همسة

بقلم
شكري سلطاني
الحضور قانون
 إنّ الحيّز المكاني الذي يتحرّك فيه الإنسان هو مجاله الحيويّ الذي يحيط به ويحتويه، يؤثّر في رحابه ويتأثّر، وإنّ صيرورة الزّمان تستوعبه وتسحبه إلى الحياة بكلّ تمظهراتها وتفصيلاتها وأحداثها المتواترة المتعاقبة. فهو بين الإحتواء والإستيعاب سائر إلى وجهة هو مولّيها.
وجوده، إطار مكاني به يتصّل ومدار زماني به متصّل، فيجد الإنسان نفسه مرتبطا مقيّدا بصيرورات حياتيّة تنعكس جلّها سلبا وإيجابا على نفسيته وعقليّته، وتظهر جليّا في إهتماماته وتعلّقاته وإنشغاله وإنصرافه وكذلك في ضغوطاته النّفسيّة ومزاجه، فليس للحياة معنى دنيوي دون إنجذابه ومشاركته وسعيه وَأحاسيسه ومشاعره.
لن يفلت الإنسان من حيّز المكان وضغط الزّمان، فحضوره قانون « la présence fait loi» وظاهره حرّ منفصل وباطنه مقيّد متّصل.
إنّ الظّروف الحياتيّة الموضوعيّة المعيشيّة متعاليّة نسبيّا على الذّات ككينونة بما تفرزه من سياق ونسق وأنماط حياتيّة تجعل من الشّخص مساقا منقادا إلى قدر إجتماعي وجبر حضاري بشري يستوعب وجوده ويحتويه.
حتميّة قاهرة تجعل منه فردا سائرا مع جمع غفير وقطيع هائم في بيداء الحياة، في مركبة سير دون دليل ولا بوصلة، إذ الكلّ يسعى ويتوجّه حاملا مشاغله وأثقاله. البعض يسارع في سيره والبعض الآخر يتباطأ، ولا أحد يتوقّف ويلتفت إلى ماضي مضى ليعتبر ويتذكّر أو يستوعب حاضره وينقد سلوكه وتهافته ويقيّم نشاطه.
سهم المستقبل والاتّجاه إلى الأمام غاية منى أغلبيّة البشر. التّفكير غالبا في زمن آت لم يأت بعد في حكم علم الغيب، غائب عن علم الإنسان وإدراكه، والحاضر مستهلك بإنهاكات وشواغل الواقع وهمومه. فليس للإنسان قاعدة انطلاق ودعامة وركيزة للإبحار إلى وعى الكمال لا وعي الضرورة، إلاّ بالتّفكير في حاضره ولحظاته وإفلاته وإنفلاته وإستقلاله من أُطُره وتأطيره الجبري، لتحقيق فردانيّته وخصوصيّته.
ولكن ليس متاحا، وليس باليسير المباح النّظر والتّفكّر من خارج الصّورة والحركة ومن وراء الإطار والتّأطير، فالإستبصار والتّدبّر والتّأمّل ليس بالوهم ولا الخيال، بل يقظة ضمير وصحوة وجدان وصفاء عقل لنفس كادحة بوجود البصيرة النّافذة والرّوح الأصيلة المتوثّبة للعرفان.
إنّ سكون الإنسان وصمته وعزلته خارج حياة العامّة، خارج النّمطيّة والنّسقيّة وفراق القطيع المندفع السّائر في نظام فوضى منتظم هرجا وضوضاء وهذيانا وأوهاما مبثوثة وأحلاما مستبطنة معلنة من بركات التّأملات ومن بصر البصيرة وخبرة حياة ومن التعلّم من مدرسة الحياة والتفكّر في نهاية المآلات وغاية الصّيرورات.
إنّ عدم الوجود وجود لمعنى الحياة مجرّدة من زينتها وظاهرها وغشاوتها السّالبة للّبّ والوجدان.فوجود الحياة بما هي عليه وبما عليه حياة النّاس عدمٌ لحقيقة ومعنى الحياة، فقد تكمن حقيقة الإنسان في عدم العدم ومخالفة عادات البشر ونفي النّفي، فذاك إثبات. فالألم والأمل من ضغوطات الحياة وكذلك اليأس والرّجاء والأمل دعائم لمقوّمات الحياة. فلا أمل للإنسان ولا أمنية له من أبعاد عدم الحياة النّمطيّة، وهي حقيقة من حقائق الذّات غير المسلوبة المقيّدة بظروف الحياة الضّاغطة القاهرة للنّفس الطّامحة الرّاغبة .
الصّمت حكمة وقليل فاعله، كما التفكّر ساعة نعمة وصحّة عقليّة ونفسيّة، وغالبيّة البشر لا تفقهه فلا تطبّقه. فالإنسان يسير إلى قدر حتميّ بنواصي وأقدام فيسها وينسى تصاريف الزمن وأحكام البشر وحقيقة الفناء والفراق ليخلد واهما بوجوده إلى ما لا نهاية والموت يترصّده. فالظّرفيّة وحيثيّات البقاء حاكمة على وجوده المعنوي والجسدي، والأبديًة الغائبة عن ذهنه صفته بعد عدمه وموته.
مأساة الإنسان في حضوره ووجوده الدّنيوي بما هو فيه وبه سائر وسعادته وهناؤه في عدمه ونقضه وقلب الهرم رأس على عقب، حتّى تستوي وتعتدل معادلة وجوده. فكيف للإنسان أن يسعى لوجود عدمه ليعثر على حقيقته الغائبة ؟