في العمق

بقلم
نجم الدّين غربال
البلوك تشين» نظام للجودة وتفعيل للحوكمة
 وقفنا في الحلقة الأولى من بحثنا عن كيفيّة تحقيق النّفع للنّاس في عصر التّحول الرّقمي الى ضرورة إعادة النّظر في دورنا كقادرين على الفعل في المجتمع، وذلك من خلال توظيف ما أفرزته مُتغيّرات ذلك التّحول التّكنولوجي من إبداع لتقنيات وعقود ذكيّة، تحقيقا لنفع النّاس وتيسير حياتهم. 
ولعلّ الاهتمام بتحقيق نفع الفئات الأكثر تهميشا وتيسير حياتها من خلال توظيف المنجزات التّكنولوجيّة الحديثة مسبّق على من سواها، خاصّة أمام إقصاء تلك الفئات من النّظام النّقدي السّائد ومؤسّساته البنكيّة ومحدوديّة مؤسّسات التّمويل الصّغير التي وإن كانت بمثابة الملجأ لكثير ممّن أقصوا ماليّا واقتصاديّا، إلاّ أنّها بقيت محكومة بعقليّة الرّبح ممّا جعل تكلفة التّمويل مُرتفعة، ويتحملها من هو في حاجة للمال دون سواه. وقد أثقل ذلك كاهل الدّائنين دون أن يتخطّوا عتبة الاحتياج وأبقاهم أسرى الجهات الدّائنة دون ان يُحقّقوا استقلالهم المالي وانعتاقهم الاقتصادي. أضف الى ذلك إشكالات ندرة الموارد بالنّسبة لمؤسّسات التّمويل الصّغير التّقليديّة، ممّا يدفع الى الحديث عن آليّات تمويل بديلة تتحرّر من المقاربة التّقليديّة للمال التي تتّخذ من الرّبح المالي الفوري محورا في عمليّات التّمويل.
ومن خلال بحثنا عن آليات تمويل غير تقليديّة، وجدنا آليّات تمويل إسلاميّة مُميّزة قابلة للتّطبيق، أثبتت في فترات مختلفة من تاريخ العديد من المجتمعات قدرة فائقة على مُحاصرة ظاهرة الحرمان التي لم تخلو منها كلّ المجتمعات على مدى الأزمان.
 وسنُخصّص حديثنا في هذا العدد عن مؤسّسة الأوقاف، كآليّة من آليات التّمويل الإسلامي وننظر في أهمّية المنجزات التكنولوجية الحديثة وفاعليتها في تنقية الشّوائب التي عَلَقَتْ بهذه المؤسّســة وأعاقــت دورها في التّمويل الاجتماعي.
لعبت مؤسّسة الأوقــاف عبر التّاريخ دورا محوريّــا في كثير من المجتمعات الإسلاميّة من خلال تحريك النّشاط الاقتصادي وتغطية عدّة حاجات اجتماعيّة، من صحّة وتعليم وإيواء. ورغم تصالح عدد من الدّول الإسلاميّة مع  التّمويل الإسلامي في عصرنا الحالي، الاّ أنّ عددا كبيرا منها بما فيها تونس، لا تزال تتجاهل قيمة مؤسّسة الأوقاف ودورها الوازن في مواجهة الرّكود الاقتصادي وفي حلّ كثير من الإشكالات على الصّعيد الاجتماعي.
 فبعد الثّورة التي عرفتها بلادنا والذي شكّل الفساد الذي استشرى وعطّل الأداء الاجتماعي للدّولة، والظّلم الذي عمّ وهدّد النّسيج المجتمعي أهمّ محرّكاتها، ورغم ما بُذل من جهود مضنية لمعاضدة الدّولة في مواجهة تلك التّحديات من خلال إبراز قيمة التّمويل الإسلامي والحاجة إلى آلياته المتميّزة من صدقة وزكاة ووقف، إلاّ أنّ كلَّ تلك الجهود وبسبب التّجاذبات الايديولوجيّة والتّنازع السّياسي لم تُكلّل بعد بالنّجاح.
واليوم مع ظهور جائحة كورونا، وما أفرزته من تداعيات خطيرة على المستويين الاقتصادي والاجتماعي بتونس، وضغوطات حقيقيّة على موازنة الدّولة والتزاماتها الماليّة، تأكّدت الحاجة أكثر فأكثر إلى آليّات تمويل اجتماعي مبتكر وشفّاف، وبرزت بالتّالي الحاجة من جديد لمؤسّسة الأوقاف، باستعمال التّكنولوجيا الحديثة الرّقميّــة من تقنيـة البلوك تشين «blockchain» والعقود الذّكيّة «Smart Contrat».
فمع ما يعيشه العالم من تحوّل رقمي قائم على ابتكارات التّكنولوجيا الحديثة وما تضمنته تلك الابتكارات من شفافيّة ودقّة في التّعاطي مع المعطيات، ومع ما تزخر به تونس من طاقات وقدرات في المجال الرّقمي، برز أمل جديد في إستعادة الثّقة في التّمويل الاجتماعي الإسلامي بتونس عبر مؤسّسة الأوقاف باستخدام مُبتكر وفعّال للبلوك تشين (أو سلسلة الكتل) ، استعمالا يمكّن من إنشاء عقود ذكيّة في إطار مشاريع الأوقاف لتكون بذلك رافعة إصلاح وبناء وتنمية خاصّة حين يتمّ ضبطها شرعا وتأطيرها قانونا، تأطيرا سليما، ويتمّ تأسيسها على قاعدة الشّفافيّة والنّجاعة والفاعليّة.
-1 أهمية استخدام «البلوك تشين» في إدارة الأوقاف
العمل الوقفي، باعتباره عمل بشري، كأي عمل علمي أو تجاري أو زراعي، يناله النّقص والتّقصير بتناسب مع المستوى العلمي والمعرفي والعملي للقائمين عليه، كما يعتريه الخلل والفساد ما استوطن الزيغ في نفوسهم وضعف حسن الخلق لديهم.
وقد عرفت بعض تجارب الأوقاف في فترات مختلفة تراجعا ملحوظا وفسادا معلوما شمل إدارتها وطرق تسييرها، فالشّكاوى الشّائعة في مجال العمل الوقفي الخيري تشمل خاصّة عدم الكفاءة والفساد، ممّا يحول دون وصول الأموال إلى مستحقّيها، إلاّ أنّه وبظهور تقنية «البلوك تشين» والعقود الذكيّة وإمكانيّة استخدامها في الأعمال الخيريّة أصبحت المتابعة الدّقيقة للتّبرعات والتّأكد من مصادرها ووجهتها أمرا ممكنا، ممّا يُضيق الخناق على النّفوس المريضة التي تسوّل لأصحابها التّلاعب بقوت الفقراء والمحتاجين. كما يُساعد مؤسّسات الأوقاف على تحسين الحوكمة، بما هي حسن التّصرّف في الموارد المودعة لخدمة هدف الأوقاف بما يعنيه ذلك من تحكّم في تكلفة المعاملات بلا إسراف ولا تقتير(1)، وبمزيد من الشّفافيّة والثّقة، وبالتّالي تعزيز مرونة الأعمال والمشاريع الوقفيّة.
-2 تقنية «البلوك تشين» في إدارة الأوقاف
تعتبر تقنية «البلوك تشين» ثورة حديثة في عالم «الأتمتة»(2) الذي يقوم بتأدية العمليّات آليّا دون تدخّل أو مساعدة بشريّة، وهي تقنيّة رقميّة ابتكرت لتحلّ مشكلة انعدام الثّقة عند إجراء المعاملات بين طرفين مجهولين بدون الحاجة لطرف ثالث وسيط بينهما، وذلك ما يميّزها عن نظم حفظ المعلومات المختلفة التّقليديّة ويجعلها تقنية عصيّة على الاختراق، ما يوفّر درجة كبيرة من الأمان، فما مفهوم «البلوك تشين» وخصائصه وآليّة عملها كتقنية؟ وكيف يمكن الاستفادة منها في مجال الأوقاف؟ 
- مفهوم «البلوك تشين» وخصائصه
«البلوك تشين» هي ترجمة حرفيّه لكلمة إنجليزيّة مركّبة هي «blockchain» وإلى يومنا هذا لم نسمع باتفاق عام على هذه التّرجمة للمصطلح، فالبعض يستخدمها كما هي «البلوك تشين»، كما هو الحال عند استخدام لفظ كمبيوتر، والبعض يعرّبها بسلسلة الكتل أو سلاسل الكتل.
و«البلوك تشين» هو نظام يعتمد بشكل أساسي على التّخزين غير المركزي للمعلومات، بحيث يتكوّن من سلسلة من الكتل أو الحزم، يتمّ في كلّ واحدة منها الاحتفاظ بمجموعة من البيانات والمعلومات المختلفة في تشفيرها وطبيعة الوصول إليها عن الكتلة أو الحزمة الأخرى.
و«للبلوك تشين» خصائص من أهمّها لامركزيّة البيانات التي من إيجابيّاتها درجة عالية من الأمان وعدم قابليتها للتّغيير أو التّعديل، وكفاءتها العالية وسرعة نقل البيانات، وكلفتها الضّعيفة وما تضمنه من شفافيّة.
من جهة أخرى، تعتبر«البلوك تشين» قاعدة بيانات تستخدم آليّة التّشفير لبناء سجل دفتري إلكتروني من البيانات، لا مركزي موزع انتشاريّا ومترابط بشكل تراتبي تاريخي غير قابل للتّعديل أو التّلاعب، ويمتاز بالشّفافيّة والسّرعة والسّهولة في إجراء العمليّات، كما يوفّر إمكانيّة مشاركة الأطراف المعنيّة به في بنائه والتّأكد من صحّته والحفاظ عليه بحسب الأنظمة والتّعليمات ذاتيّة التّشغيل المقنّنة للاستخدام.
لقد مكّن استخدام «البلوك تشين» من نقل الأصول دون نسخها، وذلك بطريقة آمنة وسريعة وغير قابلة للاختراق والتّعديل، وهذا هو عماد وجوهر فكرتها. وهذا ما سيوفّر شروط استعادة الثّقة في الأوقاف في عصرنا الحالي، وبالتّالي الاستفادة من خدماتها الاقتصاديّة والاجتماعيّة على مستوى الدّولةوالمجتمع.
-إستخدام البلوك تشين في إدارة الأوقاف  
بعث ظهور «البلوك تشين»، شعاعًا من الأمل لإحياء مؤسّسات الأوقاف في العالم الحديث الرّقمي نظرًا لخاصيّة الشّفافيّة لدى نظامها، ولما تمتلكه من ميزات جذّابة متنوّعة مطلوبة بشكل طبيعي من قبل المؤسّسات الماليّة الإسلاميّة عموما ومؤسّسات التّمويل الإسلامي كالأوقاف بالخصوص.
لقد أثبتت «البلوك تشين»، على الرّغم من أنّها لا تزال في مهدها، أنّها ثورة في مجال التّمويل الاجتماعي الإسلامي، إذ أنّ بفضلها، يمكن تنشيط مؤسّسة الأوقاف، خاصّة بعد ما عاينّاه من تطابق بين الإشكالات التي تتصدّى لها هذه التّقنية وتلك التي تواجهها مؤسّسات الأوقاف أو فكرة الأوقاف ذاتها، ممّا يجعل معالجة عديد القضايا والتّصدي للمشكلات التي تواجه الأوقاف حاليًا، إن لم يكن جميعها مرتبط بدراسة «البلوك تشين» والاستفادة من ميزاتها سابقة الذّكر، إذ أنّ «البلوك تشين» تعزّز إدارة الأوقاف من خلال دعم الشّفافيّة وثقة المتبرّعين وحسن توزيع الأموال واقتفاء مخارجها واستخداماتها للتّأكد من إنفاقها في أهدافها المحدّدة.
فهذا التّحوّل الذّكي يفتح قنوات إلكترونيّة للتّبرّع، ممّا يعزّز قدرة المؤسّسات الخيريّة ومنها الأوقاف على مراقبة قنوات التّبرع ومسارها وسبل إنفاقها حتّى لا تكون وسيلة للاحتيال المالي الذي يسوّق له أشخاص يدعون إلى جمع تبرّعات بعيداً عن حسن الخلق والقانون. 
ورغم تعرض الكثير من مؤسّسات الأوقاف الى التّهميش والى الاندثار ،رغم ما يتضمّنه مفهوم الوقف من معاني الدّيمومة والنّمو، إذ أنّه «حبس للأصل وتسبيل للمنفعة أو الثّمرة»، فإنّه ومع تزايد الاهتمام العالمي دولا، وحكومات، وشركات، وأفرادا، بالجيل الجديد من تقنية «البلوك-تشين» يبرق الأمل من جديد لاحتضان الوقف والاستفادة من خدماتها خاصّة أمام عجز المنظومات والدول والتكتلات في معالجة قضايا الفقر والبطالة والصّحة والتّعليم وإيواء العجز.
الهوامش
(1)    «والذين إذا أنفقوا لم يُسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قُواما» الآية 67 سورة الفرقان – القرآن الكريم
(2)    L’automatisation