الأولى

بقلم
فيصل العش
تطرّف الطقس ... الخطر الدّاهم
 لا أميل كثيرا للكتابة في مجال الاختصاص الذي قضّيت فيه أكثر من أربعين سنة بين طالب ومهندس، بحكم هوسي بالثّقافة والفكر من جهة وخوفي من السّقوط في عدم الموضوعيّة، وغض الطّرف عن بعض الحقائق من باب الحماس لمهنتي وواجب التحفّظ، غير أنّني أخرق هذه القاعدة بين الحين والآخر للحديث عن الطّقس والمناخ، خاصّة من زاوية المخاطر التي تنجرّ عن تغيّرهما، والتي لا تقلّ عن مخاطر الحرب والإرهاب(1).
(أ)
لم يعد خفيّا على الجميع ما آلت إليه الأوضاع المناخيّة في بلادنا وسائر بلاد العالم، وما أصبحت تتميّز به من تغيّرات نتجت عنها كوارث وأزمات، عجز البشر عن تجاوزها أوالسّيطرة عليها، بالرغم من التطوّر التكنولوجي الهائل، ومحاولة الإنسان منذ القديم فهم ميكانيزمات الطّقس والمناخ. 
لم تعد التّغيرات المناخيّة نظريّة وسيناريوهات تدرّس في الجامعات وتعرض في المؤتمرات العالميّة، بل أصبحت واقعا ملموسا وأمرا محسوسا، فالسّجلات المناخيّة العالميّة حافلة بشواهد غنيّة وأدلّة قطعيّة، على أنّ عناصر المناخ تغيّرت وأصبحت أكثر تطرّفاً وعنفاً، فالفيضانات المدمّرة (2) وحرائق الغابات (3) والأعاصير(4) وموجات الحرّ والبرد وارتفاع متوسّط درجة حرارة سطح الأرض الذي أدّى إلى ذوبان الجليد القطبي والأنهار المتجمّدة، والذي أعقبه ارتفاع مستوى سطح البحر، إلاّ شواهد محسوسة وأدلّة مقيوسة لمن كان عنده شكّ وارتياب.
لن نجيب في هذا المقال عن السّؤال الجوهري الذي كثر حياله اللّغط والجدل:«من الذي يقف خلف هذا التّغير المناخي الحالي؟»، لأنّ الإجابة تتطلّب بحثا مستقلّا بذاته للاختيار بين رأيين علميّين متناقضين، ففي الوقت الذي يذهب فيه كثير من علماء المناخ إلى أنّ المتّهم الرّئيسي في ذلك هو النّشاط البشري وذلك عبر انبعاثات غازات الاحتباس الحراري في الغلاف الجوّي، كثاني أكسيد الكربون، وغاز الميثان، نجد قلّة من العلماء يبرّئون الإنسان من تلك التّهمة، مشيرين إلى أنّ عوامل طبيعيّة دوريّة تقف وراء تلك التّغيرات المناخيّة. لكنّنا سنحاول الإجابة على سؤال يتعلّق بمظاهر تطرّف الطقس في بلادنا وإمكانيّة مقاومته أو الحدّ منه. 
(ب)
الطقس المتطرف هو طقس يتميّز بحدوث ظواهر جوّية شديدة القوّة أو في غير وقتها (مفاجئة أو غير فصليّة). وهو في العادة طقس غير متوقّع، وغير عادي من حيث حدّته وقسوته. ويمكن تلخيص مظاهر تطرّف الطّقس في بلادنا في أمرين إثنين، الأوّل: شدّة الظّاهرة المصاحبة عند حدوثها ( كميّات كبيرة من الأمطار، سرعة رياح قويّة جدّا، حرارة مرتفعة ...) والثّاني: ارتفاع نسبة تواتر حدوثها مقارنة بالماضي ( تكرّر الظّاهرة مرّات عدّة في نفس الفترة الزّمنيّة التي كانت تحدث فيها مرّة واحدة) .
ومن أهمّ الظواهر الجوّية التي يشملها تطرّف الطقس نذكر: نزول الأمطار بغزارة، وانحباسها في موسم الأمطار لمدّة طويلة، والرّياح العاتية وموجات الحرّ والبرد. فبالنسبة للأمطار، نلاحظ ظهور أمطار غزيرة استثنائيّة (كميّات كبيرة في فترة وجيزة من الزّمن) في عدّة مناطق بالبلاد بكميّات لم تسجّل من قبل، وما تمّ تسجيله خلال الأسبوع الأول من سبتمبر 2020 بمنطقة السّاحل لخير دليل على ما نقول(5)، كما يتذكّر الجميع الأمطار الغزيرة الاستثنائيّة التي اجتاحت ولاية نابل في 22 سبتمبر من سنة 2018 حيث تجاوزت خلال 24 ساعة عتبة 297 مم ببني خلاد (منها 245 مم في ظرف ساعة واحدة فقط) لتسجّل أعلى نسبة تهاطل الأمطار في العالم بالنّسبة لذلك اليوم(6)وهي كميّة لم تشهدها البلاد من قبل، ولم تكن أعتى النّماذج العدديّة الخاصّة بالتّوقعات الجوّية قادرة على توقّعها. ومايزيد في تأكيد التّطرّف المناخي في بلادنا أن وتيرة حصول الأمطار الغزيرة الاستثنائيّة ارتفعت خلال الفترة الأخيرة بشكل لافت للنّظر، فبعد أقل من شهر من حدوثها في الوطن القبلي، ضربت عدّة مناطق في البلاد خاصّة العاصمة تونس وتسبّبت في سيول جارفة وفيضان الأودية وخسائر بشريّة ومادّية كبيرة(7). كما يبرز تطرّف الطّقس في نزول الأمطار الغزيرة في غير وقتها، أي خارج موسم الأمطار، ونذكر على سبيل المثال ما حدث ببنزرت في فصل الصّيف ( 24 أوت 2018)، حيث سُجّلت أمطار هامّة وغزيرة في توقيت قصير، بلغت 143 مم بميناء بنزرت (8). 
أمّا موجات البرد المصحوبة عادة بالثّلوج الكثيفة، فلنا في ما حدث خلال النّصف الأول من شهر فيفري سنة 2012 خير مثال، إذ شهدت مناطق تونسيّة عديدة موجة ثلوج لم تعشها البلاد منذ أكثر من ربع قرن، وقد شهدت الفترتان من 3 إلى 8 ومن 11 إلى 15 انخفاضا ملحوظا في الحرارة وتساقط الثلوج لعدّة أيام متتالية بالمناطق الغربية للبلاد، وخاصّة بجهة عين دراهم حيث فاق سمكها 150 و105 سنتمترا على التّوالي خلال الفترتين الأولى والثّانية، ممّا تسبب في انقطاع الطّرقات وعزلة المدينة(9).
كما تتالت موجات الحرارة الشّديدة التي ارتفعت نسبة تواتر تكرارها ومدّة حدوثها، الأمر الذي أثّر سلبا على حياة النّاس وكان سببا في اندلاع الحرائق وشدّتها. وسنكتفي بالتّذكير بآخر موجات الحرّ التي شملت كامل البلاد وامتدت لفترة أسبوعين خلال شهر أوت 2020، بالإضافة إلى موجة الحرّ التي ميّزت شهر جويليّة 2018 حيث سجّلنا ارتفاعا ملحوظا في درجات الحرارة التي تجاوزت المعدّلات العادية بالعديد من الجهات وأرقاما قياسيّة جديدة بكلّ من القيروان (48.3)وسيدي بوزيد (46.7) وقفصة(46.5)
(ج)
إذن تبرز مظاهر تطرّف الطّقس في حدوث ظواهر جوّية استثنائيّة من حيث القوّة والفترة الزّمنيّة التي تحدث فيها، كما يبرز هذا التّطرّف في ارتفاع وتيرة تكرار هذه الظّواهر، فهل يمكن مقاومتها أو على الأقل الحدّ من مخاطرها المدمّرة وتأثيراتها السلبيّة؟ 
مقاومة تطرّف الطّقس مستحيلة ولا يمكن أن نضع حدّا للظّواهر الجويّة الاستثنائيّة المتطرّفة، بل أنّ هذا التطرّف سيزداد حدّة مع مرور الزّمن وربّما بسيناروهات مخيفة للجميع، ولا يقتصر الأمر على بلادنا فقط، بل سيشمل جميع مناطق الكرة الأرضيّة. لستُ هنا لأخيف النّاس ولكنّها الحقيقة، فتطرّف الطّقس وما يصاحبه من إرهاب مناخي هو نتيجة التغيّرات المناخيّة النّاتجة عن الاحتباس الحراري(10) الذي يزداد يوما بعد يوم، وكلّما ازدادت نسبته ازدادت حدّة ظّواهر الطّقس المتطرّفة.
وقد أكّددت التّقارير العلميّة الصّادرة عن«الهيئة الحكوميّة الدّولية المعنيّة بتغيّر المناخ» أنّ وتيرة الاحترار المسجّلة في السّنوات الثّلاث الأخيرة استثنائيّة، وأنّ السّنوات الـ17 من أصل الـ18 الأكثر دفئا سجّلت خلال العشريتين الأخيرتين. وتحذّر الهيئة من أنّ الوصول إلى عتبة درجة ونصف الدّرجة المئوية فوق مستويات درجات الحرارة ما قبل الثّورة الصّناعيّة أوتجاوزها سيكون مدمّرا للحياة على الأرض(11). 
سيتساءل البعض عن فائدة المؤتمرات العديدة التي تمّ تنظيمها من أجل الحدّ من ظاهرة الاحتباس الحراري والاتفاقيّات الدّوليّة التي انبثقت عنها(12)، الجواب أنّ تلك المؤتمرات والقمم تشبه إلى حدّ كبير المؤتمرات والقمم السّياسيّة والأمنيّة التي تعقدها الأمم المتّحدة، فلا فائدة ترجى من ورائها ما دامت الدّول الكبرى وعلى رأسها الولايات المتّحدة الأمريكيّة والشّركات العظمى متعدّدة الجنسيّات المهيمنة اقتصاديّا على العالم، لا تلتزم بمخرجاتها، وهي لا تفكّر إلاّ في الرّبح السّريع وإن كان على حساب الشّعوب الضّعيفة والفقيرة التي تعتبر أكثر المتضرّرين من التغيّرات المناخيّة ومن تطرّف الطّقس. فلن يكون باستطاعة أحد فرض قراراته على الدّول الكبرى، وهي لن توافق على تنفيذ التّوصيات إلاّ إذا خدمت مصالحها السّياسيّة والاقتصاديّة؛ أمّا الدّول الفقيرة والضّعيفة، فإنّها ستبقى على هامش الأمر، تتحمّل تبعات أخطاء الدّول الكبرى والمنظّمات الدّوليّة المهيمنة عليها، وتعاني أكثر من غيرها من «إرهاب المناخ» في انتظار صحوة حقيقيّة للضّمير الإنساني التي قد تأتي وقد لا تأتي قبل قيام السّاعة. 
ولن أكون متشائما أكثر من «أتونيو جوتيريس» الأمين العام للأمم المتّحدة الذي قال : «العالم يخسر السّباق، لأنّ تقرير المنظّمة (WMO) يخلص إلى أنّه حتّى لو حقّقت جميع البلدان الأهداف التي حدّدتها اتفاقيّة باريس لعام 2015، فإنّ حرارة كوكبنا سترتفع بمقدار 2.9 إلى 3.4 درجة مئوية. وللنّجاح في الحدّ من ظاهرة الاحتباس الحراري إلى 1.5 درجة مئوية فقط - يؤكّد الخبراء أنّ هذا لا يزال ممكنًا تقنيًا - يجب ببساطة مضاعفة مستويات الطّموح بخمسة!»(13) وهو أمر من قبيل الخيال، حتّى وإن تحوّل أصحاب القرار في الدّول الكبرى والشّركات العملاقة إلى ملائكة!!!.
(د)
إذن ماذا عسانا أن نفعل ونحن شعب ضعيف أنهكتنا الصّراعات بين النّخب السّياسيّة، وغياب النّظرة الاستشرافيّة لدى الحكومات المتتالية، بالتّوازي مع استفحال الفساد وارتفاع نسبة الفقر؟ ألا نستطيع التّخفيف -على الأقل- من النّتائج الكارثيّة لتطرّف الطّقس؟  
الجواب: نعم، نستطيع وإن كان الأمر صعبا للغاية، علينا قبل كلّ شيء أن نعي بخطورة الوضع ونعلم أنّ ما سيحدث في المستقبل سيكون أشدّ خطورة، وأنّ إرهاب الطّقس قد يكون أكثر خطورة من إرهاب بني البشر، وعليه فإنّنا مطالبون بتضحيات جسام على مستوى الميزانيّة وتغيير الأولويّات ووضع استراتيجيّة لتطوير وسائل الرّصد (كاقتناء الرّادارات)، والإنقاذ بتدعيم قدرات الحماية المدنيّة وجمعيّات المجتمع المدني العاملة في المجال، والتّجهيز سواء في توفير الميزانيّات الضّروريّة لحماية المدن أو التّخطيط لبناء مدن جديدة تأخذ بعين الاعتبار في تنظيمها عنصر التغيّر المناخي وتطرّف الطّقس. أمّا إذا اكتفينا برفع الشّعارات وحضور المؤتمرات لتقديم الملفّات للحصول على الدّعم المالي من المنظمات العالميّة كتعويضات لجبر الضّرر المتسببة فيه ما يسمّى بالدوّل المتقدّمة، فالكارثة لامحالة قادمة ولو بعد حين... 
الهوامش
(1) أنظر مقال «من ينقذنا من إرهاب المناخ؟» بالعدد 64 من مجلّة الإصلاح - سبتمبر 2014 ومقالنا «بين إرهاب المناخ وإرهاب البشر» بالعدد 97 من مجلّة الإصلاح - ديسمبر 2015. 
(2) من بينها فيضانات جاكرتا 2020 وهي فيضانات مفاجئة حدثت في جميع أنحاء العاصمة الإندونيسية جاكرتا ومنطقتها الحضرية في السّاعات الأولى من يوم 1 جانفي 2020، وذلك بسبب الأمطار التي تهاطلت ليلًا بكمّيات بلغت ما يقرب من 400 ملّيمتر، مما تسبب في فيضان نهر تشي ساداني ونهر سيليوونج. قُتل جراء الفيضانات ما لا يقل عن 66 شخصًا، ونزح أكثر من 60.000 شخص في أسوأ فيضانات بالمنطقة منذ عام 2007.
كما يمكن أن نذكر فيضانات السودان المدمّرة التي حدثت منذ مدّة قصيرة وشملت 16 ولاية سودانية على الأقل. تأثر في الفيضان أكثر من 500.000 شخص، وتدّمر أكثر من 100.000 منزل، وأعلنت الوكالات الحكوميّة عن مقتل حوالي 101 شخص.
(3) أكثرها عنفا وتطرّفا تلك التي اندعلت بأستراليا في سبتمبر 2019 واستمرّت إلى حدود منتصف جانفي 2020 نتيجة ارتفاع درجات الحرارة إلى مستويات قياسيّة، وشهور متواصلة من الجفاف الشّديد، وقد أحرقت النيران أكثر من 10.7 مليون هكتار (107 ألف كيلومترًا مربعًا)، ودمرت أكثر من 6000 مبنى (بما في ذلك 2204 منزلا) وخلّفت أكثر من عشرين قتيلا وفقدان مليار من الحيوانات المتنوعة وخسائر مادّية كبيرة. 
(4) إعصار كاترينا أكثر الأعاصير دمويّة والأكثر ضرراً من كلّ الأعاصير المداريّة في المحيط الأطلسي خلال موسم الأعاصير في عام 2005، وهذه الكارثة الطبيعية هي الأكثر تكلفة، ويعتبر أحد أعنف خمسة أعاصير في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، ويعتبر سابع أكبر أعاصير المحيط الأطلسي على الإطلاق. وقد بلغ عدد الوفيات من الأعاصير التي ضربت الولايات المتحدة في عام 2005 حوالي 1833 قتيل، مما يجعلها أكثر الأعاصير فتكاً في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية منذ عام 1928. وقد تمّ تقدير الخسائر المالية بأكثر من 108 مليار دولار أمريكي، وهو ما يقارب أربعة أضعاف خسائر إعصار أندرو في عام 1992. 
(5) سجّلت أمطار طوفانيّة في فترة وجيزة من الزمن بمنطقة الساحل حيث بلغت يوم 05 سبتمبر، 237 مم ببني حسان (المنستير) و 169 مم بالمكنين (المنستير)و 128 مم بسيدي علوان (المهديّة) وفي اليوم الموالي 6 سبتمبر بلغت الكميّة 109 بقصيبة المديوني و 101 بخنيس من ولاية المنستير. وتقدّر هذه الكميّات بأكثر من 200 مرّة المعدل السنوي.
(6) بلغت الكميات المسجّلة بحساب المليمتر 244 بسليمان و205 ببوعرقوب و201 بنابل و198 ببني خيار و180 مم بمنزل بوزلفة و168 بالحمامات و162 بقرمبالية.
(7) بلغت الكميات المسجّلة بين 17 و18 اكتوبر 2018 ، 110 ملم في العاصمة تونس و98 ملم في المحمديّة وهو أمر غير معهود.
(8) التقرير السنوي للمعهد الوطني للرصد الجوّي لسنة 2018،
(9) التقرير السنوي للمعهد الوطني للرّصد الجوّي لسنة 2012 
https://www.meteo.tn/sites/default/files/2020-01/rapport_2012.pdf
(10) تُعرّف ظاهرة الاحتباس الحراري(بالإنجيزيّة: Global Warming)، على أنّها ارتفاع في معدّل درجة حرارة الهواء الجوّي الموجود في الطّبقة السّفلى من سطح الأرض، نتيجة امتصاص الغازات الدفيئة في الغلاف الجوي كثاني أكسيد الكربون لطاقة الشّمس وحبسها بالقرب من الأرض ممّا يساهم في ارتفاع حرارة الأرض.
(11) أظهرت بيانات المنظمة العالمية للأرصاد الجويّة أن متوسّط درجة الحرارة في العالم في عام 2019 زاد 1.1 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل الصّناعة. 
(12) من بينها قمة الأرض الذي عقدت في ريو دي جانيرو في البرازيل(1992)، واتفاقية كيوتو (2009) واتفاقية باريس (2015).
(13) من مقال لـ «Nathalie Mayer» صادر بموقع «www.futura-sciences.com» يوم 28/9/2019