نقاط على الحروف
بقلم |
![]() |
أ.د.احميده النيفر |
الخطاب الدّيني الرّسمي وصراع المرجعيّات في تونس (2/4) |
الحسينيّون وإرهاص دولة التّحديث
في فصل من كتابه « تحريك السّواكن: في سُبل السُنّة الإسلاميّة»(1) الذي جمع فيه نصوصا كان بعضها قد صدر قبل الاستقلال بسنوات، يتناول «محجوب بن ميلاد» حالة العطالة التي يرزح تحت وطأتها حاضر عالم المسلمين، فيؤكّد أنّ عوامل ذلك الجمود وإن كانت عديدة فإنّ أهمّها هي «عقلية الانكفاف أو الجبن العقلي» . لتفسير هذه الإعاقة يقول صاحب «تحريك السّواكن»: «إنّه الانكماش وعقليّة الجبن أمام المغامرات الفكريّة والنّخوة الفكريّة والسّلطان الفكري»(2). ثم يواصل محددا المقصود بأهل الانكماش فيقول : «لذلك قرّر أقزام فقهاء الانحطاط إغلاق باب الاجتهاد وإعلان الحرب على الفلسفة ومطاردة منتحليها كما لو كانوا من أبناء الشياطين»(3). يسترسل بعد ذلك المؤلّف في هذا المسلك مُدينا فقهاء «قرون انحطاط الشّرق الإسلامي» وما ينشرونه من فتاوى وكلام هو « الباطل الصّرف والمنطق السقيم»(4).
عند النّظر في هذا الموقف يُفيدنا ابن ميلاد بأنّه يرمي إلى إحياء ما يسمّيه «السّنة الإسلاميّة» المُفضية إلى المَدَنيّة التي تندفع معها النّفس إلى ما هو «أبعد وأسمى وأنبل، فتطير من فتح إلى فتح وتنشد في كلّ آونة وحين نشيدا عُلْوِيًّا جديدا يرقص له العقل ويخفق له القلب ويومض له الوجدان وتنقدح به نار الشّوق في العزيمة ويُدَوِّي الوجود بأسره بنغمه وتنضاف إلى آيات إبداع قديم آيات إبداع جديد وينبجس في السّماء نجم جديد وينفذ في الكون الأمر الرّباني»(5). في هذا التّقعيد الفكري سعي لتأسيس سياسة تحديثيّة ناشئة ومحتاجة، في نظر محجوب بن ميلاد، إلى التّحرّر من الخطّ «السّلطاني الفقهي» التقليدي. مقتضى ذلك ضرورة تجاوز كلّ مرجعيّة معرفيّة ومؤسّسيّة لها قدرة اجتهاديّة مستقلّة عن الدّولة الجديدة.
قريب من هذا نجده في صياغات أخرى ومن مداخل مغايرة عند محمود المسعدي وعند الشّاذلي القليبي وغيرهما من النّخب الصّاعدة والقريبة من مركز القرار في تونس المستقلّة. عند هؤلاء يمكن القول إنّ التّأسيس لدولة التّحديث في تونس استفاد من الحرص المبكّر على تجاوز الفهم التّراثي لتعاليم الإسلام لكنّه كان لا يسعى إلاّ لغاية سياسيّة وفكريّة هي تركيز مرجعيّة جديدة وحيدة للدّولة عبر المفهوم الوضعي للقانون.
لم يكن في ظاهر هذا المسعى تطاول مُعلَنٌ على الإسلام أو إعلان عن رفضٍ عدائيٍّ له لكنّه لم يكن في نفس الوقت مَعنيًّا في الحقيقة بتطوير الخطاب الديني أو تجديده بتوفير المجالات المحقّقة لذلك من داخله وفي استقلاليّة عن مؤسّسة الدّولة وخططها. ما كان يقال عن « الاجتهاد» وعن «صلاحيّة الإسلام لكلّ زمان ومكان» وعن «إحياء السّنة الإسلاميّة» تجاوزًا لـ«فقهاء التّقليد وجمودهم الفكري» لم يستتبعه أيّ عمل مؤسّسي حديث لتحقيق تلك القضايا وتجاوز ذلك السّكون. كان تقدير النّخب الجديدة أنّ الضّرورة التّاريخيّة هي التي اقتضت ذلك القول فحسب. إنّها الـ «براڨماتيّة» السّياسيّة التي لا ترمي إلاّ لحسم الصّراع على مرجعيّة الدّولة بانتزاعها بصورة كاملة من أيدي «الفقهاء» المناوئين الذين يستنجدون بالقوى المحافظة لتحصين مواقعهم ولمناهضة مشروع التّحديث الجمهوري.
في نظر بُناة الدّولة التّونسيّة كانت كلّ تحديات التّقدم والنّهوض تستجيب لتلك الضّرورة التّاريخيّة القاضية بتغيير الواقع السّياسي والاجتماعي للبلاد من خلال إقامة نظام تكون مرجعيّة الدّولة الوطنيّة فيه وضعيّة أحاديّة. من ثمّ كانت بؤرة التّركيز عند القائمين على الخطاب السّياسي التّونسي الجديد هي «مرجعيّة الدّولة» التي لا مرجعيّة أخرى سواها باعتبار أنّ أهم قضايا الحياة السّياسيّة والاجتماعيّة ينبغي حسمها عبر القانون وما يستلزمه من المؤسّسات الجديدة.
مؤدّى ذلك، أنّ طبيعة الخطاب الرّسمي للدّين في تونس كان على مقتضى النّظام السّياسي الجديد المستند إلى «فلسفة» وفكر غير مؤسّسَيْن أو مفهومَيْن لدى الجمهور، بل كانا قاطعَيْن مع ما كان يتوفّر عليه انتظام الدّولة والمجتمع سابقا.
ما زاد من حالة الالتباس، أنّ العمل على توفير الشّروط والاختيارات والمواقف التي يتحقّق من خلالها ذلك الفكر الجديد لا يعني ضرورة اتخاذ موقف راديكاليّ من الدّين الإسلامي. الأمر المؤكّد والواضح في عموم المشهد الجديد هو أنّ يضحى الشّأن الدّيني أداة وظيفيّة عاديّة مُحقّقة لفاعليّة الدّولة وعنصرا من عناصر هندسة المجتمع وإعادة تشكيل فكره ورؤيته.
عند هذا الحدّ لا بدّ من التّساؤل عن الدّواعي التي يسّرت للنّخب الجديدة الحاكمة في تونس أن تُرسي هذا المنهج وأن تُنتج له هذا النّوع من الخطاب الذي لا يمكن وسمه بالدّيني لكونه كان خطابا سياسيّا مُستَلِبًا للدّين وفاعليته الاجتهاديّة والمجتمعيّة.
لمعرفة كيف انتهى الشّأن الدّيني في تونس المستقلة ليكون مُرْتَهَنًا للدّولة بصورة كاملة نحتاج إلى تحليل الضّرورة التّاريخيّة المشار إليها آنفا والتي جعلت هذا الارتهان أمرا مُمكنا ومقبولا بل يعسر تجاوزه إن لم يكن من المتعذّر العدول عنه في ذلك السّياق مع الدّولة الجديدة وخلفيّتها الفكريّة.
بالعودة إلى شروط تلك «الضّرورة التّاريخيّة» المنتجة لخطاب عن الدّين يكون على مقتضى احتياجات السّياسة يتبيّن لنا ارتباط تلك الضّرورة بالواقع السّياسي الدّولي وخاصّة الفرنسي في تلازم مع ما توفّر من بِنية تصوّريّة تراثيّة لدى عموم علماء الشّرع في تونس.
ضمن وعي بتلك الشّروط التّاريخيّة انخرط بُناة دولة التّحديث فيما توفّر في تونس من انهيار « النّسق التّنافذي» القديم، حيث التّأثير متبادلٌ بين سلطة الحكم ومرجعيّة رجال الشّرع والطّريقة، الذي صار نسق «دَوْلَنَة» الذي يُستتبَع فيه هؤلاء لأولئك وذلك قبل طور الاستقلال بما يزيد عن قرن. قبل ذلك كان القائمون على المؤسّسة الدّينية يمثّلون الفاعلَ الأبرز، إلى جانب العسكر والتّجار، الذي استند إليه الملوك الحسينيّون في تثبيت حكمهم إزاء جملة من المصاعب الدّاخلية فضلا عن المخاطر الوافدة. عندها كانت المؤسّسة الدّينية توفّر مشروعيّة لحكم الحسينيّين في مرحلة التّأسيس الأولى من خلال ما يتعيّن بفضلها في الفضاء الحضاري المعرفي والرّوحي والقانوني من توازن يقلّص من غلواء درجة الانقساميّة التي اختصّ بها المجتمع في تونس.
كان التّديّن المُمَأْسَسُ يصنع عامل الوحدة المعياريّة التي لا غنى للدّولة عنها على أرضيّة مجتمع انقسامي، ما جعل الملوك الحسينييّن ينخرطون بصورة جليّة في نسق تفاعلي مع تلك المؤسّسة . تواصل هذا النّمط من العلاقة ليشهد تحوّلا تدريجيّا طوال القرن الثّامن عشر ليتأكّد مع التّاسع عشر بإخراج مشروعيّة الدّولة من سياق «النّسق التّنافذي»، إلى «نسق الدّولنة» الموفِّر شرعيةَ استتباعٍ تصبح فيه المؤسّسة الدّينيّة تابعة وموظّفة للدّولة وعاجزة عن غير ذلك .
انطلقت سيرورة «الضّرورة التّاريخيّة» التي انتقلت معها قيادات الدّولة الحسينيّة بصورة تدريجيّة لتتواصل بصورة جليّة معهم مطلعَ القرن التّاسع عشر ولتتأكّد من خلال ما كرّسه التّنظير الفقهي والمواقف التي تلت ذلك من قبل علماء الزّيتونة وشيوخ الطّرق الصّوفيّة حين تفاقم سوء الوضع السّياسي مع أواخر الملوك الحسينييّن ممهّدا لقيام الحماية الفرنسيّة.
للتّعريف بهذا التحوّل نذكر أوّلا العامل السّياسي الدّاخلي. لقد انطلق هذا الطّور مع خامس بايات تونس، حمودة باشا ( 1759-1814) ، الذي تحقّق في عهده استقرار داخلي بفضل التّحالف مع الأعيان المحلّيين وشيوخ العروش وبما واكبته البلاد من نهضة اقتصاديّة واجتماعيّة فضلا عمّا تحقّق في عهده من انتصارات عسكريّة لافتة أكّدت استقلالا للبلاد في المستويين السّياسي والاقتصادي إزاء المصالح الأوروبيّة وإزاء نفوذ الدّولة العثمانيّة .
إقليميّا وفي ذات القرنين 18 و19 برز العامل الثّاني حيث تبيّن تراجعُ نفوذ الإمبراطوريّة العثمانيّة في حضورها الأوروبي والعربي الإسلامي وتزايدُ الضّغوط الدّاخليّة والخارجيّة عليها ممّا أجبرها على القيام بالإصلاحات المعروفة بالتّنظيمات (1839-1876).
ما يعنينا في هذا السّياق الإقليمي، الذي تعيّن خاصّة مع القرن الرّابع عشر الهجري والذي وافقت بدايته سنة 1883 م، هو ما شهده من بروز دول قُطريّة جديدة تفاقم معها النّزوع الاستقلالي عن الإمبراطوريّة في مناطق أخرى من العالم الإسلامي.
مع هذا القرن، كان الإعلان الفعلي عن بداية نهاية المشروعيّة «الدّينية» للدّولة الإمبراطوريّة، وما كرّسته من خطّ «سلطاني فقهي» بالانحسار إلى مجرّد حدود شرعيّة شعب مُحدَّدٍ على أرض متعيّنة بسيادة، لها وضع على المشهد الدّولي والتي لا يحكمها إلاّ إطار سياسي جديد لدولة مُستقلّة حداثيّة.
الهوامش
(1) الصادر بتونس 1962
(2) انظر محجوب بن ميلاد، تحريك السّواكن: المذكور سابقا ص 301.
(3) م.س.
(4) م.س. ص 301-302.
(5) نفس م.س.
(6) من أبرز مؤلفاته «السدّ» الصّادر عن دار الجنوب للنّشر سنة 1955 و « حدّث أبو هريرة قال» تقديم توفيق بكّار الصّادر عن دار الجنوب للنّشر تونس 1973 و«تأصيلا لكيان» الصّادر عن دار ابن عبد اللّه تونس 1979، وانظر محمود طرشونة، «الأدب المريد في مؤلفات المسعدي» ط1 تونس 1978 وراجع الحوار الذي نشره حسن بن عثمان بعد وفاته، مجلّة الحياة الثّقافيّة عدد 161 جانفي 2005.
(7) • Orient-Occident : La paix violente avec Geneviève Moll, éd. Sand, Paris, 1999 • Habib Bourguiba : radioscopie d›un règne, éd. Déméter, Tunis, 2012
(8) انظر محمد عبد الباقي الهرماسي، «المجتمع والدولة في المغرب العربي»، مركز دراسات الوحدة العربية، لبنان ط1، بيروت 1987، الفصل الأول: إرث الدّولة المخزنيّة.
(9) كان انتظام المجتمع التّونسي قائما بصورة شبه كلّية عبر المؤسّسات والرّموز والرّؤى والفكر الدّيني ممّا جعل الحسينييّن الأوائل يسعون تركيزا لنفوذهم على أن يشرعنوا لسلطتهم من خلال هذا النّظام المُمَأْسس ذلك أنّه لم يكن للحاكم السّياسي موقع مركزي في حياة المجتمع، انظر مثلا ابن أبي الضياف خاصّة ما تعلّق بعلاقة الباي بالشّيخ إبراهيم الرّياحي واستقلال هذا الأخير، انظر أحمد بن أبي الضياف، «إتحاف أهل الزمان بتاريخ تونس وعهد الأمان» (ثمانية أجزاء) نشر وزارة الثّقافة تونس 1963 - 1966، ج 3/ 186و ص 211.
(10) انظر مثلا ما قام به المشير أحمد باشا باي سنة 1842م في استلحاق المشائخ بالدّولة، الإتحاف ج 4 / ص ص 65- 66.
(11) حكم حمودة باي بين 1782 و1814 ومن أهمّ ما حققّته سياسته الخارجيّة حربه على البندقيّة عام 1784 لاعتدائها على التّجارة البحريّة التّونسيّة وانتصاره عليها سنة 1792 وحربه على طرابلس عام 1793، بعد هجوم الوالي العثماني علي برغل على جزيرة جربة واحتلالها. انتهت هذه الحرب سنة 1794 بهزيمة الوالي العثماني وهروبه لمصر وتنصيب حاكم موالي للمملكة التّونسيّة على طرابلس هو أحمد بيك القرمنلي. يضاف إلى ذلك انتصار باي تونس على الجزائر عام 1807، انظر رشاد الإمام، سياسة حمودة باشا في تونس منشورات الجامعة التّونسية، 1980.
|