مع الدكتور مصدق الجليدي

بقلم
فيصل العش
حوار الإصلاح
 (1) 
من هو مصدق الجليدي؟
مصدّق الجليدي شخصيّة مركّبة، وذلك بحكم الأدوار المختلفة التي لعبها ويلعبها في المجتمع جهويّا ووطنيّا. فهو ناشط مدني، وهو مثقّف عضوي، وهو أستاذ باحث أكاديمي وكاتب ومؤلّف في مجالات التّربية والثّقافة والفكر الحضاري والسّياسي. 
ففي المجال المدني، عرف بنشاطه في منتدى الجاحظ ثمّ في رابطة تونس للثّقافة والتّعدّد، وجمعيّة تطوير التّربية المدرسيّة، وأخيرا تأسيسه للائتلاف المدني لإصلاح المنظومة التّربوية. 
وعرف في جهة قابس بنشاطه الثّقافي وتبنيه لقضايا الجهة الثّقافيّة والجامعيّة والبيئيّة والتّنمويّة، وانخراطه في الحراك الاجتماعي بالجهة إلى جانب النّاشطين بها في الجمعيّات أو تحت مظلّة الاتحاد الجهوي للشّغل. 
وعرف على الصّعيد الوطني بتبنّيه لقضية الإصلاح التّربوي ودفاعه عن بديل تربوي وطني سيادي. كما عرف سياسيّا بانحيازه للخطّ الثّوري الوطني الدّيمقراطي الاجتماعي. 
أمّا أكاديميّا، فقد عرف وطنيّا وعربيّا وإسلاميّا باحثا وخبيرا تربويّا ومفكّرا مجدّدا للفكر الدّيني ومشاركا في منتديات وندوات الحوار بين الأديان. ووصلت كتاباته وكتبه عديد البلدان والجامعات العربيّة والإسلاميّة من بلدان المغرب العربي إلى ماليزيا، مرورا بالدّوحة والرّياض وبيروت وعمّان، وحتّى إلى بلدان أوروبيّة مثل إيطاليا وألمانيا. 
ناضل مصدّق الجليدي في الحقل المعرفي طوال أربعين سنة، وانتقل من مرحلة معلّم بالأرياف اضطره نظام الاستبداد إلى مغادرة مقاعد الدّراسة في مطلع الثّمانينات، إلى أستاذ محاضر بالجامعة التّونسيّة، بعد الحصول على شهادة الدّكتوراه، فشهادة التّأهيل الجامعي لتوجيه رسائل الدّكتوراه. 
باختصار مصدّق الجليدي يعتبر الحياة فسحة وعي وعمل لتأدية رسالة وتحمّل أمانة، ومن دون ذلك لا يبقى لحياة الإنسان من معنى.  
(2) 
بالإضافة إلى اهتمامك بالفكر والتربية، لديكم اهتمام بالسّياسة، ولديكم تجربة أو تجارب سياسيّة بعد الثّورة. حدثنا عن ذلك وعن الوضع السّياسي الحالي: كيف تقيّمه؟ وهل تأمل في نجاح التّجربة الدّيمقراطيّة في تونس؟ وكيف تقيم مشاركة الإسلاميّين في الحكم؟
فعلا أنا مهتم بالشّأن السّياسي. ومدخلي إلى ذلك بعد الثّورة كان في البداية الرّغبة في المشاركة في كتابة الدّستور والتّأسيس للجمهوريّة الثّانية، ولكن ذلك لم يتحقّق لي للأسف مع الحزب الصّغير الذي أسّسناه سنة 2011، وهو حزب الإصلاح والتّنمية. بعدها ركّزت اهتمامي على قضيّة الإصلاح التّربوي، وانتهيت إلى قناعة مفادها أنّه «يزع بالسّلطان ما لا يزع بالقرآن» وأنّه لا إصلاحَ تربويّا حقيقيّا دون توفّر إرادة سياسيّة. وقد وجدت مشروع هذه الإرادة متوفّرا لدى الرّئيس السّابق الدّكتور محمد منصف المرزوقي، فانضممت سنة 2017 لحزب الحراك الذي كان يترأسه، ولكنّ الشّعب لم يمنحه ثقته من أجل المشاركة في الحكم. 
الآن الوضع، لا أقول إنّه معروف لدى القاصي والدّاني، لأنّ الوضع لا ينعطي للوعي بصفة تلقائيّة، ولكن من خلال الزّاوية التي ننظر إليه منها. أنا شخصيّا أنظر إلى الوضع السّياسي الحالي من زاوية تكشف لي عن الخطر الذي يمثّله ثالوث الفاشيّة والشّعبويّة والتّفاهة. هنالك أزمة في منظومة الحكم اليوم. هنالك من يحمّلها بطم طميمها للثّورة عموما أو لحركة النّهضة بصفة خاصّة. طبعا القول بأنّ الثّورة فشلت في الحكم هذا كلام فارغ، لأنّ من حكم بنسبة 70 بالمائة هي الثّورة المضادّة. الثّورة حكمت إلى حدّ ما، ومع قلاقل لا تحصى ولا تعد ومع إرباكات كبرى، لمدّة لم تتجاوز ثلاث من عشر سنوات كما هو معلوم لدى الجميع. 
حركة النّهضة تتحمّل من دون شكّ وزرين: إهداء الثّورة للثّورة المضادّة في طبق من التّوافق المغشوش، والعجز عن المشاركة الفاعلة في الحكم بما يخفّف من الآثار السّلبيّة العميقة للأزمة الاجتماعيّة الخانقة التي تعاني منها البلاد. وليس هذا بسبب اختيارها المشاركة في الحكم من موقع نوع ما خلفي فقط، بل لأنّها تفتقد حقّا للبدائل النّاجعة بعد انكشاف زيف شعار «الإسلام هو الحلّ»، بحكم كونه شعارا طوباويّا فضفاضا لم يقدر الإسلاميّون على ترجمته إلى مشروع في الحكم الرّشيد والدّيمقراطيّة الاجتماعيّة.
الهاجس المتمكّن من الإسلاميّين في إثبات صلوحيّتهم للحكم بمعايير صندوق النّقد الدّولي والاتحاد الأوروبي والبيت الأبيض الأمريكي والحكومة البريطانيّة، هو ما زاد الطّين بلّة وجعلهم عاجزين تماما عن المشاركة الفاعلة في التّخفيف من معاناة الشّعب. 
(3) 
ولكن، هل من أمل؟ وما العمل؟ 
طبعا الأمل ما زال قائما. مرّة أخرى يتعلّق الأمر بطريقة النّظر وزاوية النّظر للموضوع. فبالرّغم من كلّ هذا الاضطراب الذي نشاهده وهذه المناكفات والتّهريج الذي نشهد عليه وهذه الصّعوبات الكبرى التي نقف عليها، إلاّ أنّ هنالك أشياء بصدد التّحقّق والتّرسخ بشكل نهائي. هنالك تحوّلات ذات روح ديمقراطيّة تجري في العمق. صخرة الاستبداد تصدّعت بوضوح، وهي بصدد التفتّت رغم كلّ عويل الفاشيّة وهرطقات الشّعبويّة. ما يعرقل التّقدم الدّيمقراطي بنسق قويّ هو الفساد. والإرهاب والفاشيّة وحتّى جانب في الشّعبويّة، كلّها أدوات في يد لوبيّات الفساد في الدّاخل والخارج. هذا هو عدوّنا الأكبر. لكنّ العدو الأعظم المتخفّي وراء الفساد هو العدوّ المستبطن في النّفوس، وهو الانحراف القيمي. لدينا أزمة قيم عميقة، وحلّها لا يكون بمجرد المواعظ والخطب المنبريّة، بل بالتّطبيق القويّ والصّارم للقانون. ثمّ يأتي البناء التّربوي القيمي الرّاسخ على مهل. وهذه قضيّة جدليّة في الواقع. الفساد يفسد السّياسة أي السّياسة كما نريدها وهي الدّيمقراطيّة، والسّياسة تمدّ في أنفاس الفساد وتغذّيه، لوجود مصالح متبادلة بين الفاسدين اقتصاديّا والفاسدين سياسيّا. الفساد المالي يدعّم الشّركات السّياسيّة التي تغزو البرلمان ومنظومة الحكم ككل، والفساد السّياسي يوفّر أسباب الإقامة المريحة للفساد المالي في أجهزة الدّولة والقطاع العام. وحليفهما معا هو الإعلام الفاسد الذي تشترى ذمّته هو الآخر بالمال الفاسد. 
ومع ذلك يوجد رجال ونساء غيورون على الوطن وعلى الدّولة التّونسيّة، في الإدارة وفي القضاء وفي المجتمع المدني وفي منظومة الحكم نفسها وحتّى في بعض الأجهزة الإعلاميّة، لن يتوقّفوا عن محاربة الفساد وفضحه ومحاصرته. ولكنّ هزمه بالكامل يتطلّب أكثر من هذا بكثير. والحليف الأكبر في المعركة ضدّ الفساد، والمستفيد الأكبر منها هو بطبيعة الحال الشّعب. ودور الشّعب هو في حسن اختيار من يمكّنه من دواليب الدّولة لإصلاحها من الدّاخل، وهذا ما ننتظره في الاستحقاقات الانتخابيّة القادمة، بعد أن جرّب الشّعب حلولا توهم نجاعتها ولكن ظهر زيفها، مع الشّعبويّة خاصّة. أمّا الفاشيّة فتلك ليست من شعب الثّورة والدّيمقراطيّة في شيء، وكذلك نظام التّفاهة والتتفيه. 
(4) 
 أي مستقبل للإسلام السّياسي في تونس وفي المنطقة العربيّة عموما؟
يمكن صوغ هذا العنوان في شكل سؤال: هل سنشهد انتهاء الإسلام السياسي؟ هات أولا نعرّف ما الإسلام السّياسي؟
الإسلام السّياسي هو اتجاه ديني اجتماعي ثقافي يتّخذ الإسلام مرجعيّة في مناهضته للأنظمة الحاكمة في العالم الإسلامي وفي تبشيره بالبديل عنها. أي يرى أنّ تطبيق الشّريعة هو الحلّ لكلّ مشاكل الدّولة والمجتمع. 
وقد ظهر هذا الشّكل الدّيني الثّقافي الاجتماعي السّياسي أوّل مرّة في أعقاب سقوط الخلافة الإسلاميّة العثمانيّة، وجاء كمحاولة لسدّ الفراغ الرّوحي والتّنظيمي الرّسمي الذي نتج عن ذلك السّقوط التّاريخي للخلافة، ولكن هذا لم يحدث مع كلّ حالات الإسلام السّياسي في البلاد العربيّة والإسلاميّة دفعة واحدة، وإنّما على تباعد زمني. فالحالة التّونسيّة مثلا جاءت بعد الحالة المصريّة بعدّة عقود. كما جاء الإسلام السّياسي رفضا للبدائل العلمانيّة عن أنظمة الحكم الموالية للأستانة، والتي وقعت في تقليد المستعمر وتبنّي إيديولوجيّته. 
فهي في الآن نفسه تعبير عن التّمسّك بالاستقلال الثّقافي، وعن رفض للموالاة للمستعمر اليهومسيحي والصّليبي. والإسلام السّياسي لا يخصّ المسلمين السنّة فقط، بل توجد حالات شيعيّة له، مثلما هو الحال في إيران وفي العراق (حزب الدّعوة). والإسلام السّياسي السّنّي يشتمل أساسا على الإخوان المسلمين (في مصر والسّودان وسوريا والأردن وفلسطين وتونس). ولكنّه لا يقتصر على المكون الإخواني فقط، فإسلاميو الباكستان مثلا ليسوا إخوانا. ولا يمكن القول أنّ إسلاميي المغرب إخوانا. وحتّى الحالة الجزائريّة لها خصوصيّتها رغم صلاتهم الوثيقة بإخوان تونس مثلا. ولكنّهم جميعا يشتركون في المنزع الهوياتي وفي القول بأنّ «الإسلام هو الحلّ». 
قبل قيام ثورات الرّبيع العربي كان للإسلام السّياسي حاضنة شعبيّة مهمّة سواء بالانتماء أو بالتّعاطف بدافع الوجدان الدّيني أو بدافع السّخط على اضطهاد الحكام لهم. وتدعّمت أكثر هذه الحاضنة في بداية صعود موجة الثّورات العربيّة الأخيرة. وتمكّنوا من تسلّم السّلطة في كلّ من تونس ومصر والمغرب. ولكنّهم أخفقوا إخفاقا ذريعا (باستثناء النّموذج المغربي خلال دورة نيابيّة أولى) في أمرين: 
- في تحمّل أعباء الحكم بمنطق رجال الدّولة وفي تحييد المتوجسّين منه خيفة والخاسرين لمواقعهم الزّبائنيّة في المنظومة القديمة، في الإدارة والإعلام والثّقافة الرّسميّة وشبه الرّسميّة وبعض الدّوائر الماليّة والاقتصاديّة. 
وانضاف إلى كلّ هذا عدم تقبّل الأنظمة العربيّة النّاجية من الثّورات لظهور ديمقراطيّات عربيّة حقيقيّة. مع دور لا يغيب عن أحد للصّهيونيّة العالميّة لتحجيم دور الإسلام السّياسي وضبطه في مربعات الولاء للغربيّين (الاتحاد الأوروبي، أمريكا، صندوق النّقد الدّولي، وبطريقة غير مباشرة للصّهيونيّة العالميّة). 
النّتائج الآن يعرفها الجميع. فهل يمكن القول بعد فشل النّموذج السّوداني ونموذج حزب الدّعوة العراقي، ومحدوديّة دور الإخوان في الأردن، والحملة الدّمويّة المسعورة على الإخوان في مصر، وتورّط الإخوان في حرب أهليّة مع النّظام البعثي في سوريا، وإخراج شقّ بن كيران من الحكم في المغرب، رغم نجاحاته التنموية والاجتماعية البارزة، وتنظيم اعتصام المصير في تونس وإخراج النّهضة وشركائها من الحكم، ثمّ اختيار قيادتها سياسة التّوافق المكلّفة اجتماعيّا وشعبيّا مع جانب من ورثة المنظومة القديمة، وانكشاف زيف وعود شعار «الإسلام هو الحلّ» كما طبق من طرف الإسلاميّين، هل يمكن القول بأنّ الإسلام السّياسي قد انتهى في المنطقة العربيّة؟ 
نذكّر بأنّ الإسلام السّياسي جاء إجابة على مسألتين: 
- مسألة الهويّة: الاستقلال الثّقافي والحرّيات الدّينيّة والعربيّة والقيم الأصيلة. 
- مسألة الحكم: الحكم بشرع اللّه. 
لقد ظهر أنّ مطلب الحكم بشرع اللّه بالطّريقة التّأويليّة التي تبنّاها الإسلام السّياسي مطلب ساذج وزائف. ولذا فإنّ الإسلام السّياسي قد تلقّى من هذه النّاحية ضربة موجعة جدّا إن لم تكن قاضية. لقد استنفد براديغم «الإسلام هو الحلّ» بتأويليته السّلفيّة والإخوانيّة أغراضه. 
- المسألة الهوياتيّة والثّقافيّة: هذه المسألة ما زالت قائمة ولها دائما حاضنتها الشّعبيّة والاجتماعيّة.
لقد انهزم الجانب السّياسي في الإسلام السّياسي ولكنّ الجانب الثّقافي لم ينهزم وقد لا ينهزم أبدا لأنّه أكثر تجذّرا في الوجدان المشترك. 
نأتي الآن إلى سؤال المستقبل: 
- المستقبل تستمر فيه ثوابت الماضي: عقيدة الشّعب ومرجعيته القيميّة رغم كلّ ما يطفو على السّطح من مظاهر مضلّلة. 
- والمستقبل يتطلّب التّجديد الدّيني وبناء حداثة سياسيّة إسلاميّة تستند إلى نموذج فلسفي حداثي أصيل، فتستوعب بعمق مفاهيم المواطنة والدّيمقراطيّة الاجتماعيّة والدّولة المدنيّة وحقوق الإنسان. 
وحتّى نلخص ونؤلّف، نقول إنّ المآل الطّبيعي والأمثل للإسلام السّياسي هو التّحوّل إلى تنظيمات مدنيّة وحزبيّة ذات روح معاصرة ومحافظة في الآن نفسه. المعاصرة في أشكال المساهمة المدنيّة في بناء الدّولة ومؤسّساتها وفي خدمة المجتمع، والمحافظة في الحفاظ على الثّوابت القيميّة مثل الأسرة والعفّة والأخلاق والالتزام الدّيني، وجعل كلّ ذلك في خدمة المجتمع والوطن. حزب النّهضة في تونس مرشّح إلى هذا المآل لكن شرط الانفتاح على روافد أكثر عقلانيّة في الطّيف الإسلامي الواسع. الإسلاميّون المغاربة بإمكانهم أيضا، الانطلاق من جديد، بعد إجراء عمليّة جراحيّة ضروريّة ونظيفة، ليقتربوا من النّموذج التّركي، ولكن مع ميزات وأنزيمات ثقافيّة أكثر حيويّة. 
على المدى المتوسّط، لا يمكن نفض اليد تماما حتّى من الحالة المصريّة، إذا تمّ التّخلّص من نظام الاستبداد. وفي الجزائر توجد نخبة محافظة ممتازة ليست كلّها منخرطة في الإسلام السّياسي، وبإمكانها في ضوء شروط معيّنة بناء حزب مع روافده المدنيّة يكون خلاصة جيّدة للوعي الوطني الأصيل والمتمدّن، انطلاقا من منابع إلهام مثل تراث مالك بن نبي، وبانفتاح فكري وثقافي على اجتهادات جادّة ورصينة في بقاع شتّى من العالم الإسلامي. 
يمكن لشباب إسلامي متعلّم ومتنوّر من مختلف الأقطار العربيّة الالتقاء بصيغ مختلفة لتقييم حصاد عقود من تجارب الإسلام السّياسي في المنطقة العربيّة وللتّأسيس لشروط معرفيّة ومؤسّسيّة لصيغ حضاريّة ومجتمعيّة جديدة لدور الإسلام في حياة المجتمعات العربيّة. 
(5) 
لنترك السّياسة ونتحدث عن الفكر ... كتبت كثيرا في إصلاح الفكر الدّيني.. لماذا؟
يوجد سوء فهم مضاعف للمسألة الدّينيّة: سوء فهم منهجي، وسوء فهم مضموني تأويلي. 
سوء الفهم المنهجي un malentendu méthodologique تعاني منه النّخب العلمانيّة في البلاد الإسلاميّة. فالعلمانيّون لدينا يخلطون بين الدّين والتّديّن. الدّين الحقّ المنزل من عند اللّه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه، والتّديّن الذي هو اجتهادات بشريّة محضة لتنزيل الدّين في السّياق الثّقافي- الاجتماعي، والذي هو مجرّد بنى ذهنيّة بشريّة متشكّلة من خلال عمليّات التّأويل والتّنزيل للدّين. العلمانيّون يريدون أن يرموا الرّضيع مع الماء الذي استحمّ فيه، كما يقول المثل. أي أنّهم يقومون بتدنيس المقدّس كَدَنَسِ ماء استحمام الرّضيع، ليسهل عليهم التّخلّص منه. يظنّون التّخلّف والانحطاط الحضاري في المجتمعات الإسلاميّة حاصلين بسبب الدّين. وفي المقابل هنالك سوء فهم من نوع آخر لدى عامّة المسلمين: إنّهم يعزون ضعف الأمّة الإسلاميّة وكلّ المشاكل التي تتخبّط فيها إلى ابتعادهم عن الدّين الحقّ. ولكنّ مفهوم الدّين الحقّ لديهم ليس حقّا هو المفهوم الحقيقي للدّين.  وإنّما هو الصّيغة التي كرّستها المدوّنة الرّسميّة المغلقة بعبارة محمد أركون. 
النّوعان من السّلفيّة: السّلفيّة العلمانيّة والسّلفيّة الدّينيّة لا يفرّقان بين الدّين والتّديّن. الأوائل يوحدان بينهما للحسم في الدّين. والثّواني يوحدان بينهما لجعل تديّنهم النّسبي والتّاريخي في مرتبة الدّين الحقّ المطلق.
الإصلاح الدّيني يأتي ليصحّح هذين الفهمين المغلوطين للدّين. وليقترح شكلا أرقى للتّدين. لأنّ تمثيل الدّين الحقّ أمر مستحيل تحقيقه. فهذا الدّين الحقّ المتعالي على الزّمان لا يمكنه أن يتزمّن. لا يمكن التّدين، أي تحقيق الدّين في النّفس والمجتمع، إلاّ بصيغ زمانيّة للدّين تعود إلى إله «كلّ يوم هو في شأن». فيكون الإصلاح الدّيني بناء لتأويليّة جديدة للدّين تجعله حليفا للعقل وللتّقدم ولكرامة الإنسان وسعادته وللسّلم العالمي. الإصلاح الدّيني يقف على نقيض من العلم المدنّس والجهل المقدّس معا. العلم المدنّس هو علم العلمانيّين الذين يتبنّون فلسفة وضعانيّة في العلم. فلسفة تعتبر الدّين وهما وخزعبلات. فهي فلسفة ذات وعي جحودي. أي ينكر وجود الغيب. وهي على نقيض من الوعي الشّهودي الذي يسلّم بأنّ «للعقل حدّا يقف عنده ولا يتعدّى طوره». أمّا الجهل المقدّس، فهو الجهل بروح الإسلام السّمحة ومقاصده العليا، جهل مغرور يوقع أصحابه في الجهالة لما يضفونه من قداسة على وعيهم الزّائف بالدّين وبالدّنيا معا.  
(6) 
تدعو في مقالاتك وكتبك لبناء الحداثة في السّياق الإسلامي؟ ماذا تقصد؟ وهل توجد تطبيقات لذلك...في المجال السّياسي مثلا؟
نعم، دعوت إلى ذلك وقمت بمحاولات لتحقيق هذا البناء، كما قدّمت نماذج تطبيقيّة عليه. وسأتحدث عن كلّ هذا قليلا. ولكن دعني أوّلا أتوقّف عند قولك لي متسائلا: «ماذا تقصد؟». ترى إذن أنّ إثارة موضوع «بناء الحداثة في السّياق الإسلامي» أمر غير مفهوم. ولكن ما الذي جعله غير مفهوم؟ ما جعله كذلك- في اعتقادي- أمران ضمنيّان ولكنّهما متقابلان، فيكون الباعث على السّؤال أحدهما فقط. أوّلهما أنّ الحداثة مفهوم كوني، ولذلك من المفترض أن تشمل كامل الجنس البشري في هذا العصر. وهذا أمر غير بديهي وسأشرح ذلك. وثانيهما أنّ الإسلام الذي نعتنقه دين عالمي وخالد وليس فيه طور حداثي وآخر ما قبل حداثي. 
أيّا كان الباعث الضّمني على السّؤال، فهو يكشف مرّة أخرى عن سوء فهم حاصل إمّا في وعي النّخبة أو في وعي الجمهور. النّخبة تذهب إلى كونيّة الحداثة وترى أن تخلف العالم الإسلامي عن الالتحاق بها مضيعة لوقت حضاري ثمين. والجمهور يرى أنّ الحداثة هي الجنّة المزعومة لمسيح الحداثة الدّجال، وأنّ جنّتنا هي في التزام ما سار عليه السّلف الصّالح غير مبدّلين ولا مغيّرين. 
وكلاّ الظّنين في نظري واهمٌ، إذ الحداثة حداثات وليست واحدة. فما يسوّقه الغرب اليهو-مسيحي على أنّه حداثة كونيّة كلّية ليس إلّا صيغة ملّيّة أو ضد-ملّيّة جزئيّة للحداثة. هذه الحداثة الكلّية المزعومة هي صيغة امبرياليّة للعقل لتنميط كلّ الجنس البشري لصالح فائض الإنتاج الرّأسمالي الغربي. ولذلك اقترح الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس بديلا عن مفهوم العقل الكوني المزعوم، وهو مفهوم العقل التّواصلي، عقل تفاوضي وتعارفي. وهو تقريبا عين ما قال به القرآن الكريم (شعوبا وقبائل لتعارفوا)، وفي التّعارف، تعرّف ومعرفة واعتراف متبادل. ولذلك نحتاج نحن أيضا إلى تقديم تصوّرنا عن الحداثة لشركائنا في هذا الكوكب. 
أمّا الوهم الثّاني الذي لا يعترف بالحداثة في الإسلام على اعتبار أنّ الإسلام واحد خالد لا تغيير فيه ولا تبديل، فإنّه ناتج عن ذلك الخلط الذي ذكرناه آنفا بين الدّين والتّديّن. فبناء الحداثة في السّياق الإسلامي ليس إحداثا في الدّين، بل هو تجديد لنمط التّديّن ومراجعة عميقة لتصوّراتنا عن الدّين والإنسان والعالم وموقع الإنسان فيه. هو إبداع صيغة جديدة لمفهوم الاستخلاف في الأرض، وتمكين للمسلم من القدرة على الفعاليّة الحضاريّة. 
في الغرب، تمّ الدّخول إلى الحداثة بإعلان موت الإله وميلاد الإنسان. وهذا الأمر يمكن فهمه في سياق التّحريف الذي لحق بالمسيحيّة والممارسات الغريبة واللاّأخلاقيّة والمعادية للعلم من طرف الكنيسة. لكنّنا لسنا مجبرين في العالم الإسلامي على اتباع نفس الطّريقة لبناء الحداثة وإعادة الاعتبار للإنسان وكرامته، لأنّ الإنسان بطبيعته مكرّم في القرآن الكريم الذي لم يلحقه التّحريف، ولأنّه يتمتّع بالوظيفة الاستخلافيّة التي تطلق يديه للفعل في العالم بحكم مبدإ التّسخير الإلهي. بقي أنّ الفهم المغلوط للدّين هو الذي يكبّل الإنسان لدينا. وأكبر غلط يقع فيه الوعي الدّيني المعاصر في العالم الإسلامي هو عدم تنبّهه لمفهوم «ختم النّبوّة»، وعدم إدراكه لأبعاده المعرفيّة والحضاريّة الكبرى. 
ختم النبوة بما هو علامة رفع للوصاية عن عقل الإنسان حتّى يحقّق في ذاته أقصى معاني الاستخلاف في الأرض، بعد أن رافقه الوحي في مراحل تطوّر الوعي لديه، من الطّفولة العقليّة حتّى مرحلة انفتاح آفاق النّضج العقلي، مع قدوم الرّسالة الخاتمة. وهو ما عناه الفيلسوف الهندي محمد إقبال بقوله: «إنّ النبوّة لتبلغ كمالها الأخير في إدراك الحاجة إلى إلغاء النبوّة نفسها، وهو أمر ينطوي على إدراكها العميق لاستحالة بقاء الوجود معتمدا إلى الأبد على مقود يقاد منه، وأنّ الإنسان، لكي يحصّل كمال معرفته لنفسه ينبغي أن يترك ليعتمد في النّهاية على وسائله هو» . وهكذا فإنّ منهج بناء الحداثة في السّياق الإسلامي ليس منهج إعلان موت الإله، بل منهج ختم النّبوة الدّافع بوظيفة الإنسان الاستخلافيّة في الأرض إلى أبعد مدى يمكن أن تصل إليه قدرات الإنسان المتحمّل للأمانة المتوكّل على اللّه. 
من التّطبيقات التي قمت بها لهذا المنهج في بناء الحداثة في العالم الإسلامي هو بناء الحداثة السّياسية لدينا. من ذلك بناء مفاهيم العلمانيّة والدّيمقراطيّة وحقوق الإنسان. يجب التّنبيه إلى أن العلمانيّة لا تعني الإلحاد أو معاداة الدّين. ولكنّها تعني نزع القداسة عن السّياسة. واعتبار الشّأن السّياسي وشؤون الحكم مسائل مدنيّة بحتة، وتخضع لمنطق العقود المدنية. العلمانيّة جاءت في أوروبا لتحلّ مشكل هيمنة الدّيني على السّياسي. ولكنّ المشكل الحاصل لدينا في العالم الإسلامي هو العكس تماما، وهو هيمنة السّياسي على الشّأن الدّيني (حامي الحمى والدّين).
النّسخة الفرنسيّة اليعقوبيّة للعلمانيّة هي حقيقة الصّيغة المتطرّفة للعلمانيّة. إنّها لم تكتف بإبعاد الدّيني عن السّياسي، بل أطلقت يد السّياسي لمضايقة الدّيني. بل استئصاله. هذه هي العلمانيّة المرفوضة. العلمانيّة الاستئصاليّة. لكن يمكننا في العالم الإسلامي اعتناق علمانيّة متصالحة مع الدّين، بل ميسّرة للمؤمنين ممارسة حقّهم في التّديّن وتعميق تجاربهم الرّوحيّة. علمانيّة مؤمنة. علمانيّة لا تسمح بالقول بأنّ الحاكم ظلّ اللّه في الأرض، ولكنّها تسمح بتمثّل قيم الدّين السّمحة وحضورها، لا في المجال الفردي فقط، بل في كلّ دوائر النّشاط الاجتماعي والسّياسي. ماذا يضير الدّيمقراطيّة أو الرّوح المدنيّة أن يكون الحاكم أو المسؤول يخشى اللّه في عمله، فلا يسرق أموال النّاس ولا يظلم أحدا، ولا يطغى في الأرض، ولا يشهد إلاّ بالحق؟ ! لن يكون هذا إذا حصل إلاّ دعما قويّا للحوكمة وللأخلاق المدنيّة.
(7) 
لنأت الآن إلى اختصاصك التّربوي: ما هي العوامل المتسبّبة في أزمة المدرسة حسب رأيك؟
هذه العوامل صنفان: صنف من درجة أوّليّة وصنف من درجة أرقى ابستمولوجيّا.
ضمن الصنف الأوّل يمكننا رصد العوامل الآتية:
1. ضعف تكوين أغلب المدرّسين العلمي والبيداغوجي (تخلّي مؤسّسات التّكوين عن وظائفها بالرّغم من وجودها). 
2. تراجع مكانة المربّي الاجتماعيّة والرّمزيّة، وهو ما حدا به إلى الالتجاء المبالغ فيه إلى الاسترزاق من الدّروس الخصوصيّة، وهو ما فاقم تراجع مكانته الأدبيّة رغم حلّ مشكلته المادّية جزئيّا.
3. ضعف الموارد الماليّة الموضوعة على ذمّة المنظومة التّربويّة: فبالنّظر إلى الرّهان الكبير المعقود على تربية الإنسان وتكوين المواطن الفعال في بلادنا، كما تروجه الشّعارات، على حساب التّحقيق الفعلي لها، تعتبر الإمكانات المادّية المرصودة للتّربية في تونس ضعيفة ولا تفي بالحاجة. 
4. تدهور حالة البنية التّحتية للمؤسّسات التّربويّة وافتقادها في الغالب الأعم إلى التّجهيزات اللاّزمة والسّليمة والمحينة من مخابر وأدوات مخبريّة وحواسيب ونوادي اختصاص وملاعب رياضيّة...الخ.
5. ثقل المناهج التّعليميّة وجمودها وعدم تجدّدها منذ سنوات طويلة (مثال دروس الإعلاميّة التي لم تُجدّد منذ حوالي عشرين سنة).
6. ضعف وظيفيّة التّوجيه المدرسي والجامعي بحكم تجاهله لميول المتعلّمين وعدم اعتبار حاجات المجتمع والمؤسّسات التّشغيليّة. 
7. تدخّل السّياسي الاعتباطي في البيداغوجي وعدم استقلاليّة المؤسّسة التّربويّة. 
لكن توجد كما أسلفت، أسباب أعمق لأزمة المدرسة التّونسيّة، وهي برأيي الأسباب الآتية:
1. عدم وجود سياسة وطنيّة سياديّة للإصلاح التّربوي وهو عائد إلى حالة التّبعيّة الاقتصاديّة التي تعيشها البلاد نظرا للصّعوبات الماليّة التي تعاني منها بسبب منوال التّنمية الكمبرادوري التّابع.
2. ضعف منظومة الحوكمة في المنظومة التّربويّة، وهو ما أدّى إلى استشراء الفساد فيها وهدر جانب كبير من إمكانيّاتها المادّية وسوء توظيف طاقاتها وكفاءاتها البشريّة.
3. وبصفة أعم وجود أزمة قيم: المحسوبيّة- الغشّ- العنف- الاستهتار والانحطاط الأخلاقي- تعاطي المخدرات...الخ.
4. المركزيّة المفرطة المطّبقة في المنظومة التّربويّة.
5. حصول قطيعة بين البحث العلمي في المجال التّربوي والتّنموي واختيارات المنظومة التّربويّة المؤسّسيّة والبيداغوجيّة والمنهاجيّة، وبصفة أعمّ الانقطاع الحاصل بين مختلف مكونات منظومة التّربية والتّكوين والبحث العلمي وبين مختلف مستويات التّعليم من المرحلة الماقبل مدرسيّة إلى نهاية التّعليم العالي.
6. عدم اعتماد هندسة الإصلاحات التّربويّة بما تتضمّنه من مداخل للإصلاح ومعايير لمختلف مكوناتها.
7. الفصل بين النّظري والتّطبيقي وبين وظيفة التّعليم ووظيفة التّكوين.
ولكنّ أخطر أسباب الأزمة التّربويّة، هي في نظري الأسباب الثّلاثة الآتية:
أ- عدم استقلال المنظومة التّربويّة عن الوصاية الخارجيّة.
ب- أزمة القيم وتغييب الأخلاق بالكامل من اختيارات الإصلاح سابقا وفي الوقت الحالي.
ج- عدم اعتماد منهج علمي يوظّف هندسة إصلاح النّظم التّربويّة في إعادة بناء المنظومة التّربويّة. 
وإذا طلب منّي تحديد السّبب الأكبر للأزمة التّربويّة، فسأقول إنّه افتقاد السّيادة الوطنيّة في مجالي التّنمية والتّربية. لنلاحظ مثلا كيف أنّ تونس تأتي مباشرة بعد فرنسا في ترتيب انضباط التّلاميذ المدرسي، أي في المرتبة الأخيرة، من بين 73 بلدا خضع للتّقييم. أي إنّ عدم اهتمام الفرنسيّين بالمسألة القيميّة الأخلاقيّة قد مرّ إلى التّونسيّين عبر الوصفات الجاهزة للنّموذج التّربوي المفضّل فرنسيّا. ولنلاحظ كيف أنّ المنهاج التّربوي العام المنجز من قبل لجنة من المتفقّدين قد خلا من أيّ مدخل تربوي من المداخل المعروفة في هندسة الإصلاحات التّربويّة، وذلك بإشراف المكتب الدّولي للدّراسات البيداغوجيّة التّابع لوزارة التّربية الفرنسيّة. فمسألتا القيم الأخلاقيّة والهندسة التّربويّة المفقودتان في خيارات الإصلاح التّربوي الرّسمي ضمن باب الفلسفة التّربويّة أو المبادئ العامّة وباب منهجيّة الإصلاح التّربوي، أي القيم والنّجاعة، هاتان المسألتان ترتبطان مباشرة بقضية السّيادة الوطنيّة وافتقاد التّونسيّين لاستقلاليّة قرارهم الوطني. 
(8) 
إذن ما هي الحلول التي تقترحها لتخطّي هذه الأزمة؟
لقد جربنا في الائتلاف المدني لإصلاح المنظومة التّربوية، الذي كنت وراء تأسيسه في ماي 2015، العمل على ما سمّيناه «تصحيح مسار الحوار الوطني حول إصلاح المنظومة التّربويّة»، على أساس وجود شركاء وحلفاء مفترضين في اتحاد الشّغل وفي الأحزاب وفي الكتل البرلمانيّة وفي المجتمع المدني وفي جمهور المربّين والأولياء، يمكن أن يساعدونا على إنجاز هذه المهمّة. وما توصّلنا إليه بعد عمل سنتين بصفة إجماليّة هو غياب الإرادة السّياسيّة لفكّ الارتهان مع منظومة الولاء للخارج واستمرار الخضوع لإملاءات القوى الأجنبيّة المتعارضة مع المصالح الوطنيّة، رغم الفرصة التّاريخيّة التي منحتها الثّورة للدّولة التّونسيّة لتخفيف قبضة الهيمنة الخارجيّة على رقبتها. أي أنّ أطروحة «باولو فريري» حول تربية المقهورين ما زالت تحافظ على كامل راهنيتها. 
غياب الإرادة السّياسية لإصلاح وطني سيادي ناتج عن عدّة عوامل خطيرة، من أبرزها تطبيق منوال تنمية يكرّس بالأساس خدمة مصالح الشّركات ورؤوس الأموال الأجنبيّة وضمان حصول الرّأسمال الدّاخلي التّابع (الكمبرادور) على نصيبه من الأرباح اللاّمشروعة من ثروات البلاد وفائض قيمة الجهد الوطني في العمل والإنتاج. 
ومن هنا نستنتج استحالة ضمان تحقيق إصلاح تربوي ذي توجّه سيادي وطني. وذلك لطبيعة السّيستام السّياسي-الاقتصادي المطبق فعليّا وحاليّا في مخالفة واضحة لبنود الدّستور التّونسي الناصّ على السّيادة الوطنيّة والدّيمقراطيّة التّشاركيّة والمحليّة وعلى الهويّة الوطنيّة العربيّة الإسلاميّة لتونس. وأبرز دليل على ذلك هو أنّ آخر محطّة انتهى إليها هذا الإصلاح «الرّسمي» هو تسليم مهمّة الإشراف على إعداد المناهج التّربويّة لبيت خبرة فرنسي يمثّل الواجهة الخارجيّة لوزارة التّربية والحكومة الفرنسيّة، وهو نفس بيت الخبرة وهم نفس الخبراء الذين أشرفوا على مناهجنا التّربوية زمن نظام بن علي. وأسباب غلبة هذا التّوجه التّابع للإصلاح التّربوي الحالي عديدة من بينها طبيعة النّخبة الحاكمة وتركيبتها ونوع توجهاتها واختياراتها السّياسيّة، فضلا عن حالة الهشاشة المفزعة التي عليها الاقتصاد الوطني (اللاّوطني) في الوقت الحاضر واستشراء الفساد على نطاق واسع في أجهزة الدّولة وفي المجتمع. ولا نعتقد أنّه بقدوم وزير التّربية الجديد سيحدث تغير جوهري في مقاربة الإصلاح التّربوي. أقصى ما يمكن انتظاره، مع تدعّم الاتفاقات مع البنك الدّولي والاتحاد الأوروبي والمساعدات الماليّة المشروطة، هو بعض التّرضيات الشّكليّة لبعض الأطراف الاجتماعيّة أو الحزبيّة المشاركة في الائتلاف الحاكم.
في ضوء هذا التّقييم لوضع الإصلاح التّربوي، لم يبق للفاعلين التّربويّين في المجتمع المدني والنّشطاء السّياسيّين في الأحزاب الوطنيّة ذات الخيار الدّيمقراطي الاجتماعي والسّيادي الوطني إلاّ التّوجّه نحو الخيار الثّاني ضمن معادلة سياسيّة-مدنيّة مقاومة للتّبعيّة وللاستجابة اللاّمشروطة للضّغوط والإملاءات الخارجية. 
يمكن القول إجمالا أنّه لا إصلاح وطني سيادي في إطار هذه التّبعية المقيتة واختلال التّوازن المجحف لصالح القوى الماليّة الخارجيّة. بهذا تصبح معركة التّنمية ومعركة التّربية معركة واحدة. 
وبناء عليه، يجب أن تتعاضد جهود خبراء التّنمية وخبراء التّربية الوطنيّين من أجل كسب هذه المعركة. كما يجب توفّر حاضنة شعبيّة اجتماعيّة منتشرة على كامل البلاد لمناصرة هذا التوجّه. وهذا ما يتطلّب نشر الوعي الاجتماعي والوعي المواطني السّيادي في صفوف الشّعب. وهنا يأتي دور المجتمع المدني ودور الأنشطة الثّقافيّة الهادفة، كما يجب ألاّ نغفل عن ضرورة انخراط أولياء التّلاميذ في هذا الحراك المواطني للوقوف إلى جانب مستقبل أبنائهم. وحريٌّ بالأحزاب الوطنيّة ذات التّوجّه الدّيمقراطي الاجتماعي والمنظمات الوطنيّة أن تتموقع في هذا الخندق الوطني المقاوم هي الأخرى. وهو ما قد يفضي في الأخير إلى بناء كتلة تاريخيّة واسعة النّطاق من أجل الانعتاق، قد تتّخذ مدنيّا شكل تحالف وطني عريض من أجل التّنمية والتّربية، وهو ما نأمله وما ندعو إليه. 
قبل أن أنهي، وحتّى أكون قريبا أكثر من الواقع العملي، أنبّه إلى وجوب التّفكير بطريقة متشعّبة divergente ولكنّها تعود في الأخير لتصب في هدف واحد فتكون سهمية convergente:
-  أولا: اعتماد طريق المقاومة الوطنيّة المدنيّة بنشر الوعي الاجتماعي والثّقافي الوطني المواطني لدى عموم الشّعب والضّغط على مراكز القرار والتّشريع لتوفير الحدّ الأدنى من شروط الاستقلال الممكّن من تحرّر القرار السّيادي الوطني.
- ثانيا: تصعيد البديل السّياسي الوطني وتكوين جبهة ديمقراطيّة اجتماعيّة واسعة (كتلة تاريخيّة تضمّ اليمين واليسار المعتدل إلى جانب القوى الوسطيّة والاجتماعيّة الضّاغطة).
- ثالثا: توفير بديل عن بيوت الخبرة الأجنبيّة في مجاليّ التّربية والتّنمية، وأذكر في ما يخصّ التّربية بما اقترحه الائتلاف المدني لإصلاح المنظومة التّربويّة وما أسفرت عنه مختلف الاستشارات الوطنيّة من ضرورة إحداث مجلس أعلى للتّربية والتّكوين والبحث العلمي يكون مستقلّا عن الوزارات ذات العلاقة، التي تكون رغم ذلك ممثّلة فيه في أعلى مستوى إلى جانب المنظّمات الوطنيّة والجمعيّات والشّبكات التّربويّة ومختلف أصناف الفاعلين التّربويين، تحت إشراف رئاسة الحكومة. تضمّ هيكلة هذا المجلس هيئة علمية هي بمثابة بيت خبرة وطني يضمّ خبراء وطنيّين في التّربية والتّنمية. كما يتفرّع عنه معهد وطني لتقييم المنظومة التّربوية.
- رابعا: توفير بديل عن التّمويل الأجنبي بإحداث مؤسّسة وطنيّة عامّة للتّمويل الطّوعي القار، أو ما يسمى بالوقف العام. أي الوقف الذي يتمّ الإشراف عليه من قبل الدّولة من خلال مؤسّسة وطنيّة مستقلة عن وزارة الماليّة وعن البنك المركزي وتحت إشراف رئاسة الحكومة. وتكون أوجه الصّرف متّجهة نحو التّعليم والتّكوين والبحث العلمي والصّحة والفلاحة.
- خامسا: قيادة الحكومة المنتخبة ديمقراطيّا مفاوضات مع الاتحاد الأوروبي ومع البنك الدّولي من أجل ضمان تبنّي منظومة التّربية والتّكوين والبحث العلمي الوطنيّة لأفضل الخيارات والنّماذج في هذا المجال، بحيث تقاد هذه المفاوضات بطريقة عقلانيّة وتشاركيّة بناءة، ولا تحرم بلادنا من الاستفادة من أنجح التّجارب التّربويّة والتّنمويّة في العالم.
(9) 
يرى العديدون أنّ عدم التحاقنا بركب الحضارة من جهة وانتشار الإرهاب بين ظهرانينا سببه التّعليم الدّيني؟ هل تشاطر هذا الراي؟ وكيف ترى عمليّة إصلاح التعليم الديني؟
صحيح، هنالك من وصل به أمر الإرهابوفوبيا إلى المطالبة بإلغاء التّربية الإسلاميّة من المناهج الدّراسيّة التّونسيةّ، ومن طالب بذلك هم من بين قيادة الإصلاح التّربوي زمن الوزير ناجي جلّول، التي بها حضور يساري فرنكفوني بارز. ممّا لا شكّ فيه أنّ المناداة بإلغاء التّربية الإسلاميّة أمر غير مقبول وذلك من وجهين: فهو أولا يستند إلى فهم مغلوط لظاهرة الإرهاب، وهو ثانيا أمر يتعارض مع الدّستور الجديد الذي يفرض على الدّولة أن ترسّخ النّاشئة في هويّتها العربيّة الإسلاميّة (الفصل 39). والبديل في رأيي عن هذا الطّرح المتطرّف والاستئصالي المشبوه هو اعتماد مقاربة تنويريّة في التّعليم الدّيني. 
لقد كشفت ظاهرة ما سمّي بثورات الرّبيع العربي عن ظواهر مكبوتة عدّة، من بينها البروز الكبير للظّاهرة الإسلامويّة السّلفيّة المتشدّدة. وللظّاهرة الأخيرة أسباب عديدة يندرج بعضها في إطار عولمي عام اتّسم ببروز تيارات «الجهل المقدّس»، حيث ينفصل الدّين عن الثّقافة ليكتسح العالم في شكل غزو عالمي متشنّج بل وعنيف في أحيان كثيرة. غير أنّ واحدا من هذه الأسباب يقع في مجال التّربية وبمعنيين متقابلين: نقص حادّ في التّربية الدّينيّة وإفراط فيها في الآن نفسه: نقص فادح في التّربية الدّينيّة المستندة إلى أسس علميّة محتوى وطريقة وأسلوبا، وإفراط في اعتماد صيغة نصّية حَرفيّة للدّين منتزعة من كلّ سياق ثقافي وتاريخي واجتماعي واقعي، وباعتماد أسلوب تبليغي تقريري وعظي يكاد يكون إجباريّا وإلزاميّا. لذلك على التّعليم الدّيني الجديد اليوم العمل على رفع ذاك الجهل المقدس وتوعية الشّباب بمقاصد الدّين السّمحة والنّبيلة، وحمايته من التّطرّف والانخراط في العنف في الآن نفسه. وإنّ إحدى أوضح السّبل لبلوغ هذه الغاية هي بناء التّعليم الدّيني على أسس بنائيّة علميّة متينة. 
المطلوب اليوم هو اعتماد التّنوير الدّيني في التّربية والتّعليم بدل سياسة تجفيف منابع التّديّن والرّوحانيّة التي أدّت إلى تصحّر في الثّقافة الدّينيّة وخواء في التّجربة الرّوحيّة، ما جعل الشّباب لقمة سائغة لمحتطبي الإرهاب. فمن مدرسة وجامعة إصلاحي 1991 و2002 تخرّج الآلاف من المتشدّدين دينيا ومن الإرهابيين. إنّ تعميق الثّقافة الدّينية والتّكوين العلمي الشّرعي على أسس تنويريّة ضمانة من ضمانات السّلم الرّوحي والأهلي وحصن متين من الحصون ضدّ التّطرّف والإرهاب. 
المطلوب في التّعليم الدّيني التّنويري هو ممارسة نقل تعليمي transposition didactique  مناسب، حيث إنّ عمليّة النّقل التّعليمي في مجال التّربية والتّفكير الإسلامي يجب أن تبدأ بإعادة تقييم المنزلة المعرفيّة للعلوم الإسلاميّة القديمة، وعدم استنساخها كما هي، وحشو عقول النّاشئة بها، كما لو أنّها حقائق مطلقة ونهائيّة ولم تتعرض لعمليّات إنتاج وإعادة إنتاج تاريخي ونقد معرفي على يد علماء الأمّة السّابقين أنفسهم، فضلا عن قابليتها للنّقد من اللاّحقين منهم في الوقت الحاضر. ومجال الفقه وأصوله والمقاصد وعلوم القرآن والحديث كلّها حظائر للعمل والفهم والاستيعاب والمراجعة والتّقييم والتّطوير والتّجديد والإصلاح على يد العلماء المختصّين المعاصرين، كما كان الحال مع الشّيخ الطّاهر ابن عاشور في المقاصد مثلا، ومحمد إقبال في الفلسفة الإسلاميّة وغيرهما من المفكّرين والعلماء المجدّدين. هذا كلّه عمل جبار يجب أن يسبق بناء المعرفة المدرسيّة في مجال التّعليم الدّيني. وليست السّاحة خلوا من اجتهادات محمودة في هذا الاتجاه، ولكن يجب على المختصّين في وضع المناهج التّعليميّة الانتباه إليها ورصدها وتخير الأنسب منها لابستيميّة العصر الحديث ولروحانيّة الأمّة التي هي روحانيّة توحيديّة استخلافيّة، في نفس الوقت، مع ضرورة مواصلة جهود التّجديد والإصلاح في الفكر الدّيني والعلوم الإسلاميّة. 
(10) 
 أثبتت أحداث العقد الأخير أنّ المثقف العربي أصبح عاجزا عن تأطير الناس وتقديم إجابات لمشاغلهم؟ هل يعني هذا أنّه هو الذي أصبح يحتاج إلى تنوير ونقد خطابه وإعادة تشكيل؟
نحيل  في حديثنا عن النّقد المعاصر للمثقّف في الفكر العربي إلى عملين: أوهام النّخبة أو نقد المثقّف للّبناني علي حرب، ونهاية الدّاعية: الممكن والممتنع في أدوار المثقّفين للمغربي عبد الإله بلقزيز. 
يقول علي حرب في نقده للمثقّف ولوهم من أوهامه: «ومعنى المعنى، هنا، أنّ المثقّف التّنويري والعقلاني والتّحرّري، ليس هو الذي يحيل الأفكار الخصبة التي أُنتجت حول التّنوير والعقل والحرّية إلى مجرّد معلومات يردّدها على شكل محفوظات، وإنّما هو الذي يقيم علاقة نقديّة مع ذاته وفكره، على نحو يتيح له أن يتحوّل عمّا هو عليه، بإغناء مفاهيمه عن الحرّية والعقلانيّة والاستنارة. ولذا فإنّ الذي يصنّف نف