صفحات من التاريخ

بقلم
وليد موحن
الهجرات المغربية إلى الأقطار المشرقية في الفترة المعاصرة «دراسة في الدوافع والأسباب»
 تقديم الموضوع
لم يحظ الوجود المغربي في الأقطار المشرقيّة بدراسات وافية تستجلي صفحات ضافية من الإسهامات المغربيّة في شتّى المناحي الحياتيّة وإضافتها النّوعيّة في العديد من الحقول خاصّة منها التّجارية والعلميّة، ودورهم الرّيادي في إنعاش الحقل الاقتصادي في بلدان المشرق العربي. فقد اتجهت معظم الأبحاث بخصوص الوجود المغربي في المشرق إلى دراسة الرّحلات الحجازيّة من حيث ظروف سفرها وأهمّ مراحلها وأماكن تجمعها وأهم حيثياتها، والى الفترة الحديثة التي واكبت الحضور العثماني في الأقطار المشرقيّة .كما سلّطت بعض الأبحاث الضّوء  عن الرّحلات العلميّة والبعثات الطّلابيّة التي اتجهت من القطر المغربي نحو القاهرة وفلسطين من أجل النّهل من يمّ العلم وتلقّي ضروبه في هذه البلدان التي عرفت طفرة علميّة في القرن التّاسع عشر ومطلع القرن العشرين، ممّا شجّع بعض المغاربة على إرسال أبنائهم إلى المشرق لتلقّي العلم  خاصّة من المنطقة الشّمالية(1) . 
دراسة في الأسباب الرّئيسية للهجرات المغربيّة
كان المغرب والمشرق منذ القرون الهجرية الأولى مصبّ تلاقح وتعاون وتعاضد، من رحلات مغربيّة جابت الأقطار المشرقيّة سواء من أجل النّهل من رحاب العلم أو التجارة مع أهل المشرق، أو الاستقرار في هذه البقاع، إضافة إلى دافع الجهاد ضدّ الغزو الصّليبي المسيحي، وزيارة مكامن وأقطاب الطّرق الصّوفيّة التي انتشرت في الأقطار المشرقيّة والمغربيّة وامتزجت بتأثيراتهما.
 لقد ارتبط المغرب بالمشرق ارتباطا دائما مستمرّا لوجود رابطة الدّين والثّقافة والحضارة، وكان المشرق أوّل الأمر هو المصدر الوحيد لتوثيق دين الإسلام، قرآنا وسنّة، وفقها ونحوا، وغير ذلك ممّا له علاقة بعلوم الغاية، وعلوم الوسيلة والآلة.
وبانتشار العلوم الإسلاميّة والعربيّة، ورسوخها في المغرب أصبح المغرب يُصدر العلماء والمربّين إلى المشرق، ويُسهم في استمرار وازدهار الحياة العلميّة، والثّقافيّة والرّوحية في تلك الرّبوع، دون أن يستغني عن الأخذ والإفادة من كلّ هامّ وجديد.
وكان للمغاربة الأثر الكبير في المشرق حيث لعب البعض منهم أدوارا طلائعيّة مثل بعض المغاربة الشناقطة من نظير الحافظ محمد ابن جعفر الكتّاني، والحافظ ابن شعيب الدّكالي، والحافظ أحمد بن الصّديق، والدّكتور محمد تقي الدّين الهلالي (2) ، الذي امتد أثره إلى الهند(3)، حيث تتلمذ عليه المصلح الهندي الكبير أبو الحسن النّدوي الحسني.
ومن المواضع التي اتجه إليها المغربيّون اتجاها عظيما ومسهبا بلاد الحجاز موطئ بيت اللّه الحرام ومرتع أداء الحجّ ومناسكه والأخذ بالبركات ،ومدينة القدس ذات الطّابع الدّيني،ومصر قطب التّجارة ومركز العلم وجامعة الأزهر الذائعة الصّيت.
وبانتقال المغاربة إلى هذه الأقطار أثّروا وتأثّروا وأخذوا وأعطوا من خلال نماذج بيّنة طبعت مسار الوشائج القائمة بين أرض المشرق والمغرب .
(1) دوافع   علمية
بما أنّ بلاد المشرق كانت قبلة العلوم ومنبع التّأثير في بلاد المغرب الإسلامي، فإنّ رباط المغاربة على مراكزها العلميّة، وشدّهم الرّحال إليها لم يكن أمرا مستغربا، وكانت هنالك ثلاثة مراكز علمية رئيسيّة يقصدها طالبو العلم من وإلى بلاد المشرق، وهي بلاد الشّام وخاصّة بيت المقدس، وبلاد مصر وخاصّة الأزهر الشّريف، وبلاد الحجاز وخاصّة المدينة ومكّة. فقد مثّل حبّ المغاربة للعلم وحرصهم على استقائه من مختلف مصادره عنصرا محفّزا على هذه الهجرة ،ذلك أنّ القاهرة  كانت المركز الثّقافي  الأساسي في المشرق العربي، فضلا عن رسوخ الأزهر كمؤسّسة علميّة رائدة وهو ما أسهم في تعزيز الإقبال المغربي عليها، حيث حرص الحجّاج المغاربة على إطالة مقامهم في القاهرة لمتابعة دراستهم على يد أبرز المشايخ  للحصول على إجازة تتيح لهم التّدريس في بلادهم .واختار بعضهم الإقامة نهائيّا وهؤلاء دعّموا الرّواق  المغربي الذي سيصبح منذ بداية القرن الثامن عشر أكبر أروقة الأزهر .
كما تذكر المصادر أنّ الطّبيب المغربي عبد القادر بن شقرون المكناسي، أشهر أطبّاء المغرب في النّصف الأول من القرن الثّامن عشر، اغتنم فرصة قيامه بمناسك الحجّ ليدرس الطّب على يدي الطّبيب أحمد زيدان في مصر .
ولا ننسى أنّ أرض الشّام ومصر كانت أرض علم وثقافة خاصّة مع عصر النّهضة العربيّة التي قادها جهابذة من طينة رشيد رضا ورفعة رافع الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومن سار على نحوهم ولفّ لفهم .
لقد شكّل هذا المعطى العلمي بوابة للمغاربة من أجل أن يحبروا منه، خاصّة أن الوضع الثّقافي والعلمي في المغرب كان يرزخ تحت نير التّقليد والعلوم النّقلية، ناهيك أنّ  المشرق كان محبّذا من طرف المغاربة لتشابه الدّين والعادات والتّقاليد عكس من اتجه من نفر المغاربة نحو الأصقاع الأوروبية، فلقد ظلّ أغلب العلماء متمسّكين بمواقفهم المحافظة، ومناهضين لأيّة مبادرة تحديثيّة منبعثة من آفاق غريبة، وكانوا يرون في عادات الأوروبيين ومن يأخذ عنهم أو يشتبه بهم بدعا ينبغي محاربتها، وكان من الطّبيعي أن لا ينظر العلماء بعين الارتياح إلى مجموعة الشّبان المغاربة العائدين من أوروبّا باعتبارهم درسوا في ديار الأجنبي، وعادوا حاملين لأفكار جديدة وعلوم دخيلة (4).
كان المغرب يعيش جمودا فكريّا وترديدا لما ورد في الكتب الفقهيّة والنّحويّة والصّرفيّة دون الإقدام على أيّ تجديد، مع تراجع دور جامعة القرويين التي حافظت على مناهجها التّدريسيّة القديمة دون الانفتاح على الثّقافة العصريّة. ومع تطوّر العصر كان من الضّروري توفير شروط مناسبة لحصول طفرات أو قطائع داخل الأفكار السّائدة. لقد كان المغرب خلال هذه الحقبة في فترة مخاض يتساءل من خلالها عن مصيره، كان يوجد في مفترق الطّريق بين ماضٍ تداعت أسسه وحاضر لم يستقرّ له القرار، ومستقبل تبدو مسالكه مجهولة، وهكذا ألقيت على الضّمير المغربي أسئلة كبرى في هذا المجال.
هذه الأسئلة وجدت لها أجوبة في نصوص الإصلاح النّهضوي التي تبلورت في مصر والشّام، والتي ساهمت في عمليّة الإخصاب الأولى الفاعلة في ثنايا الثّقافة العربيّة المعاصرة، فكانت تلك البؤرة المركزيّة الأولى الجاذبة لمنتوجات النّهضة العربيّة (5). 
لهذا ظلّت الصّلة الوثيقة بين المشرق والمغرب قائمة على التّفاعل والإفادة المتبادلة بفضل رحلات طلب العلم التي استمرّت بين المغرب والشّام وان قلّت في الاتجاه المعاكس، وذلك بغية النّيل من ينابيع المعرفة والسّماع من كبار العلماء والمفكّرين ومجالستهم ومناقشتهم فيما كان يعرض عليهم من مسائل علميّة وقضايا معرفيّة، ويبدو أنّ التّقاليد كانت تؤثر السّماع من أفواه  العلماء على قراءة كتبهم ...فكان المتعلّمون(6) يلتمّسون مشافهة الرّجال والاتصال بهم شخصيّا وكانوا يفتخرون بذلك ويتباهون، وتزخر كتب التّراجم والرّحلات والفهارس سواء المغربيّة أو الشّامية بجانب مهم من هذا التّواصل.
(2) دوافع  تجاريّة
 كان المغاربة منذ زمان مولعين بالتّجارة حيث امتدّ نشاطهم إلى كثير من مناطق البحر المتوسط وخارجه، فاستوردوا البضائع من الهند والشّرق الأقصى وموانئ شبه الجزيرة العربيّة والموانئ العثمانيّة، وصدّروها إلى أوروبا. وبمرور الوقت، اتخذ التّجّار المغاربة من الإسكندريّة محطّة أساسيّة لهم، فأنشؤوا فيها الوكالات والمخازن واستأجروا أخرى لتخزين السّلع التي يجلبونها، وارتبطت حياة الكثير منهم بالمدينة، وبدؤوا يكوّنون تنظيماتهم فيها، ويلعبون دورهم في بنيتها الحضريّة والإداريّة والاقتصاديّة.
وقد كان بعض الحجّاج المغاربة عند وصولهم الى مصر يعقدون بعض الصّفقات مع تجّار القاهرة الذين كانوا يقومون بتزويدهم  ببضائع لبيعها في الحجاز، على أن يحصلوا على نسبة 10 في المائة من الأرباح دون احتساب رأس المال والمصاريف ولذلك، وجد عدد ليس بالقليل من الحجّاج المغاربة أنفسهم وقد انخرطوا في التّجارة المصريّة المربحة، وما لبثوا أن فضّلوا البقاء في مصر من أجل مواصلة النشاط التجاري المربح.
وفي هذا الباب يقول المؤلف الفرنسي «روجي لوطورنو» في كتابه الذّائع الصّيت «فاس قبل الحماية» عن الفاسيين الذين اتجهوا نحو أصقاع المشرق من أجل التّجارة المربحة: «لم يكن الفاسيّون يشعرون بالغربة،يجدون فيها عادات كعاداتهم ولغة قريبة من لغتهم ومساجد وحمامات وأهمّ الأشياء التي اعتادوها لكنّهم كانوا مدفوعين أيضا بشيطان التجارة» (7) 
وينبغي تسجيل حقيقة في هذا الصدد هو أن تلك السّلع التي تاجر فيها المغاربة في مصر على سبيل المثال (البنّ والتّوابل خاصّة)إنّما كانت تمثّل السّلع الأساسيّة سواء في علاقة مصر التّجاريّة مع الخارج أو في دورها كمنطقة عبور للطّريق التّجاري القادم من الشّرق الأقصى إلى المناطق الجنوبيّة من أوروبا.
وكان من الطّبيعي إن يمكّن هذا الدّور المغاربة من تكوين ثروات طائلة وضعتهم في مكانة اجتماعيّة متميّزة، ولا مبالغة  إذا ما أقررنا الحقيقة بأنّ التجار المغاربة وقتئذ كانوا يشكّلون العمود الفقري للطّبقة البرجوازيّة  في مصر (9). ويبدو ذلك من خلال ما ذكره الجبرتي من أنّه كلّما احتاجت  السّلطة في مصر الى المال كانت تتّجه  إلى التّجار المغاربة للحصول عليه (10). 
كما كان لعامل الفاقة والضّعف والفوضى والاضطرابات التي عرفها المغرب دور في الهجرة إلى المشرق، فمع توالي الأوبئة والمجاعات فرّ المغاربة إلى أرض المشرق، حيث تشير المصادر إلى موت أعداد ضخمة من أهالي فاس ومكناس وفرار أعداد كبيرة  باتجاه المشرق خلال مسغبة القرن الثّامن عشر ومطلع القرن التّاسع عشر، وفي هذا الباب يقول القادري عن هذه الفاقة «إنّ ثلثي دور فاس خلت، أما لهلاك أصحابها أو لفرارهم» (8) 
(3) دوافع  دينيّة
منذ الفتح الإسلامي لبلاد المغرب غدا المشرق العربي قبلة أنظار أهل المغرب، ومهوى أفئدتهم، ففيه حجهم وفيه الكعبة المشرّفة وقبر النبي محمد ﷺ، وكل المواقع  التي عرفتها الرّسالة الإسلاميّة في مطالع انتشارها. وقد كان المغاربة أيضا يقصدون المزارات الأخرى كالمسجد الأقصى وقبور الأنبياء والصّحابة والصّالحين. وفي كثير من الأحيان كان الحاجّ المغربي يمني النّفس بالوفاة في البقاع المقدسة(11). كما حوت  مصر على أرضها جامع الأزهر، الذي حظي بمكانة دينيّة وعلميّة مرموقة ، واستقطب عددا من الجاليات المسلمة، من أجل طلب العلم. وكان المغاربة على رأس هذه الجاليات. يظهر ذلك من خلال رواق المغاربة الذي كان أكبر أروقة الأزهر، كما كان مرجعيّة مالكيّة في الأزهر الشّريف.
ودون الخوض في قافلة الحجيج التي كانت تقطع المشرق وحبر عليها الجم الكثير من الكتابات والتي في الغالب الأعم وضعت المشرق في قالب ديني محض.
    لقد ساهم المغاربة في كلّ الحقول والميادين وشاركوا في إنعاش الحياة الثّقافيّة والعلميّة والتّجاريّة والاقتصاديّة وحتّى السّياسيّة منها في أرض المشرق، من خلال تصدّيهم للعلم والثّقافة وإعلائهم راية العلم والفكر كما عهد عليهم منذ أقدم العصور، وكذا ريادتهم في روافد التّجارة حتّى بلغوا فيها عتيا، وأضحوا ذوي مكانة معتبرة في رحابها، بل إنّهم أثّروا وتأثّروا في ثنايا السّياسة وخضمها .
على سبيل الختام
لقد تعدّدت وتنوّعت الأسباب التي دفعت المغاربة إلى الالتحاق بأرض المشرق بين دوافع علميّة ورغبات ذاتيّة ونزوعات دينيّة وغايات تجاريّة لازالت في حاجة ماسّة إلى الدّراسة والتّنقيب والبحث، بكونها تُعدّ مواضيع خصبة قد تبوح بعدّة إشكالات جوهريّة  ومحوريّة .
فلا غرو أنّ المغاربة أعطوا الشّيء الكثير في مجموعة من المراقي العلميّة، وأسهموا بصورة يانعة وراقية في مجمل المناحي العلميّة والحياتيّة في الأقطار المشرقيّة مشعلين جذوة العلم والثّقافة في رحاب المشارق الوارفة، وكذا جوّ التسامح  الذي امتازت به الأقطار المشرقيّة خاصة مصر والحجاز.
الهوامش
(1) Benaboud (M’hamed), Les missions culturelles de Tétouane au moyen orient : La mission à Naplouse (1928- 1931) et les missions au Caire (1938) in Elites et pouvoir dans le monde arabe pendant la période moderne et contemporaine, CERES, Tunis, 1992, p 61.
(2) محدث ولغوي وأديب وشاعر ورحالة سلفي ظاهري مغربي، يعد أول من أدخل الدعوة السلفية إلى المغرب بعد أبو شعيب الدكالي ومحمد بن العربي العلوي .زار مجموعة من الاقطار المشرقية،وكانت له مكانة علمية ريادية .
 (3) عبد المولى الهراس ،»إتحاف ذوي العناية»الشيخ العلامة محمد العربي العزوزي ،مجلة دعوة الحق،العدد 313 ،الربيع الاول ،1416 ،غشت شتنبر 1995 ،ص 234 
(4) جمال حيمر، البعثات التعليمية في عهد السلطان مولاي الحسن، منشورات الزمن مطبعة بن ازناسن، سلا، 2015، ص135 
(5) اليقظة العربية أو النهضة العربية مصطلح تاريخي يعود إلى حركة التي عمت الأقطار المشرقية في القرن التاسع عشر وفحواها تنبه العرب إلى ماضيهم، وإدراكهم واقعهم المتخلف، وسعيهم لإحياء الماضي بما فيه من أصالة وتراث عربي إسلامي، والعمل على تجاوز التخلف من أجل بناء مستقبل أفضل ،وقد تزعمها فطاحلة وعلماء أفذاذ ومفكرين عظماء من طينة :جمال الدين الافغاني ،رشيد رضا ،محمد عبده ،بطرس بستاني وغيرهم الكثير ،وقد انعكست أفكارهم على المغاربة من نظير أبي شعيب الدكالي .
(6) نور الدين أغوثان ،جوانب من التواصل  الفكري بين المغرب والشام خلال النصف الأول من القرن العشرين،دورية كان التاريخية،السنة العاشرة،العدد الخامس والثلاثون،مارس 2015 ،ص 43 
(7) روجي لوطورنو ،فاس قبل الحماية،ترجمة محمد حجي ،محمد الاخضر ، منشورات  الجمعية المغربية للترجمة والتأليف والنشر ،دار الغرب الاسلامي ،الجزء 1 ،بيروت ـلبنان ،ص 243 
(8)  المرجع نفسه ،ص 244 
(9) حسام عبد المعطي ،المغاربة في مصر خلال القرن الثامن عشر ،منشورات مكتبة الاسكندرية ،2016 ،ص 43 
(10)  نفسه ،ص 44 
(11) حسن الصادقي،الوجود المغربي بالمشرق من خلال كتب التراجم المشرقية،مجلة المناهل،العدد 38،دجنبر،1989ص 296 .