الأولى

بقلم
فيصل العش
إقصاء وصراع ...أم تنوّع و إثراء
 (1)
«التّنوع والتّعدّد والاختلاف» آية من آيات اللّه وسنّة من سننه، وهي قانون خلق عليه الكون وما فيه. والقانون لا تبديل فيه ولا تحويل. يقول اللّه سبحانه وتعالى :﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ ﴾(1)ويقول في آية أخرى:﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا * وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَٰلِكَ* إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادهِ الْعُلَمَاءُ * إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ﴾(2). فالتّنوع مظهر من مظاهر الكون والطّبيعة، شمل كلّ المخلوقات، جمادا، ونباتا، وحيوانا، وبشرا، وهي حقيقة واضحة أمام أعيننا ومتجسّدة فينا. وقد بدأ الناس يختلفون ويتنوّعون منذ بداية استخلافهم في الأرض، ليتحوّلوا إلى  شعوب وقبائل متنوعة على مستوى اللّون والعرق واللّسان والمعتقدات والعادات والطّباع ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُــمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾(3)، ولا يزال النّاس متنوّعين ومختلفين تطبيقاً لقوله سبحانه وتعالى ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ (4) . 
إنّ انقسام الإنسانيّة إلى مجتمعات مختلفة، وانقسام المجتمعات ذاتها إلى مجموعات عرقيّة ودينيّة ولغويّة وثقافيّة وسياسيّة متنوّعة هو الوضع الطّبيعي للمجتمعات الإنسانيّة، وظاهرة أصيلة في تكوينها. فمن الطّبيعي أن يتباين النّاس في رؤاهم الثّقافيّة والفكريّة والسّلوكيّة نتيجة اختلاف ظروف عيشهم، وبيئتهم، وتعدّد مداركهم، وتباين عقليّاتهم ومعارفهم التي يكتسبونها من خلال تجاربهم وتفاعلهم مع الزمان والمكان الذي يعيشون فيه.
والاختلاف والتّنوع والتّعدّد في الفكر والثّقافة، هي الدّافع الأساسي للتّنافس والتّدافع والاستباق بين بني آدم ﴿ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ(5). ففي انعدام التّعدّديّة والتّنوع، تغيب دواعي التّدافع وحوافز التّنافس بين الأفراد والأمم، وبين الأفكار والفلسفات والحضارات، فلا تتحقّق عمارة الأرض، ولا يرتقي وعي الإنسان أو يتقدّم الأمر الذي يعيق تجسيد  خلافته في الأرض.
(2)
هي إذن سنّة اللّه في خلقه، خلقنا متنوّعين ومختلفين، وجعلنا شعوبا ودولا لنتعارف، ونتبادل المعارف، والتّجارب والمكتسبات، لا لنتقاتل ونسفك الدّماء. إنّ الذين يعتقدون أنّ المجتمعات الإنسانيّة يجب أن تكون على نمط واحد، ويرون أنّ الحالة الطّبيعيّة للمجتمعات السّويّة هي أن تكون على ثقافة واحدة، وفكر واحد، ودين واحد، بل وفهم واحد للدّين، هم مخطئون. والذين يجعلون من مدلولات التّنوع والاختلاف سببا للعصبيّة، ومسلكا للصّراع والتّناحر وحجّة لإقامة حدود وموانع تفصلهم عن غيرهم من الشعوب، هم منحروفون عن الصّراط المستقيم، لأنّهم يريدون أن يغيروا سنّة من سنن اللّه. 
 ولعل جولة صغيرة عبر تاريخ الإنسانيّة تؤكّد ما سبق ذكره. فالدّول أو الحضارات التي قامت على أنقاض حضارات أخرى، سرعان ما لاقت نفس المصير وتفتّت عقدها واندثرت، ولم يبق منها إلاّ بعض من الحجارة والمباني والآثار. وفي مقابل ذلك، يبرز لنا التاريخ كيف شيّد المسلمون الأوائل حضارتهم على أساس وحدة قائمة على التّنوع، واستيعاب التّعدديّة الدّينيّة والثّقافيّة للمنتسبين إلى الدّولة الإسلاميّة. كما يبرز لنا أنّ فترات الازدهار الاقتصادي والعلمي والاستقرار الاجتماعي لهذه الحضارة، ارتبطت بسيادة «التّنوع» في الأفكار والآراء وقبول الآخر. ويكفي أن يتنقل المرء في مختلف المجتمعات والأقطار التي وحَّدها الإسلام، حتى يلمس أن التنوّع الدّيني والعِرقي والثّقافي، مزروع بعُمق في المجتمعات الإسلاميّة من الشّرق الأدنى إلى المغرب. وعندما هيمن الاستبداد وما صاحبه من هيمنة للفكر الواحد وللزعيم الواحد، وسيطرت ثقافة رفض الآخر والتّضييق عليه، سواء كان هذا الآخر مختلفا دينيّاً أم سياسيّا أم مذهبيّاً، حصلت الانتكاسة وانهارت حضارة المسلمين. 
ولنا في تاريخ أوروبا دليل آخر، فقد خلّف الصّراع بين مكوّناتها تخلّفا وتشتّتا وصل إلى حدّ التّناحر وزهق ملايين الأرواح، حتّى اقتنع الأوروبيّون بأنّ الازدهار والتّقدّم لا يكونان إلاّ عبر التّعاون والقبول بالتّنوع، وأنّ بقاء أوروبا في موقعها الحضاري المتقدّم يتطلّب من أعداء الأمس أن يتّفقوا على الحوار والتّفاهم بدل الصّراع العسكري، الشّيء الذي حوّل فرنسا وألمانيا من ألدّ الأعداء إلى قوّتين متعاونتين لبناء الاتحاد الأوروبّي والمحافظة عليه. 
كذلك الولايات المتّحدة التي ما كانت لتتطوّر وتصبح قوّة عظمى لو لم تقتنع مكوّناتها بضرورة وقف الحرب الأهليّة الدّمويّة الطّويلة، التي استنزفت قدراتها الماليّة والبشريّة، ووضع دستور يعترف بالتّنوع العرقي والدّيني، ويكفل حقوق مختلف مكوّنات المجتمع، فاتجه الأمريكان إثر ذلك إلى بناء دولتهم التي أضحت من القوى المهيمنة على العالم اقتصاديّا وسياسيّا وعسكريّا.
وتعتبر الولايات المتّحدة أحد البلدان القليلة التي تشجّع على التّنوع والتّعدّد الثّقافي والدّيني، إذ يحتفي الأمريكان عامّة، مع وجود استثناءات قليلة(6)، بالثّقافات الأخرى، ويسمحون للقادمين الجدد بالحفاظ على عاداتهم وثقافاتهم وأديانهم، لأنّهم يعتبرون أنّ ذلك يساهم في استقطابهم واندماجهم السّريع في الدّورة الاقتصاديّة.
وإذا عدنا إلى صفحات التّاريخ القريب، نجد أنّ إمعان السّياسي في إبراز خصوصيّة واحدة، والعمل على تذويب وصهر الخصوصيّات الصّغرى في خصوصيّة كبرى مركزيّة بوسائل قسريّة، كما حدث عند تأسيس الاتحاد السوفياتي سابقا ، أدّى في النّهاية إلى انهيار ثان أكبر قوّة في العالم وتفكّكها إلى دويلات، سرعان ما استعادت ثقافتها وانتماءها العرقي والدّيني. 
(3)
إنّ الشعوب والثّقافات التي تؤمن بالتّعدّد والتّنوّع وتضمن التّعايش بين مكوناتها الفكريّة والعرقيّة واللّغويّة، وتتفاعل إيجابيّا مع الثّقافات الأخرى وتقتبس منها، تكون أكثر حيويّة وإنتاجا وتطوّرا، ويمكنها أن تكتسب مكانة متميّزة في العالم ولنا في ماليزيا التي تقطنها عرقيّات وأثنيّات متباينة حجّة ودليل(7). أمّا المجتمعات التي تختار الانغلاق، فلا تقبل بالتّنوع والاختلاف كمحرّك للحياة فيها، فهي تفوّت على نفسها فرصة التّطور والنّماء وتحكم على نفسها بالفناء، حتّى وإن كانت تمتلك من الثّروات ما لا يحصى ولا يعدّ. وهذا ما نلمسه بوضوح في منطقتنا العربيّة مع وجود بعض الاستثناءات. ففي هذه المجتمعات التي لا تؤمن غالبيّتها بالتنوّع الثقافي والفكري، وتنظر إلى الآخر المختلف كدخيل، يعمّ التّناحر بين النّسيج المجتمعي، وتصبح قضيّة التّنوع الثّقافي سببا إضافيّا للصّراع داخل المجتمع الواحد، وينتهي الأمر إلى حالة مرتبكة ثقافيّا، بجانب ارتباكها اجتماعيّا وسياسيّا.
(4)
 إن ما دفعني للكتابة في هذا الموضوع، هو تنامي خطاب الإقصاء في مختلف المجتمعات العربيّة وارتفاع نسبة شعارات الكراهيّة التي تحرّض على الصّدام، وتدعو إلى رفض الآخر. هذا الخطاب تتبنّاه النّخب قبل العامّة، زعماء وسياسيّون، ورجال دين، وزعماء طوائف ومذاهب، كلّ يدّعي  الأفضليّة، ويرى أنّ الحقّ إلى جانبه وأنّ من يخالفه عدوّ لايرجى منه خير؛ خطاب يدعو إلى نفي الآخر بعزله أو نبذه أو القضاء عليه، عبر تخوينه أو ادّعاء ارتباطه بجهات أجنبيّة واتهامه بعرقلة المشروع الوطني.
إنّ هؤلاء الذين تساندهم أبواق إعلاميّة مأجورة، لن ينجحوا في مسعاهم، ولن يفيدوا مجتمعاتهم في شيء، بل سيدفعون بها نحو «الصّراع» والدّوران في حلقات مفرغة مفتوحة على الكراهيّة والعنف. فلا يوجد طرف يستطيع أن يستغني عن بقيّة الأطراف، بدعوى أنّه قادر على الارتقاء بالمجتمع من دون مساعدة الآخرين، والاستفادة من تجاربهم وخبراتهم. 
(5)
لا خيار أمام العرب والمسلمين لتحقيق التّنمية والازدهار والتّقدّم، سوى تبنّي ثقافة التّعدّد والتّنوّع، وتنميتها وتقويتها، وبناء وعى اجتماعيّ وطني جديد يستوعب هذه المعاني ويعمل بها .. والطّريق إلى ذلك يمرّ عبر فتح قنوات الحوار بين مختلف مكوّنات المجتمع، وتبنّي خطاب يجمع ولا يفرّق، كما يمرّ عبر تحويل بعض المفاهيم مثل «نبذ الإقصاء» و«روح المواطنة» و«المساواة أمام القانون»، إلى سلوك عامّ يؤمن به الجميع ويعمل من أجل ترسيخه.
إنّ التّعصب الأعمى والعمل على إلغاء وقهر الخصوصيّات والتّنوعات الاجتماعيّة الأخرى، سواء كانت سياسيّة أو فكريّة أو دينيّة، يؤسّس لمشروع حروب اجتماعيّة مفتوحة، تهدّد بمخلّفاتها النّفسيّة والعمليّة أسس استقرار المجتمع وعوامل وحدته. ذلك أنّ عقلية التّعصب والإلغاء، تمنع من تبلور خيار الشّراكة والمشاركة لكلّ التّنوّعات في بناء الوطن، وتطوير المجتمع على مختلف المستويات. 
لا يمكن أن نتحدّث عن إصلاح سياسيّ أو اقتصاديّ حقيقي لمجتمعاتنا، إلآّ عبر إصلاح ثقافي يهدف إلى بناء هويّة وطنيّة متوازنة، ولا يحدث هذا التّوازن إلاّ إذا ساهمت في تشكيلها مختلف الأطياف الفكريّة والسّياسيّة والاجتماعيّة بعيدا عن الإقصاء والتّمييز، والتنكّر لواحد من هذه الأطياف، أو استخدام القوّة والغلبة والقسر في عمليّة التّنكر والتّغييب، لا تزيد الأمور إلاّ تفتّتا وانقساما وتشظّيا، وبالتّالي تخلّفا وتقهقرا. 
من هنا، نجد أنّ مختلف الصّيغ والمقترحات التي تداولت في السّاحة العربيّة بصفة عامّة، قصد تحقيق النّمو والرقيّ، وخلق الوحدة الوطنيّة واستقرارها، سرعان ما أصيبت بالتكلّس والفشل، ولم ترتق  إلى ممارسة دور حقيقي في الإطار المرسوم لها، وذلك نتيجة استنادها إلى خيار استبعاد العديد من مكوّنات التّأثير والقوّة في المجتمع ومنعها عن القيام بدورها. 
إنّ بناء هويّة ثقافيّة فاعلة وبنّاءة، لا يأتي قسرا أو عبر قانون الغلبة والتّغييب، وإنّما هو وليد تفاعل ثقافيّ واجتماعيّ بين مختلف القراءات والآراء سواء في الحياة اليوميّة أو عبر  أطر ومنابر وطنيّة تحتضن  عملية حوار وجدل ثقافي، الهدف منها تنمية ما يجمع الجميع وضبط الاختلافات والتّمايزات، وصياغة مشروع ثقافي مجتمعيّ على قاعدة «التّنوع في إطار الوحدة». 
إنّ الشّرط المطلوب لكي يكون التّنوع الثّقافي والفكري والسّياسي سببًا من أسباب التّنمية وثراء الحياة في مجتمع ما، هو فتح آليات للحوار والتّلاقي والتّعرف على الآخر (وإن كان خصما)، وعلى وجهات نظره واحترامها، والابتعاد عن التّعصب الأعمى وكراهية الآخر، وإلآّ فسيكون ذلك التنوّع سببًا في الصّراعات والحروب كما حدث في التاريخ ويحدث اليوم في مجتمعات عربيّة عدّة.
لقد دفع الوطن العربي ولا يزال يدفع ثمنا باهضا جرّاء التعامل الخاطئ من جانب حكوماته وتياراته السياسية مع قضية التنوع الثقافى، فبدلا من أن يصبح هذا التنوع مصدرا للإثراء والاستفادة من تعدّد المهارات وأنماط السّلوك، صار سببا في توتّر العلاقات بين أبناء الوطن الواحد، بل وتفجّر فى اعتداءات متبادلة، أفضت إلى حروب أهليّة(8)، وتخلّف اقتصادي وتشتّت اجتماعي رهيب.
فمتى نخلع عنّا رداء التعصّب والكراهيّة ورفض الآخر، ونرتدي لباس التّسامح والحوار؟ ومتى يؤمن الجميع بأهمّية التّنوّع، ويسعى إلى تكريس التّعدديّة وحمايتها عبر آليّات قانونيّة وتشريعيّة، حتّى تصبح نهجا ثقافيّا ومجتمعيّا وسلوكيّا، يتبنّاه النّاس بمختلف مشاربهم واتجاهاتهم وانتماءاتهم؟
الهوامش
(1) سورة الروم - الآية 22
(2) سورة فاطر - الآيتان 26 و27
(3) سورة الحجرات - الآية 13
(4) سورة هود - الآيتان 118 و119
(5) سورة البقرة - الآية 251
(6) كما هو الحال في باقي المجتمعات، توجد في الولايات المتحدة أيضا أقليّات سياسيّة أو فكريّة لا ترحّب بالتّعددية الثّقافيّة وترى فيها خطرا على الثّقافة الأميركيّة. وأغلبها تنطلق من مبدأ الدفاع عن الإرث الأنجلو ساكسوني الذي قامت عليه الولايات المتحدة.
(7) حقّقت ماليزيا قفزة اقتصاديّة نوعيّة بين السّبعينات والتّسعينات؛ لتصبح من بين أسرع الاقتصادات نموًا في العالم، وهي الدّولة التي تضمّ مزيجا من العرقيّات والثقافات المتنوّعة ( 62% من الملايو وجماعات مختلفة من السّكان الأصليين، و30% من الصينيين، و8% من الهنود).
(8) مثل الحرب اللبنانيّة والتّناحر بين الفصائل الفلسطينيّة وما يحدث اليوم في ليبيا واليمن.