حديث في السياسة

بقلم
محمد أمين هبيري
المحكمة الدستورية انفراج لأزمة سياسيّة أم انبثاق لأزمة بنيويّة
 تمثّل المحكمة الدّستوريّة أعلى سلطة قضائيّة في البلاد، وقد بيّن دستور 2014 طريقة اختيار قضاتها وصلاحياتها، وبشكل عام فإنّ المحكمة الدّستوريّة هي صاحبة القول الفصل بتوافق أيّ قرار أو مرسوم أو قانون أو حكم قضائي مع الدّستور الذي هو التّشريع الأعلى في البلاد ولا يجوز مخالفته(1). يقوم القاضي لدى المحكمة الدّستوريّة، والذي يسمّى بالقاضي الدّستوري، بوظيفتين؛ أحدهما النّظر في دستوريّة القانون فتكون رقابة القاضي متمثّلة في تطبيق احترام القانون للدّستور ومنه احترام العقد الاجتماعي بين المواطن والسّلطة السّياسيّة أيّا كانت طبيعة النّظام برلمانيّا أو رئاسيّا أو مزيجا بينهما. وثانيهما الحكم بين السّلطات السياسية عند حصول التّنازع بينها أو عند خرق إحداها للدستور، وهو أهم لكونها من متعلّقات النّظام العام داخل الدّولة أي ثمرة تعاقد بين المواطنين.
لقد نصّ دستور الجمهوريّة الثّالثة(2) 2014 في فصله 118 على أنّ للمحكمة الدّستورية هيئة قضائيّة مستقلّة تتركّب من اثني عشر عضوا من ذوي الكفاءة، ثلاثة أرباعهم من المختصّين في القانون الذين لا تقلّ خبرتهم عن عشرين سنة. غير أنّ القانون الأساسي المتعلّق بالمحكمة الدّستوريّة اشترط مدّة سنة واحدة كأجل أقصى يلي الانتخابات التّشريعيّة لسنة 2014 على أن تتولّى الهيئة الوقتيّة لمراقبة مشاريع القوانين البعض من مهام المحكمة. غير أنّه تحوّل أجل السّنة، المضروب للجهات المعنية بإرساء المحكمة الدّستورية، إلى ما يقارب ستّ سنوات نتيجة لجملة من العوامل طغى عليها السّياسي واختلط فيها العملي بالقانوني. ولكن مع تفاقم الأزمة السّياسيّة بين قرطاج والقصبة والصّراع المحتدم على الصلاحيّات، والنّزعة الرّئاسويّة التي أظهرها ساكن قرطاج أدّت إلى الدعوة إلى التّسريع في إرساء المحكمة الدّستوريّة كحل لانفراج أزمة سياسيّة خانقة (الجزء الأول) غير أنّ المتدبّر في أحكام القانون الأساسي للمحكمة الدّستوريّة يكتشف بوادر لانبعاث أزمة سياسيّة بنيويّة (الجزء الثاني)
الجزء الأول: المحكمة الدّستورية؛ كحل لانفراج أزمة سياسيّة خانقة 
تمثّل المحكمة الدّستورية، بما هي أعلى سلطة قضائيّة في البلاد، إحدى أهم ركائز المنظومة الدّيمقراطيّة إذ أنّها من بين أهمّ المنجزات على الصّعيد القانوني والتي أتت بها رياح ثورة 2011،  ولكونها تحتل مكانة هامّة في الهرم القضائي التّونسي تمّ إفرادها باختصاصات واسعة تمسّ السّلطة التّشريعيّة (العنصر الأول) والسّلطة التّنفيذيّة (العنصر الثّاني)
العنصر الأول: وظيفة رقابة السّلطة التّشريعيّة 
تتمثّل الوسائل التي يلجأ إليها المتقاضي للنّظر في مدى دستوريّة القوانين وحتّى مشاريع القوانين في وسيلتين إثنتين؛ الأولى تتمثل في الرّقابة عن طريق الدّعوى الأصليّة. والثّانية تتمثّل في الرّقابة عن طريق الدّعوى الفرعيّة. والمتدبّر في الوسيلتين يجد أنّهما متكاملتان وذلك لضمان حسن سير مهام المحكمة الدّستوريّة وضمانا لبسط سلطتها الرّقابيّة على جميع القوانين، قديمة كانت أم حديثة، في ظلّ قضايا ترفع أمام المحاكم ينتفي فيها تطبيق قوانين لا تمت لا للمكان ولا للزّمان بصلة الأمر الذي يجعل من تحقيق العدالة أيسر.
أمّا الرّقابة القضائيّة عن طريق الدّعوى الأصليّة فتعني السّماح لصاحب المصلحة ليبادر برفع دعوى ابتداء أمام المحكمة المختصّة للمطالبة بإلغاء القانون المخالف للدّستور، ولا ينتظر حتّى يطبق عليه القانون ليدفع بعدم دستوريته.
وأما الرقابة عن طريق الدّفع الدّعوى الفرعيّة فتعني الرّقابة في هذه الصّورة وجود نزاع مطروح على القضاء، ثم يدفع أحد الخصوم بعدم دستوريّة القانون المراد تطبيقه عليه، وفي هذه الحالة يتعيّن على القاضي أن يفحص هذه الدّعوى، فإذا تحقّق من مخالفة القانون للدّستور امتنع عن تطبيقه ولكنّه لا يلغيه، وإذا تحقّق من عدم مخالفة القانون للدّستور فإنّه يرفض الدّعوى ويصدر حكمه وفقا للقانون السّاري المفعول.
العنصر الثاني: وظيفة رقابة السلطة التنفيذية 
تسعى المحكمة الدستوريّة إلى حلّ النّزاعات التي قد تحدث بين رأسي السّلطة التنفيذيّة خاصّة فيما يتعلّق بمسألة توزيع الاختصاصات؛ حيث حدّد دستور 2014 اختصاصات حصريّة لكلّ واحد منهما، وكذلك اختصاصات مشتركة (الشّؤون الخارجيّة، الدّفاع، الأمن القومي، ..) ممّا قد يؤول منطقيّا إلى نشوب عديد حالات تنازع فيما بينهما. 
معلوم أنّ عبارة الأمن القومي تحتمل عدّة معان؛ ذلك أنّ المفهوم الضّيق لهذه العبارة يدلّ على الأمن العام بالبلاد، غير أنّ الأمن القومي بالمعنى الواسع إنّما هو عبارة عن جميع المجالات الحيويّة داخل الدّولة، والتي يمكن تصنيفها ضمن مصطلح الأمن القومي، ولذلك فإنّ المحكمة الدّستوريّة مطالبة بتحديد المفهوم، وذلك لتحديد اختصاص كلّ سلطة.
يبدو أنّ السّلطة السّياسيّة قد أدركت الخطأ الجسيم الذي اقترفته بعدم إرساء المحكمة الدستوريّة خصوصا بعد الصّراع السّياسي الذي نشب في الفترة النيابيّة السّابقة (2014-2019) وحتّى الحاليّة (2019-2024) بين قطبي السّلطة التّنفيذيّة، وهو ما دعا العديد للتّفكير في تعديل قانون المحكمة لتسهيل عمليّة تركيزها. لكنّ التّركيبة الحاليّـة للمحكمــة تُنَبِّئُ بأنّها ستكون عبءا آخر سيضــاف إلى المشهد السّياسي التّونسي، وهو ما سنكتشف أسبابه في الجزء الثّاني من الموضوع.
الجزء الثاني: المحكمة الدستورية؛ كمعضلة لانبعاث أزمة سياسية بنيوية
يبدو أن المتدبّر في القانون الأساسي عدد 50 لسنة 2015 ، المؤرّخ في 3 ديسمبر 2015 والمتعلّق بالمحكمة الدّستوريّة يكتشف أنّ المحكمة الدّستوريّة، بما هي هيئة قضائيّة تسعى لتكريس استقلاليّة السّلطة القضائيّة عن السّلطتين التّشريعيّة والتّنفيذيّة، تعاني من استقلال صوري للمحكمة عن بقيّة السّلط (العنصر الأول) وحياد نسبي خاصّة بالنّظر لطريقة انتخاب أعضائها (العنصر الثاني)
العنصر الأول: تكريس صوري لاستقلالية المحكمة 
وضع القانون الأساسي أسسَ سير عمل المحكمة الدّستوريّة بمنحها الهياكل الإداريّة اللاّزمة لتسييرها. نصّ القانون بأنّ رئيس المحكمة هو ممثّلها القانوني بمهمة الإشراف على مصالحها الإداريّة(3). كما أحدث القانون مهمّة الكاتب العام المعين بأمر حكومي وهي من بين أهمّ الوظائف الأساسيّة داخل المحكمة. من ناحية أخرى يجب أن تكون المحكمة الدّستوريّة في المجال المالي مستقلّة قدر الإمكان عن سلطة البرلمان وكذلك عن السّلطة التّنفيذيّة، على غرار وزير العدل أو وزير الماليّة. ولذلك، أقرّ الفصل 32 من القانون عدد 50 استقلاليّة المحكمة اداريّا وماليّا، حيث تعدّ المحكمة الدّستوريّة بنفسها، ميزانيتها الماليّة، ويكتفي البرلمان بالمصادقة عليها شكلا فقط، اذ أنّه يتقبّل تقديرات الإنفاق التي تعرضها عليه المحكمة، وتدير المحكمة بنفسها ميزانيتها دون تدخّل السّلطة التّنفيذيّة.
يمكن القول إذن، أنّ استقلاليّة المحكمة الدّستوريّة مرهونة بعوامل خارجيّة، لذا ينبغي أن تفرض استقلاليّتها عن السّلطتين التّشريعيّة والتّنفيذيّة كي لا تكون تحت سلطة أيّ كان، فتصدر آراءها وأحكامها بعيدا عن التّجاذبات السّياسيّة، وذلك باعتماد وسائل وآليّات متعدّدة تضمن للمتقاضي عمليّة مراقبة دستوريّة القوانين.
العنصر الثاني: حياد نسبي لاستقلاليّة أعضاء المحكمة 
اشترط الدّستور أن تتكوّن المحكمة الدّستوريّة من إثني عشر عضوا من ذوي الكفاءة، ويكون ثلاثة أرباعهم من المختصّين في القانون ذوي خبرة لا تقلّ عن عشرين سنة. ويُعيّن أعضاء المحكمة بالتّساوي من قبل رئيس الجمهوريّة، ومجلس نواب الشّعب والمجلس الأعلى للقضاء.  وبهذا يكون نصيب كلّ طرف أربعة أعضاء. 
يبدو من الوهلة الأولى أنّ القضاة الدّستورييّن الذين سيشكّلون المحكمة الدّستوريّة هم أبعد ما يكونون عن الاستقلاليّة وذلك لاعتبارات أهمها: 
- أن يكون الأعضاء منتخبين من طرف كتل سياسيّة في البرلمان يقومون بتزكيتهم ليصلوا إلى المحكمة الدّستورية على أكتاف السّياسة، فهذا ضرب للاستقلاليّة في مقتل.
-  أن يكون الأعضاء معيّنين من طرف رئيس الجمهوريّة، يمثّل تدخّل من السّلطة التّنفيذيّة في السّلطة القضائيّة وضرب من ضروب العبث بالدّيمقراطيّة النّاشئة.
وكان من الأجدر، أن يتمّ انتخاب أعضاء المحكمة الدّستوريّة بعيدا عن المؤسّسات السّياسيّة والتّركيز على المؤسّسات القضائيّة وغيرها من المؤسّسات المهنيّة الأخرى، فيكون أعضاؤها من خيرة الكفاءات الوطنيّة يتمّ انتخابهم من طرف هيئاتهم المهنيّة، فتكون متركبة من :
- قاض عدلي وقاض إداري وقاض جبائي وقاض مالي
- محام لدى التعقيب 
- خبير محاسب
- أستاذ تعليم عال مختص في القانون الخاصّ
- أستاذ تعليم عال مختصّ في القانون العام
- أستاذ تعليم عال مختصّ في العلوم الشّرعيّة.
الهوامش
(1)  Constitutional Court of Austria - History - نسخة محفوظة 26-08-2012 على موقع واي باك مشين.
(2)   دستور الجمهورية الأولى هو دستور قرطاج في القرن السادس ميلادي ودستور الجمهورية الثانية هو دستور 1956 وأخيرا دستور الجمهورية الثالثة هو دستور 2014 ولو أننا قمنا بالاقتصار في الحديث بأن دستور الجمهورية الثانية هو دستور 2014 لتم نسف تاريخ 3000 سنة حضارة في جرة قلم. إن الدولة التي لا تستعرف بتاريخها لا يستعرف بها مستقبلها.
(3) الفصل 29 للقانون الأساسي المتعلق بالمحكمة الدستورية