فواصل

بقلم
د.مصدق الجليدي
هل توجد شريعة خالصة في العلم الإلهي؟
 يميّز بعض روّاد ما يعرف بعلم الكلام الجديد بين شريعة إلهيّة خالصة وشريعة هي نتاج للعقل الفقهي. فهل يعني هذا التّمييز اختصاص اللّه عزّ وجلّ بمعرفة كنه تلك الشّريعة الخالصة؟
إنّ القول بوجود شريعة خالصة معلومة من اللّه حصرا وشريعة مشوبة بفهم الفقهاء، ليس له من قيمة معرفيّة إلاّ إضفاء النّسبيّة على فهم البشر للنّص الموحى به إلى الرّسل. أمّا الشّريعة الخالصة فلا وجود لها أصلا إلاّ كنصّ خام أو كفلسفة عامّة في التّشريع، وكروح للشّرع ومقاصد عليا له. 
وهذه الأخيرة لا «توجد في العلم الإلهي مطلقا»، لأنّها ليست هي الأخرى إلاّ ضربا من الميتافهم للشّريعة المذكورة في النّص. فهي ميتاشريعة بشريّة، ولا يمكن نسبتها للّه لأنّها هي الأخرى من صنع البشر، مثل المبحث الذي ظهر في علم أصول الفقه المسمّى بمقاصد الشّريعة الإسلاميّة، والذي حاول العلامة محمد الطّاهر بن عاشور تحويله إلى علم مستقلّ عابر للمذاهب. 
وفي كلمة، لا معنى ولا قيمة معرفية ولا عملية للقول بوجود شريعــة خالصــة مصونة بالعلـم الإلهي المطلق والمتفرّد. ومــا الحكمــة من وجود شريعة «حالة مثاليّة مجرّدة» وضعها اللّه للبشر ولكن لا يفهمها بالكامل إلاّ هو؟ هذا قـول ينسجم فقط مع فلسفة ماهويّة، لا مـع فلسفة وجوديّة.
اللّه هو الخلاّق العليم. توحيديّا، لا تنفصل قدرته على العلم عن قدرته على الخلق. فعلمه هو بموضوع يتخلّق باستمرار. يوجد دائما أصل كوني وتكويني للشّريعة، وهو الفطرة، بمعنييها، الفردية الجسمانيّة والنّفسيّة، والجماعيّة الاجتماعيّة العمرانيّة أو الأنتروبولوجيّة.
الصّورة الوحيدة الممكنة لعلم إلهي كامل بالشّريعة، هو علمه بتتابع صور الفهم الأفضل للنّصّ عبر الأمصار والأزمان، وهذا الفهم الأفضل معياره التّحقيق الأفضل لمصالح العباد، فهو مشدود للاجتماع البشري لا لحقائق ميتافيزيقيّة مفارقة. أي علم اللّه بما كان وبما هو كائن وبما سيكون. فتصبح الشّريعة الخالصة على عكس ما يدّعيه واضعو هذا المصطلح، ليست شريعة مفارقة، بل شريعة محايثة متنزّلة في العقول والتّاريخ. فهي نوع من الدّالة الاجتماعيّة التّاريخيّة التّشريعيّة fonction socio-historico-jurisprudentielle
ألخص وأستنتج فأقول: لا وجود لشريعة خالصة، سوى النّص. والنّص منطلق لإعمال الفهم، ومن هنا يأتي التّأويل والتّفسير والفقه وأصوله. وما عدا ذلك فهو محض اختلاق ميتافيزيقي، يذكّرنا بنظريّة المثل الأفلاطونيّة. 
ليس للّه ورشة يصنع فيها نماذج العالم الأمثل، ثمّ ينزّلها في عالم التّكوّن والتّفكّك، بل إنّ مبادئ التّكوّن والتفكّك والتّحوّل كلّها من علم اللّه الأزلي الذي يطّلع الإنسان على جزء يسير منه بالوحي، وبطرق المعرفة بأنواعها، على امتداد تاريخ تطور الوعي البشري المديد.
اللّه يصنع العالم ها هنا في العالم نفسه، وبقوانين هذا العالم. إنّه عالمه وليس عالما يعيره للبشر. 
أمّا عالم الغيب فليـس بالضّرورة خارجـا عن عالــم الخـلق: «وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ »(1)، من ملائكة وغيرها. 
أمّا عالم الأمر، فهو نظام المبادئ الأولى التي تتخلق العوالم بمقتضاها، بما في ذلك أرواحنا التي هي «بين جنباتنا» ولكنّنا لم نؤت عنها من العلم إلاّ قليلا. عالم الأمر هو العلم الإلهي بمبادئ الوجود والخلق جملة.
أخيرا أعود لنقد السّؤال المطروح أعلى هذا النّص: هل توجد شريعة خالصة في العلم الإلهي؟
هذا سؤال مستحيـل الإجابــة عليــه، لأنّ هذه الإجابــة تستوجب معرفـة مـا يوجـد في العلـم الإلهـي، وهو ما لا نعلمه بحكم أنّه من اختصاص العلم الإلهي. ولذا فهو سؤال باطل من أصله. ونحن لا نعلم من العلم الإلهي إلاّ ما يتجلّى لنا في عالم خلقه، وحيث أنّ هذا النوع من الشّريعة لا يتجلّى لنا لأنّه مفارق للزّمان والمكان، فمستحيل علينا معرفته ومستحيل علينا ادّعاء وجوده. 
وإذا مـا ذكرنـاه فهو محض بنـاء عقلي لنـا على وجـه التّصـوّر لصفـات الإلـه لا أكثـر ولا أقل. فما هو بإلهـي إذن. والله أعلـم بمـا يعلـم. فلا نعلـم عنـه إلاّ ما أخبرنا به وحيا لأنبيائه ورسله.
 
الهوامش
(1) سورة النحل - الآية 8