.
أبوها الذي ظلّ صامتا طيلة عشريّة ما بعد الثّورة الشّعبيّة التي قامت بالبلاد، يتساءل اليوم ويتساءل وفي كلّ مرّة يزيد يقينه أنّه على حقّ. ظلّ صامتا في حيرة وهو الوحيد الذي يملك الحقيقة التي يتصوّرها. وهو الذي يملك من الفطنة والذّكاء ما جعله يؤمن أنّ الكلّ يحمل في مكنونه حقيقة، وأنّ الحقيقة قد ضاعت بين المتنازعين ووجدها تشتّتت بين شيع وأحزاب، وتفرّقت «كلّ حزب بما لديهم فرحون» يحيون نفس الذّكرى نصرا وغلبة عند هؤلاء ونكبة عند الآخرين. 
تكبر «نوفل» وتغذّي فكرها المتعطّش الذي ألهاها عن بدنها وحاجاته، فأصبحت تستجيب على طبيعتها إلى الرّغبة في الأكل ممّا دفع «بسمة» أمّها إلى تحذيرها من حين لآخر، وتدعوها إلى الامتناع لا حفاظا على رشاقتها بل خوفا من السّمنة التي أصبحت تهدّدها دون انتباه منها.