الأولى

بقلم
فيصل العش
الثّقافة ... أولويّة الأولويّات
 ما تعيشه أيقونة الثّورات العربيّة هذه الأيام لاينبئ بخير، ولا يبشّر بقرب نهاية الأزمة الخطيرة التي تعيشها، بل بتعقيدها وربّما الاتجاه بالبلاد نحو الفوضى. لا نتحدّث هنا عن جائحة الكورونا وما صاحبها من ارتفاع مخيف في عدد المتوفّين جرّاء الإصابة بها، وفشل المنظومة الصحّية في صدّ هذا الوباء والحدّ من انتشاره، فذلك ما عمّق الأزمة وزاد في استفحالها، وإنّما نتحدّث عن وضع اقتصادي خطير يتّجه نحو الانهيار، وربّما ينتهي بإفلاس البلاد، وعن وضع اجتماعي يزداد كلّ يوم تأزّما وتعقيدا نتيجة الارتفاع المتواصل لنسب الفقر والبطالة وتفكّك النّسيج الاجتماعي وتآكله، وعن السّبب الرّئيسي وراء كلّ ذلك، وهو الوضع السّياسي المتعفّن الذي إن استمرّ على هذه الحالة سيؤدّي حتما إلى نهاية الحلم الدّيمقراطي والعودة إلى نفق الاستبداد أو الفوضى، وفي كلتا الحالتين سنفتح دفترا جديدا لنخطّ به مأساة شعب قاد ذات يوم من سنة 2010 ثورة جبّارة أطاحت بأعتى الدّكتاتوريات العربيّة، لكنّ أمله خاب، وتبخّر حلمه في تحقيق شعارات انتفاضته وأهمّها شعار «شغل،حريّة،كرامة وطنيّة».
ثلاثة عوامل أساسيّة تقف حاجزا أمام انتهاء مأساتنا، وتعيق كلّ محاولات نهوضنا، وتدفعنا دفعا إلى مزيد من التخلّف والتّناحر والانقسام:
* العامل الخارجي بما له من وزن وتأثير من خلال النّشاط المخابراتي للقوى الدّوليّة المعادية للاستفاقة العربيّة، ودعمها لأطراف الردّة بالمال والعتاد والنّصيحة، فقد عملت هذه القوى طيلة العشرية الأخيرة على وأد التجربة الديمقراطيّة النّاشئة إمّا بإدخال البلاد في صراعات مسلّحة أو عبر مساعدة من يسعى إلى الانقلاب على اختيار الشّعب، أو بتخريب السّاحة السّياسيّة وربطها بالمال الفاسد، وفرض ديمقراطيّة مغشوشة لا تفضي لحكم عماده الشّعب. 
* العامل الثاني يتمثّل في نخب سياسيّة متشتّتة، جاهلة بمتطلّبات المرحلة، غير عارفة لامكانيات البلاد الحقيقيّة وقدرات شعبها، عاجزة عن تقديم بدائل وتصوّرات قادرة على زحزحة الواقع المزري الذي يعيشه أغلب التونسيّين، نخب سياسيّة ليس لها من هدف سوى القضاء على خصومها، فانهمكت في صراع المواقع، متمترسة وراء ايديولوجيّات تجاوزها الزّمن.
* أمّا العامل الثّالث - وهو الأهمّ - فيتمثّل في تجاهل المسألة الثّقافيّة وعدم اعتبارها أولويّة الأولويّات. ولقد حذّرنا مرارا وتكرارا - ومازلنا نفعل - من خطر هذا التّجاهل، ورفعنا شعار «الإصلاح الثّقافي أولا » لكن لا حياة لمن تنادي.
وإذا كانت أبواق السّياسيين أكثر عددا وأعلى صوتا من أبواق المثقّفين، وإذا كان «المثقّف المصلح» عُملة نادرة في هذه الأيام، وهو محاصر من كلّ جانب، فإنّ ذلك لن يثنينا عن مواصلة رفع شعار «الإصلاح الثقافي أوّلا » والعمل على تحقيقه على أرض الواقع. إصلاح يهدف إلى تغيير عميق في ثقافة الشّعب، يرفع من منسوب الأمل في النّهوض لديه، ويزيد من إيمانه بقدراته وحبّه للانعتاق والحرّية وطموحه اللاّمحدود في العيش بكرامة.
لم تشهد الثّقافة في تونس تصحّرا وتهميشا مثل ما شهدته مع بن علي وعصابته، فقد تمّ إقصاء المثقفين بمختلف مشاربهم الفكريّة وتمّ مقابل ذلك التّسويق لثقافة الإستحمار بالاستعانة بثلّة من أشباه المثقّفين الذين باعوا أنفسهم للسّلطان. وعمدوا إلى التّعليم، فأفرغوه من كلّ محتوى ومضمون، وحاربوا كلّ أشكال التّديّن والالتزام بالهوية العربيّة الإسلاميّة. وفي ظلّ هذا التّصحّر الثّقافي والمعرفي، انتشرت ثقافة الفساد والرّشوة والانتهازيّة وعدم المبالاة وحبّ المال وكره العمل وانتشرت الجريمة والرّذيلة وفساد الأخلاق. 
لم يتغيّر الوضع بعد الإطاحة ببن علي، إذ هرول الجميع إلى السّياسة وتركوا الثّقافة جانبا ولم يبال أحد بالمثقّفين ورجال التّعليم. فغدت السّاحة الوطنيّة مرتعا لقوى فكريّة سلفيّة متطرّفة بشقّيها الدّيني والعلماني المتغرّب، فاحتلت المشهد الثّقافي والفكري، وحوّلته إلى ميدان صراع وعراك بينها. إنّ الاستبداد ثقافة والدّيمقراطيّة والمواطنة ثقافة، فكيف يمكن أن نمرّ بسلام من ثقافة الاستبداد التي كبّلت العقول والأيدي إلى ثقافة المواطنة التي تحرّر التّونسي وتجعله سيّد نفسه وتدفعه نحو الإبداع من دون ثورة ثقافيّة؟. لهذا السّبب يعتبر غياب المشروع الثقافي عاملا أساسيّا في فشل الثّورة واستمرار المأساة.
إنّ من يعتقد أن إصلاح حال هذا الشّعب والنّهوض به لا يتمّ إلا عبر المسلك السّياسي الذي يؤدّي إلى المسك بزمام السّلطة، فليتبوأ مقعده ضمن الخاسرين الفاشلين. لقد جرّبت النّخب منذ عقود التّغيير انطلاقا من الأعلى واستهداف رأس السّلطة والتّعويل على قوّة الدّولة أكثر من الاهتمام بتطوير المجتمع وإصلاح ثقافته، فكانت النّتائج دكتاتوريّات شرسة وتبعيّة مقيتة لقوى الاستبداد العالمي.
الحلّ ليس في الفوز بكراسي الحكم أو اقتسامها، فما الفائدة من حكم بدون سلطة؟، وما قيمتك حين تكون ربّان السّفينة ومقودها بيد غيرك وليس بيدك، يرسم لك الطريق ويفرض عليك إتباعه؟. الحلّ يبدأ بمراجعة عميقة لمنهج التّغيير والعمل على تثوير ثقافة المجتمع ليحصل التّغيير من خلال النّاس. ولا يمكن أن يتحقّق ذلك في ظلّ انعدام الثّقة بين النّخبة والجماهير.
ولكي نبني هذه الثّقة، فإننا لسنا في حاجة إلى سياسيّين ومثقّفين يجيدون فنّ المناورة والخطابة ورفع الشّعارات الرنّانة، همّهم متابعة عورات خصومهم والصاق التهم بهم جزافا، بل إلى رجال يجمعون الثّقافة بالسّياسة، يعيشون ضمن النّاس، يقاسمونهم همومهم ويتبنّون مطالبهم، ويصدعون بالحقّ ولو على أنفسهم، ويعيدون الاعتبار لقيم العمل الطّوعي والتّضحية بمصالحهم من أجل الصّالح العام. إنّنا في حاجة إلى «مثقف مصلح » يحوّل من خلال أعماله وإبداعاته ونضالاته مجموعة الأفكار المنبثقة من معاناة المجتمع ومضامين الواقع إلى برامج ومشاريع واقعيّة بعيدا عن المخيال الإيديولوجي الذي يحكم جزءًا كبيرا من النّخبة الحاليّة.
ولأنّ الهيمنة الثّقافيّة هي المدخل الرّئيسي للهيمنة الاقتصاديّة والسّياسيّة، فإنّ المعركة الحقيقيّة مع قوى الهيمنة الخارجيّة وحلفائها في الدّاخل هي ثقافيّة بالأساس، وأنّ مدارها الصّراع على الأجهزة الثّقافيّة (مؤسّسات التّعليم، المساجد، المسرح، المهرجانات،الإعلام،...الخ) وليس صراعا على الجهاز السّياسي للدّولة، لأنّه عبر هذه الأجهزة فقط يمكن إصلاح ثقافة الجماهير، وتغيير ما بأنفسهم ليتحوّلوا إلى قوّة ضاربة وسند قويّ لطلائع التّغيير، وعندها فقط سيقطف الشّعب وهو واع ثمرات ثورته، ويحدث التّغيير المنشود عملا بقوله تعالى:«إنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ» صدق الله العظيم.
لكن تغيير الثّقافات ليس بالأمر الهيّن فهو عمل شاقّ يتطلب كثيرا من الجهد والصبر ‏والتّخطيط المحكم، ويشترط تكاتف جهود من في صدورهم ذرّة حبّ لهذا الوطن مهما كانت مشاربهم الفكريّة، من أجل خلق جوّ من التّفاهم بينهم ومن ثمّة الاتجاه إلى حوار رزين حول ماهية البدائل الثّقافيّة المرجوّة وكيفيّة تنزيلها في الواقع.
إنها معركة طويلة الأمد لا يقدر عليها إلاّ الصّابرون والمخلصون لأوطانهم...