الأولى

بقلم
فيصل العش
أمّ المعارك
 لم يعد خافيا على أحد صعوبة المرحلة الحاليّة التي تعيشها بلادنا تونس. ولم يعد خافيا أيضا أنّ شوكة الفساد مازالت كما عهدناها في العهد البائد وإن اختلف لبوسها، بل إنّ البعض يرى أنّها تقوّت وأصبحت أكثر صلابة، حيث تؤكّد المؤشّرات(1) والوقائع والملاحظات الميدانيّة أنّ الفساد انتشر كما ينتشر السّرطان في جسمٍ مريضٍ. ويُرجع بعض العارفين لخفايا الأمور تغلغله وانتشاره إلى تعامل حكومات ما بعد الثّورة مع ملفّه، حيث لم تتّسم مواقفها بالجرأة والحزم، ممّا ترك المجال فسيحا أمام المفسدين ليتدبّروا أمورهم ويعودوا إلى السّاحة أقوى من ذي قبل.
تفاقم الفساد في تونس بعد الثّورة، رغم أنّ الغضب على فساد الحاكم السّابق وحاشيته كان سببا رئيسيّا في تفجيرها. فكلّما تقدّمت بنا الأيام إلاّ وربح موقعا جديدا، حيث لم يترك بابا إلاّ ولجه، ولا ميدانا إلاّ اقتحمه، حتّى أصبح واقعا معيشا وأسلوبَ حياةٍ وثقافة، وحالة ذهنيّة لدى طوائف عديدة من النّاس باختلاف درجات وعيهم وموقعهم في المجتمع، فجميع القطاعات تقريبا قد أصابها هذا الدّاء واستفحل فيها إلى درجة اقتناع عدد كبير من المهتمّين بالشّأن الوطني باستحالة مقاومته والقضاء عليه، بل ذهب البعض إلى تبريره وتسويقه عبر شرعيّة غيَّرت من مفاهيمه أوعبر الإفتاء (ليس بالمفهوم الدّيني طبعا) بضرورة التّأقلم معه، وبالتّالي الانخراط فيه بطريقة ما.
(2)
لنتوقّف قليلا مع ما جاء في تقرير منظمة الشّفافيّة الدّوليّة الأخير، لنؤكّد بالأرقام ما ذهبنا إليه، فقد كشف هذا التّقرير أنّ تونس تحتلّ المرتبة 69 من مجموع 180 دولة، وأنّ مؤشّر مدركات الفساد(2) بقي يراوح مكانه منذ عدّة سنوات ولم يتعدّ عتبة المعدّل (50 نقطة) منذ أكثر من 20 سنة، وهو ما يعكس نقصا فادحا في مقومات الحوكمة والشّفافيّة في القطاع العام. 
وبالعودة إلى السّنوات الخوالي، قبل الثّورة وبعدها، نلاحظ أنّ مؤشّر الفساد بدأ يتّجه إلى الأسوء منذ سنة 2001 (السّنة الوحيدة في العشريتين الأخيرتين التي تجاوز فيها المؤشّر المعدّل) ليبلغ أدنى مستوياته سنة 2011، ثمّ ليتحسّن قليلا مع حكومتي التّرويكا، ثمّ ينحدر من جديد سنة 2015. وبعدها بدأ المؤشّر في التّحسّن ولكن بخطى السّلحفاة. أمّا على مستوى التّرتيب، فقد عرفت تونس تدحرجا كبيرا لتحتلّ المرتبة 79 سنة 2014 بعد أن كانت في المرتبة 31 سنة 2001. 
(3)
لقد استفاد الفسّاد والفاسدون من فترة الفراغ التي عاشتها الدّولة والصّراعات السّياسيّة التي أنهكتها، ليعيدوا تشكيل شبكاتهم بما يتماشى مع الواقع الجديد، مستعينين في تحقيق ذلك بما وفّرته لهم شبكات الفساد العالميّة من معونات لوجستيّة بالإضافة إلى الدّعم الخفيّ لقوى أجنبيّة كان ولا يزال من مصلحتها إنهاك الدّولة ومنع كلّ محاولة وطنيّة للخروج من الواقع المريض التي كانت عليه.
لقد ترك لنا النّظام القديم إرثا «ثقافيّا» في مجال الفساد لا مثيل له، تدعّم رغم إرساء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد ووضع استراتيجيّة وطنيّة للحوكمة الرّشيدة ومكافحة الفساد، ورغم ما يتّسم به خطاب أغلب السّياسيين من تركيز على مقاومة هذه الظّاهرة.
وقد تبيّن أن تركيز المؤسّسات المقاومة للفساد غير كاف لمحاصرة هذه الظّاهرة من مختلف جوانبها،  لأنّها ترتكز في نشاطها وقوانينها على تعريف للفساد محدود جدّا، بما أنّها حصرته في الجانب المادّي دون غيره (التّورّط في تجاوزات ماليّة، والتّصرف في المال العام بطريقة غير قانونيّة)(3).
صحيح أنّ الفساد في أحد أهمّ أبعاده ماليّ بالأساس، ومقاومته أمر مفروغ منه لما يلحقه من ضرر بالبلاد وثروتها وبميزانيّة الدّولة ومداخيلها، فتعجز عن القيام بمهامها والإيفاء بتعهداتها الدّاخليّة والخارجيّة، لكنّ الفساد ليس مالياً فقط، فهناك مظاهر أخرى له أكثر خطورة على الدّولة وعلى المجتمع عموما.  
من بين هذه المظاهر، إهدار الطّاقات وعدم الاستثمار في العقول المنتجة للعلم والفكر والإبداع، مع تجميد عدد لابأس به من الطّاقات المبدعة والكفاءات داخل أسوار المؤسّسات العموميّة، وهو ما نطلق عليه في تونس «الوضع في الثّلاجة».
ومن مظاهر الفساد الخطيرة التي من المفروض الاهتمام بها التّلاعب بالمنظومة التّربويّة للبلاد، بمعنى الارتجال في وضع البرامج الدّراسيّة ومحتوياتها، واختيار القائمين على تنفيذها وهو ما يعني الاستهتار بعقول أجيال كاملة من أبناء الوطن.
والفساد الثّقافي هو أحد مظاهر الفساد الهدّامة، فالسّعي إلى تغيير ثقافة المجتمع وتبديلها بثقافة مستوردة لا تتماشى مع هويّته بل معادية لها، هو فساد تشترك فيه مؤسّسات الدّولة والنّخب المعادية للهويّة. فأمّا فساد مؤسّسات الدّولة فيتمثّل في الدّعم المالي والإعلامي الذي تقدّمه لمشاريع بعينها من دون أن تتمتّع مشاريع أخرى بنفس الدّعم، وأمّا فساد النّخب التي تعمل على مشاريع فنّية وثقافيّة معاديّة لهويّة الشّعب، فيتمثّل في خلخلة التّوازن الاجتماعي وضرب القيم الأخلاقيّة التي تحكمه، وهذا لعمري فساد ما بعده فساد. 
ومن مظاهر الفساد الأخرى الفساد الدّيني، وهو أيضا فساد تساهم فيه مؤسّسات الدّولة من جهة وجماعات انحرفت بالدّين عن غايته الإصلاحيّة النّبيلة من جهة أخرى. فأمّا فساد مؤسّسات الدّولة فتتمثّل في هيمنتها على المساجد وتقديمها خطابا لا فائدة ترجى منه، لا علاقة له بهموم النّاس ومشاغلهم، الأمر الذي يدفعهم إلى البحث عن مضمون ديني آخر، فيكونون صيدا سهلا للجماعات الدّينيّة المتطرّفة التي يتمثّل فسادها في التّسويق لفكر بعيد عن جوهر الإسلام يدعو إلى الموت أكثر من دعوته للحياة إلى درجة تحويله إلى عنوان للإرهاب والدّمار.
ومن مظاهر الفساد الخفيّ، الذي لايقلق الجميع بالرّغم من خطورته ونتائجه المدمّرة إضاعة الوقت، أو ما يسمّى عندنا بـ «قتل الوقت»، فالوقت المخصّص للعمل لا يقارن بالوقت المخصّص لإضاعة الوقت، وكأنّنا في لحظة استرخاء حضاري، والحال أنّ المجتمع التونسي يعيش أسوأ لحظة تاريخيّة حضاريّة وفي أمسّ الحاجة إلى جميع مكوّناته للاستفادة من كلّ دقيقة في العمل والاجتهاد.
 (4)
إن تفكيك شبكة الفساد ومن ثمّ مقاومته يجب أن يكون من أولويّات جميع القوى وخاصّة من تفكّر في الحكم، لأنّ وجود الفساد يحدّ من قدرات الدّولة وهيبتها، ويعيق عمليّات الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي.
ولا يمكن تفكيك شبكاته إلاّ بوضع إستراتيجية واضحة ودقيقة بالاستعانة بتجارب الآخرين الذين يتصدّرون قائمة الدّول الأقل فسادا في العالم(4)، وبربط جسور الثّقة مع المواطنين عبر مصارحتهم بحقائق الأمور وعدم التستّر على الفاسدين أو العفو عنهم، لأنّ الذين تستّرت عليهم حكومات ما بعد الثّورة، أصبحت لديهم قوّة جبّارة وأموال طائلة، وباستطاعتهم شراء كلّ شيء بما في ذلك الأحزاب والإعلام والقضاء.
 علينا أن نعي أنّ المعركة مع الفساد ليست بالهينة وأن عملية إصلاح ما أفسده المخرّبون طيلة 50 سنة أو أكثر يتطلّب التّحلّي بالصّبر وكثير من التّعقّل والتّعاون بين الصّادقين المخلصين لهذا الوطن. لهذا تتطلّب المعركة إرادة سياسيّة وقضائيّة لتطبيق القوانين مع تطويرها في اتجاه تشديد العقوبات ضدّ الفاسدين وحماية المبلّغين عن الفساد، وتعزيز قوّة المؤسّسات الرّقابيّة بتمكينها من الموارد الكافية وضمان استقلاليّتها لتتمكّن من آداء واجبها على أحسن وجه. 
كما تتطلّب المعركة عملا قاعديّا عميقا في قطاعات عدّة كالتّربية والثّقافة والإعلام، يدعّم الديمقراطيّة و يعزّز الفضاء المدني لخلق الظّروف المناسبة لمساءلة الحكومات ويدعّم الثّقة بين الرّأي العام والمسؤولين، ويرسّخ ثقافة المواطنة التي تضمن احترام القوانين، وتخلق وعيا لدى المواطن بضرورة التّصدّي للفساد، وتقوّي حسّ المراقبة لدى التّونسيين جميعا. فلا يكفي أن يكون المرء خارج شبكة الفاسدين وإنّما المطلوب أن يقوم بالإبلاغ عن أي تجاوز أو فساد يحصل أمامه سواء في الشّارع أو المؤسّسة التي يعمل بها أو الجمعيّة التي ينتمي إليها، لأنّ ذلك سيضيّق الخناق على الفاسدين ويحدّ من سهولة تحرّكهم.
ويبقى التفاؤل ديدننا والأمل سلاحنا وشعارنا. صحيح أنّ ملف الفساد فى تونس ظلّ يراوح مكانه في أغلب الأحيان، وإذا تقدّم يتقدّم بخطى بطيئة متعثّرة ومبعثرة فى أحيان أخرى، لكنّنا نحمد اللّه على أنّ بلادنا ليست من الدّول العربيّة الخمس التي حلّت بين الدّول العشر الأكثر فسادا في العالم، وهي الصّومال وسوريا واليمن والسّودان وليبيا (5) وذلك حسب آخر تقرير لمنظمة الشّفافيّة الدّوليّة!!!
الهوامش
(1)   أنظر على سبيل المثال التقرير السّنوي لمنظمة الشفافية الدولية - https://www.transparency.org/cpi
(2) يستند مؤشّر مدركات الفساد إلى 13 استطلاعًا وتقييمًا للفساد أجراه خبراء لتحديد درجة انتشار الفساد في القطاع العام في 180 دولة وإقليمًا، عن طريق إسناد درجة تتراوح بين 0 (الأكثر فسادًا) و100 (الأكثر نزاهة).
(3) يحدد القانون التونسي الفساد من خلال التعريف المذكور في المادّة الثانية من المرسوم عدد 10 لسنة 2011 حيث  يُحدّد الفساد بأنّه «سوء استخدام السّلطة أو النّفوذ أو الوظيفة للحصول على منفعة شخصيّة» 
(4) احتلت زيلاندا الجديدة والدنمراك طليعة الترتيب بـ 88/100 نقطة تليها كلّ من فلندا وسويسرا وسنغفورة والسويد بـ 85 نقطة.
(5) احتلّت الصومال المرتبة قبل الأخيرة بـ 12 نقطة سبقتها سوريا في المرتبة 178 بـ 14 نقطة واليمن في المرتبة 176 بـ 15 نقطة والسودان في المرتبة 174 بـ 16 نقطة وليبيا في المرتبة 173 بـ 17 نقطة.