القرآن والعلم

بقلم
نبيل غربال
المقال الأول: الجبال أوتاد - الجزء الثّاني: نموذج القشرة الأرضيّة الطّافية فوق الوشاح
 تبين لنا حسب قواميس اللّغة العربيّة أنّ الوتد هو جسم صلب جزء منه مغروز في الأرض بينما يعلو الجزء الآخر سطحها وأنّه ثابت ومثبّت. خاطب القران العرب بما يفهمون. قال لهم أنّ الجبال مغروزة في الأرض، وأنبأهم بأنّها مثبّتة لها أيضا وذلك من خلال ما فهموه من بعض الآيات التي ذكرت فيها الرّواسي، فصدّقوا ولم يكن بمقدورهم التأكّد من ذلك. فماذا يقول العلم الحديث عن بنية الجبال ووظيفتها؟
نبدأ في هذا الجزء تتبّع تطوّر التّصوّر العلمي لبنية الجبال وما استقرّ عليه العلم الحديث في شأنها لنضعها وجها لوجه مع الآية، ونؤجل الكلام عن كيفيّة نصبها ووظيفتها في المقالات اللاّحقة.
تصوّر الجبال قبل القرن التاسع عشر ميلادي
إنّ التّصوّر السّائد عن الجبال قبل القرن 19 هو نفسه الذي كان سائدا على امتداد الماضي الإنساني وبالضّرورة في زمن الوحي: فالجبل لم يكن يعني، على مستوى الشّكل طبعا، سوى أنّه منطقة من الأرض مرتفعة نسبيّا عمّا حولها ولها طول يميزها عن التلّ. إنّه -وببساطة شديدة- كتلة ضخمة من الأحجار والصّخور تبدو مكدّسة على الأرض. أمّا عن باطن الأرض وعلاقة الجبل به، فالأمر كان خارج إمكانيّات المدارك العقليّة والوسائل التّقنيّة للبشريّة جمعاء. 
بدأ هذا الباطن يشغل الفكر العلمي في القرن 17م، حيث أصبح موضوعا للتّخمينات العلميّة، اذ «قام الفيلسوف الفرنسي «R. ديكارت» بواحدة من المحاولات الأولى للتّخمينات العلميّة عنه. ففي مؤلّفه مبادئ الفلسفةPrinciples of philosophy المنشور عام 1644م، ذكر ديكارت أنّ الأرض لها نواة مركزيّة تتكوّن من سائل بدائي primordial مثل الشّمس، محاطة بطبقة صلبة مُعتِمة، تليها طبقات متمركزة من صخر وفلز وماء وهواء تكوِّن سائر الكوكب»(1). تطوّرت هذه الصّورة منذ ذلك الوقت مع بقاء إقرار الجيوفيزيائيّين بفكرة الأرض المتطبقة التي تعني أنّ الأرض كرويّة الشّكل تقريبا وتتشكّل من طبقات كرويّة تغلف بعضها البعض، الأثقل فالأثقل، من السّطح الى المركز، وكلّ طبقة لها سمك ثابت. وفي إطار هذا النّموذج تصوّر العلماء الجبال قبل بداية دراستها علميّا على أنّها تجمّعات صخريّة مكدّسة على الطّبقة الصّخريّة الخارجيّة التي يطلقون عليها اسم القشرة الأرضيّة، وكانوا يعتقدون أنّ تلك الطّبقة لا تتأثّر بالكتلة الجبليّة التي تعلوها، أي أنّ لها سمك ثابت سواء تحت الجبل أو تحت التّضاريس الأخرى مثل السّهول والوديان والبحار وغيرها. 
بداية الدّراسة العلميّة للجبال
وفي دراسة لسلسلة جبال الأنديز وهي أطول سلسلة جبلية في العالم (6962كم) قام العالم «Pierre Bouguer»ا(2) وفريقه في منتصف القرن الثّامن عشر (1749م) بحساب الجاذبيّة الأرضيّة قريبا من تلك السّلسلة، وذلك في إطار التّصوّر السّائد آنذاك للجبال الذي يرى أنّها كدس من الصّخور يقوم على قشرة صلبة متينة تحتها وذات ثخانة ثابتة، فلاحظوا أنّ قياس تأثير الجبال على الجاذبيّة الأرضيّة يعطي مقدارا أقلّ من ذلك الذي تعطيه الحسابات: لم تجذب كتلة جبال الهيمالايا البندول، وهي أداة القيس المستعملة، كثيرًا مقارنة بما كان ينبغي أن تفعله حسب التّصوّر السّائد. اعتقد العلماء أنّ الإضافة التي يمثّلها الجبل بالنّسبة للمنبسط المجاور ستجعل الجاذبيّة أقوى، لكنّ القياسات لا تقول ذلك. إنّ قوّة الجذب المقاسة لا تتناسب مع كتلة الجبال الهائلة بل أقلّ بكثير ممّا تنبئ به الحسابات. وفي منتصف القرن 19 لوحظ نفس الشّيء بالنّسبة لجبال الهمالايا التي تفصل الهند عن التّبت وهو ما عرف بـ «اللغز الهندي». 
 
  فرضيّة الصّخور الطّافية
توصّل العلماء الى استنتاج مهمّ مفاده أنّ تصوّر القشرة الخارجيّة كطبقة ثابتة السّمك يجعلها لا تمثّل أساسا مناسبا للجبال التي تعلوها. «وفي وقت مبكر من عام 1851، حاول عالم الفلك الملكي «جورج إيري» أن يشرح سبب عدم جذب كتلة جبال الهيمالايا للبندول إلى جوارها بشكل كبير أكثر مما كان ينبغي أن تفعله. فقدّم فكرة جديدة تتمثّل في افتراض أنّ القشرة القارّية تتكوّن من صخور خفيفة، تطفو على وشاح أثقل مثل جبل جليدي، استنتج أنّ أيّة تضاريس عالية، مثل الجبال، يجب أن يكون لها امتدادات أكثر عمقا كلّما ازداد ارتفاعها فوق مستوى سطح البحر. لذلك يجب أن يكون للسّلسلة الجبليّة «جذور» تغوص في الوشاح»(3).
بنى إذن «آيري» نموذجه التّفسيري على مبدأ الأجسام الطّافية. يوضح الرّسم (ب) في الصّورة التّالية هذا المبدأ الفيزيائي. يمثل هذا الرّسم مجموعة من الأجسام الخشبيّة متماثلة الشّكل ولكن تختلف عن بعضها بالارتفاع. نلاحظ أنّه بقدر ما تكون قطعة الخشب مرتفعة بقدر ما تغوص في الماء. ويظهر الحساب في الشّكل (أ) والذي أجري وفق هذا المبدأ، أي باعتبار القشرة جسما يطفو فوق الوشاح، أنّه يجب أن يكون هناك جذرا تحت القمّة الجبليّة المرتفعة 8 كم يمتدّ الى عمق يقدّر بـ 80 كم حتّى تتوافق حسابات الجاذبيّة مع نتائج القيس(4).  كما نلاحظ بوضوح التّماثل بين شكل القشرة الأرضيّة (البنّي الفاتح في أعلى الصّورة) وشكل قطع الخشب (في الأسفل) وهو ما يجعل القول بأنّ «القشرة تطفو على الوشاح» قول ذو سند فيزيائي صلب.
 لقد بيّنت إذن كلّ الحسابات التي أجريت في إطار هذا التّصوّر الجديد(5)، التطابق بين الحسابات النّظريّة والمشاهدات التّجريبيّة (القيس) المتعلّقة بحقل جاذبيّة الأرض قرب الجبال. وأدى عدم التّناقض ذاك إلى التّخلّي نهائيّا عن فكرة أنّ الجبال هي صخور موضوعة على قشرة فوق وشاح، والى تبنّي مبدأ التّوازن الهيدروستاتيكي الذي تخضع له الأجسام الطّافية لتفسير شكل الجبال ووظيفتها، أي تبنّي ظاهرة تعرف بالتّوازنيّة isostasie أي توازن قشرة الأرض الذي يعود الى طَفْوِهَا على الوشاح الذي تعوم عليه. وحسب هذه الظّاهرة، كلّما ارتفع الجبل غاص جذره عميقا في الأرض حتّى يتحقّق التّوازن ذو الطّبيعة الهيدروستاتيكيّة، وكلّما تآكل خفّ وزنه وارتفع من جديد.
لن نخوض أكثر في هذه الظّاهرة التي اعتمدت لاقتراح تصوّر جديد للجبال يتجاوز ما هو مرئي ليكشف لنا ما خفي، وهو الأعظم، بل سنؤجّلها الى محور آخر يهتمّ بتوازن القشرة الأرضيّة وانعكاس ذلك على توازن كوكب الأرض، وهو بعد من الأبعاد التي سنتناولها في محور الرّواسي. هذا ما تقوله إذن الفرضيّات فيما يتعلّق ببنية القشرة الأرضيّة تحت الجبال وغيرها من معالم سطح الأرض، فهل هناك مقاربة أخرى تجعل من تلك الفرضيّات حقيقة طبيعيّة؟
تعدّد النّماذج وطلب الحقيقة
لا يعتمد العلــم على الفرضيّـات والنّمـاذج العدديّة فقط حتّـى وإن أعطـت حساباتهــا نتائج مطابقة للقياسات. فقد بيّنـت الرّياضيّـات أنّ العديد من النّماذج المختلفة يمكن أن تعطي نتيجة واحدة متطابقة مع الملاحظات التّجريبيّة وهو ما يسمّى بمشكـل اللاّتعيّنProblème d’indétermination  في الجيوفيزياء. ويعني هذا المشكل أنّه يمكن تفسير الاختلاف بين مقدار الجاذبيّة المقاس ومقدارها المحسوب بتبنّي تصوّر آخر لشكل القشرة الأرضيّة تحت الجبال ووفق نفس مبدأ الطّفو، كأن نفترض مثلا تغيّر كثافة الصّخور داخل القشرة أفقيّا لتكون خفيفة تحت الجبال وأثقل فأثقل تحت التّضاريس الأقل فأقل ارتفاعا. ولتوضيح ما يسمّى بمشكل اللاّتعيّن، أي وجود تفاسير عديدة لنفس الظّاهرة المشاهدة،نستعين بالصّورة المقابلة حيث تفسّر التّضاريس إمّا باختلاف كثافة القشرة أو باختلاف سمكها مع عدم تغيّر كثافتها.
لذلك يطلب العلماء أو بالأحرى المنهج العلمي الحديث دائما البرهان المادّي المحسوس حتّى ترقى فرضيّاته إلى مرتبة الحقائق. إنّهم يعملون بمنهج قرآني جوهره الآية القرآنيّة «قُلْ هَاتُوا بُرْهَانكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ»(6) . فهل تتغيّر كثافة الصّخور داخل القشرة القارّية نتيجة تغيّر تضاريسها وهو ما يعني عدم وجود جذر تحت جبالها؟ وما طبيعة البرهان التّجريبي الذي تجلّت به حقيقة بنية الجبل؟