الأولى

بقلم
فيصل العش
الشّباب: ثروة مهدورة وطاقة مقهورة (2) الشّباب التّونسي من الحالة الاحتجاجيّة إلى حالة المواطنة الإيج
 (1)
استعرضنا في المقال السابق(1) الحاجيّات الأساسيّة التي يتطلّبها الإنسان خلال فترة شبابه، مهما كان انتماؤه الاجتماعي أو العرقي أو الدّيني، وبدونها لا يتحقّق بناء شخصيّة شاب متوازن يعتمد عليه كقوّة فاعلة في البناء والتّنمية ويكون ضامنا لاستمرارية المجتمع ومكانته الحضاريّة. وتساءلنا في خاتمة المقال عن حقيقة توفّر تلك الاحتياجات لدى شبابنا العربي عامّة والشّباب التّونسي خاصّة، وعن علاقة ذلك بالأزمة التي يعيشها هذا الشّباب وغضبه العارم الذي يعبّر عنه في كلّ المناسبات؟
سؤال سنحاول الإجابة عليه في هذا المقال بالاعتماد على المؤشّرات والأرقام المتوفّرة حول الشّباب ومدى تحقيق حاجياته، والبحث عن مكامن الخلل والضّعف التي حالت دون تحقيق ذلك.
يمثّل الشّباب الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و29 سنة 22.3 % من مجموع التّونسيين، وترتفع هذه النّسبة لتبلغ 30.1 % في حال اعتماد 35 سنة كحدّ أقصى لعمر الشّباب، أي أكثر من 3 ملايين ونصف من السكّان (2). وبالنّظر إلى وزنهم الدّيمغرافي، فإنّهم يشكّلون تحدّيا كبيرا للبلاد ونقطة قوّة لها في آن واحد. ففي حال اندماجهم بشكل جيّد في المشروع التّنموي، فإنّهم يصبحون محرّكا كبيرا للنّمو الاقتصادي من خلال مساهمتهم في الدّورة الاقتصاديّة والابتكار وتحسين الإنتاجيّة. ولكن في حال غياب هذا الاندماج الاجتماعي والاقتصادي، فإن هذه الفئة من المجتمع تتحوّل نتيجة حجمها الديمغرافي الهامّ إلى عبء من شأنه أن يحدّ من الديناميكيّة الاقتصاديّة ويؤثّر سلبا على التّماسك الاجتماعي واستقرار المجتمع. وهذا ما نراه ماثلا أمامنا بعد عشر سنوات كاملة من الثّورة.
(2)
بالرّغم من تخصيص الفصل الثّامن من الدّستور للشّباب الذي ينصّ على أنّ «الشّباب قوّة فاعلة في بناء الوطن. تحرص الدّولة على توفير الظّروف الكفيلة بتنمية قدرات الشّباب وتفعيل طاقاته وتعمل على تحميله المسؤوليّة، وعلى توسيع إسهامه في التّنمية الاجتماعيّة والاقتصاديّة والثّقافيّة والسّياسيّة»(3). بالرّغم من ذلك فإنّ الشّباب التّونسي يعيش حالة من الإحباط نتيجة تهميشه وحرمانه من الحاجيّات الضّروريّة التي تحدثنا عنها في العدد الفارط . 
والمتأمّل بعد عشر سنوات من ثورة 2011، التي كان محرّكها الأساسي تطلّعات الشّباب، يلاحظ جليّا أنّ التّحدّيات التي أدّت إلى تعبئة هذه الفئة للقيام بهذه الثّورة لا زالت قائمة بل ازدادت حدّة على الرّغم من الجهود المبذولة، وأنّ تطلعات الشّباب، الذي أطلق شرارة التّغييرات التي اجتاحت المنطقة العربيّة، لم تتم تلبيتها بعد. إذ لا يزال الشّباب يشعر بأنّه ضحيّة تهميش متعدّد الأشكال، تغذّيه الفوارق الجهويّة، وعدم المساواة بين الجنسين، وصعوبات الحصول على العمل. ففرص العمل محدودة، وعدد الشّباب المتخرّج من الجامعات والعاطل يرتفع باستمرار ويعدّ بمائات الآلاف، حيث تبيّن الأرقام أنّ نسبة البطالة بلغت  16.2 % خلال الثّلاثي الثّالث من سنة 2020. ويمثّل حاملو الشّهادات العليا ثلث العاطلين في تونس والبالغ عددهم أكثر من 700 ألف عاطل بحسب آخر الإحصائيّات الحكوميّة(4). وبسبب آثار جائحة كورونا يُتوقع ارتفاع نسبة البطالة إلى أكثر من 20 %. ومقابل ذلك فأنّ عددا كبيرا من الشّباب يعملون في ظروف مهنيّة غير مستقرّة، مع آفاق محدودة للتّنمية الشّخصيّة والتّطوّر في السلّم الوظيفي.
وأوضحت دراسة للمعهد التّونسي للقدرة التّنافسيّة والدّراسات الكميّة أن إثنين من بين خمسة من أصحاب الشّهائد العلميّة العليا يشغلون وظائف تقلّ عن مستوى تعليمهم. وكلّما زاد مستوى التّعليم زاد معدّل البطالة حيث أنّ «الاقتصاد التّونسي يتّجه نحو خلق وظائف غير ماهرة» (5)
وبالإضافة إلى ذلك، فإنّ مشاركة الشّباب في الشّأن العام ضعيفة جدّا سواء في عالم الجمعيّات أو عالم السياسة. ففي حين كان لهذه الفئة دور حاسم في ثورة 2011،  فإنّ مشاركتها في العمليّة الانتقاليّة الحاليّة هزيلة، حيث تبيّن الأرقام بأنّ  6 % فقط من الشّباب صوّتوا في الانتخابات الرّئاسيّة والبرلمانيّة، وأنّ 11.6 % من الفئة العمرية 18-25 سنة فقط شاركت في الدّور الثّاني من الانتخابات الرّئاسيّة(6). كما تبيّن الأرقام أنّ 3 % فقط من الشّباب ينشط في الجمعيّات وأنّ 1 % من الشّباب هم أعضاء في حزب سياسي(7) 
ووفقا للإحصائيّات، فإنّ هناك ما يقارب 405 جمعيّة شبابيّة من بين  23676 جمعية سنة 2020، أي أكثر بقليل من 2 % من العدد الجملي للجمعيّات، جلّها جمعيّات ثقافيّة ورياضيّة.
ونتيجة لغيابه عن الممارسة السّياسيّة والانتخابيّة، فإنّ الشّباب  لا يجد انسجاما مع الحكومات والمؤسّسات السياسيّة المنبثقة عن الانتخابات، ويجد نفسه أمام سياسات عامّة لم يشارك في اختيارها ولم يقل فيها كلمته. لهذا السّبب ارتفعت نسبة عدم ثقته في مؤسّسات الدّولة التي تشير الاحصائيّات أنّها بلغت 60 %، وهذا مؤشّر خطير يؤكّد فشل المنظومة الحاليّة في تحقيق اندماج هذه الفئة من المجتمع وتأطيرها.
 (3)
تشير كلّ الأرقام إذن إلى أنّ الشّباب التونسي يعيش  حالة من التّهميش والقطيعة مع مؤسّسات الدّولة، وأصبح بعيدا كلّ البعد عن مسالك التّأطير وغير مندمج في كلّ المجالات. ويعود ذلك في جزء كبير منه إلى أنّ الأدوات الرّسميّة ومناهج التّعليم والتّربية من جهة وأدوات التّأطير والتّثقيف غير الرّسميّة كالجمعيّات والأحزاب من جهة أخرى، ليست كفيلة بذلك ولا تمتلك القدرة على التطوّر والبحث عن بدائل  لإستقطاب الشّباب وتأطيره وجعله فاعلا إيجابيّا أساسيّا في تغيير المجتمع ونهضته. وإذا أضفنا إلى ذلك تقلّص التّأطير الأسري لهذه الفئة وتحنّط الخطاب الدّيني الذي لا يخرج خطابه التوجيهي عن دائرة الحلال والحرام ولا يتجاوب بالمرّة مع مشاغل الشّباب واهتماماته المتنوعة، نفهم جيّدا سبب الارتفاع المتزايد لنشاط الشّباب خارج نطاق المؤسّسات الرّسميّة والتّصادم معها في أكثر من مناسبة، ونفهم أيضا سبب التجاء فئة من الشّباب إلى الهجرة السريّة رغم مخاطرها، وتجاوب فئة أخرى مع إغراءات خطاب التّطرف والعنف والإرهاب، كما نفهم سبب توجّه فئة ثالثة (ربّما هي الأكبر حجما وعددا) إلى وسائل أخرى لتصنع شخصيتها بعيدا عن الأضواء، وحين تخرج إلى النّور يتفاجأ المجتمع من أفعالها وأفكارها. من هذه الوسائل الخمر والمخدّرات وكذلك الانغماس التّام في العالم الافتراضي لتلبية الحاجيات المفقودة والبحث عن أجوبة للأسئلة  الوجوديّة التي يطرحها الشباب (8) . 
ويكفي أن نذكّر بالأحداث التي شهدتها البلاد مؤخّرا والمتمثّلة في الاحتجاجات الشّبابيّة اللّيليّة والمواجهات التي حصلت مع قوات الأمن في أكثر من مدينة وجهة، فقد شارك فيها قُصّر، تتراوح أعمارهم بين 14 سنة و18 سنة، بينهم عدد من التّلاميذ. ووجود هؤلاء الشّبان في الشّوارع للاحتجاج، ومواجهة قوّات الأمن، يطرح أكثر من تساؤل حول دور مؤسّسات التّأطير الرّسميّة كالأسرة والمدرسة ودور الثّقافة والمساجد، في تأطير هذه الفئة، وحمايتها من السّلوكات المنحرفة التي تتربص بها في الشّوارع.
 (4)
إنّ خروج المجتمع التّونسي من أزمته المستفحلة ونجاح تجربته الدّيمقراطيّة النّاشئة يمرّ حتما عبر بوّابة ملف الشّباب، لكنّ فتح تلك البّوابة يجب أن لا يكون بشكل كلاسيكي كما جرت العادة (9)، وإنّما بطريقة جديدة يكون الشّباب طرفا أساسيّا في ابتكارها، ويكون من بين أهدافها انتقال الشّباب التّونسي من الحالة الاحتجاجيّة إلى حالة المواطنة الإيجابيّة، ومن الفعل الافتراضي إلى الفعل في الواقع المعيش. 
تنطلق عمليّة فتح بوّابة ملف الشّباب بطرح الأسئلة التّالية والإجابة عليها من خلال حوار مفتوح لا يقصي أحدا، يجمع مختلف فئات الشّباب من دون تمييز ولاانتقاء مع ممثّلي المؤسّسات الرّسميّة، وبإشراك المجتمع المدني على نحو أوسع، والأحزاب السّياسية والقطاع الخاصّ:
 لماذا يظلّ الشّباب نَشطا خارج الأطر المؤسّسيّة الرّسميّة وليس داخلها؟ ما هي القنوات المطلوب توفيرها لزيادة ثقة الشّباب في المؤسّسات وسماع صوتهم في عمليّة اتخاذ القرار؟ ما أسباب عزوف الشّباب عن السّياسة؟ وإذا كانت نسبة مشاركة الشّباب في الانتخابات ضئيلة، فأيّة مكانة يحتلّها الاقتراع بين أشكال التّعبير السّياسي وممارسة الدّيمقراطيّة؟ أيّة هويّة وأيّة قيم نبني بها شخصيتنا؟ لماذا يشكّل الشّباب النّسبة الكبيرة بين صفوف غير النّاشطين والعاطلين أو من يعملون في القطاع غير الرّسمي من الاقتصاد؟ ما هي أشكال الإقصاء الاقتصادي والاجتماعي والسّياسي التي يعاني منها الشّباب؟ ما مدى فاعليّة السّياسة العامّة في التّصدي للحواجز الأكثر إعاقةً أمام مشاركة الشّباب؟ 
ويمكن عمليّا تبويب الحوار إلى المحاور التّالية:
* الشّباب والتّنمية (مجالات الصّحة والتّعليم والتّشغيل)
* الشّباب والهويّة وسلّم القيم (العلاقة بالآخر والانتماء الحضاري والثّقافي)
* الشّباب والمشاركة في الحياة السّياسيّة والجمعياتيّة والثّقافيّة والتّرفيهيّة والمجتمع المدني بصفة عامة.
* الشّباب ومجتمع المعلومات (علاقة الشّباب بالانترنات والاعلاميّة ووسائل الاتصال الأخرى وموقفه من مضامين وسائل الاتصال الحديثة وكيفية توظيفها). 
لكنّ فتح باب الحوار مع الشّباب قد يؤدّي إلى نتائج عكسيّة إذا لم تقم مؤسّسات الدّولة قبل ذلك أو بالتوازي معه بتهيئة المناخ العامّ لذلك عبر : 
* اتخاذ تدابير عاجلة لطمأنة الشّباب وإعادة الأمل له، من بينها خلق مواطن الشّغل وتشجيع الشّباب على بعث المشاريع وفتح مراكز للتّكوين حسب متطلّبات السّوق الدّاخليّة والخارجيّة.
* الانطلاق الفعلي في خطّة إصلاح التّعليم من حيث البرامج والمناهج واعتماد التّكنولوجيّات الحديثة التي يُحسن الشّباب التّعامل معها.
* الالتفات بجدّية إلى الملف الثّقافي ووضع خطّة واضحة المعالم للنّهوض بالعمل الثّقافي يكون للشّباب الحظّ الأوفر فيها.
إنّ بتوفير الحاجيّات الأساسيّة للشّباب وفتح المجال أمامه للمشاركة في اتخاذ القرارات، وللتّعبير الحرّ عن أفكاره ورؤيته للحياة وطموحاته، ومساعدته على تخطّى الصّعاب، تتسنّى تعبئة هذه الفئة بصفتها محرّك رئيسي في المجتمع والاستفادة منها في خلق الاستقرار وتحقيق النّمو الاقتصادي في البلاد.  أمّا عدا ذلك، فلن يكون الشّباب سوى قنبلة موقوتة قد تنفجر في أية لحظة لتأتي على الأخضر واليابس.
الهوامش
(1) أنظر العدد 163 من مجلّة الإصلاح، «الشّباب العربي... ثروة مهدورة وطاقة مقهورة (1) الشّباب وحاجياته.
(2) موقع:  https://www.populationpyramid.net/tunisia/2020
(3) الدستور التونسي 2014 - الفصل الثامن
(4) موقع المعهد الوطني للإحصاء - إحصائيّات تونس  http://www.ins.tn
(5) المعهد التّونسي للقدرة التّنافسيّة والدّراسات الكميّة:  http://www.mdici.gov.tn
(6) أنظر إحصائيّات الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات الواردة على موقعها الرّسمي. 
(7) المصدر: المعهد الوطني للإحصاء والبرلمان التّونسي.
(8) يمتلك أكثر من 9 من بين كلّ 10 شباب تونسيين هاتفا محمولا.
(9) يتمثّل الشّكل الكلاسيكي المعتمد قبل الثورة وبعدها عادة في الاعلان عن استشارة وطنيّة للشّباب وتنظيم بعض الاجتماعات في الجهات تحت إشراف ممثلين عن الدّولة الذين يكونون عادة من الكهول وتوزيع استبيانات لسبر آراء الشّباب على عيّنة لا تمثّل غالبية الشّباب، ثمّ تقديم الوعود والسّلام.