الأولى

بقلم
فيصل العش
فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَار
 (1)
نعيش هذه الأيام كسائر الشّعوب والدّول حالة من الجزع والهلع والانتظار، ونوعا من اللاّحياة خوفا على الحياة، إذ أُغلقت المدارس والجامعات ودور العبادة من مساجد وكنائس وبيع وأوصدت المسارح والملاعب أبوابها، وأُلغيت المهرجانات والمؤتمرات، وتوقّفت حركة النّقل جوّا وبحرا وبرّا، وخلت الشّوارع من النّاس، وتهاوت الأسواق الماليّة، وأُعلنت حالات الطّوارئ في أنحاء العالم شرقا وغربا، شمالا وجنوبا. مشهدٌ تراجيديٌّ مليءٌ بالرّعب لم يعشه العالم من قبل، لكنّه صار اليوم مألوفاً، إنّها الحرب على فيروس كورونا، عدوّ صغير الحجم لا يمكن رؤيته بالعين المجرّدة. وبالرّغم من أنّ كلّ المعطيّات تفيد بأنّ هذا الفيروس أقلّ فتكاً وخطراً من الأوبئة القاتلة التي تفتك بحياة النّاس يوميّاً في أفريقيّا وآسيا فضلاً عن ضحايا المجاعات والحروب الأهليّة والكوارث الطبيعيّة والمناخيّة، إلاّ أنّه استطاع في وقت قصير أن  يشلّ حركة الإنسان ويحوّل العالم إلى مناطق معزولة مغلقة يحكمها الخوف والترقّب.
نتيجة للتّطوّر العلمي والتّكنولوجي، اعتقد الإنسان – خاصّة في الدّول العظمى - أنّه تغلّب على الأمراض والأوبئة وألغى أبعادها المأسويّة من ألم وعجز وأنّه أصبح يعيش أفضل حالاته، بل ذهب إلى التّفكير في كيفيّة التّغلّب على الموت نفسه. لكن بظهور هذا الفيروس واكتشافه، انقلب كلّ شيء على عقبه، وأصبح العالم كلّه على شفى جُرُفٍ هارٍ. وقفت الإنسانيّة عاجزة أمام تفشّي هذا الفيروس وفتكه بالنّاس. لقد كشف هذا المخلوق الذي لا يُرى بالعين المجردة عجز الإنسانيّة وضعفها وفتح الباب على مصراعيه لمراجعة كلّ القناعات المبنيّة على قدرة الإنسان الخارقة وسيطرته على الكون بما فيه. فما هي أسباب ظهور هذا الوباء وما هي تأثيراته المستقبليّة على البشريّة جمعاء؟
(2) 
لن نتحدّث عن الأسباب البيولوجيّة لظهور الكورونا، فهذا من اختصاص البيولوجيّين، ولن نعيد على مسامع قرّائنا الأعزّاء سرد محطّات انتشار هذا الوباء وعدد المصابين والموتى، فقد امتلأت وسائل الإعلام بها فكان خبزها اليومي وموضوعها الرئيسيّ الذي عالجته طيلة الفترة الفارطة. لكنّنا سنحاول فهم ما حصل من خلال استقراء آيات القرآن الحكيم التي تتحدّث عن سنن اللّه في الكون، إنطلاقا من إيماننا بأنّ اللّه سبحانه وتعالى خلق هذه الأرض وسماءها وجعل فيها الإنسان خليفة «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً»(1) لإعمارها بعد أن علّمه الأسماء كلّها «وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا»(2)، وأنّه جعل فيها سننا وقوانينَ تمنع الفوضى. سنن في الأفراد، وسنن في الأمم، وسنن في الحياة كلّها لا تتبدّل ولا تتغيّر، وتأتي مجتمعة فيخضع البشر لها في حياتهم، وسلوكهم، وتصرفاتهم، وبناءً على هذه السنن تترتّب النتائج  من نصرٍ، أو هزيمةٍ، أو قوةٍ، أو ضعفٍ، أو عزّةٍ، أو ذلٍّ، أو غير ذلك، وفيها قال الله -تعالى- في القرآن الكريم: «فلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا»(3). وقال أيضا « سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا»(4)
فالحياة على وجه الأرض تسير حسب قوانين، إذا ما تمّ الإخلال بها (وهو ما يعبّر عنه في القرآن الكريم بالفساد)، فإنّ نتائجها تكون مدمّرة وتأثيراتها السلبيّة ستؤذي الإنسان المستفيد الأساسي بما في الأرض من نعم، إيذاء يشمل الإنسانيّة جمعاء «وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً»(5).
إنّ ما يحدث من كوارث وأوبئة ومفاسد، إنّما مرجعها إلى الإنسان الذي لم يحترم القوانين التي تحكم الطبيعة ولم يسع إلى الاستفادة من أنعم اللّه بالطرق المسموح بها، فاختلّ التوازن في الطبيعة. يقول الله سبحانه وتعالى «وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ»(6) ويتجسّد الكفر بأنعم اللّه في الفساد في الأرض وعدم المحافظة على التّوازن الطّبيعي أمّا لباس الخوف والجوع فيقع عندما تختلّ علاقة الإنسان بالإنسان وعلاقته بالطّبيعة.
كلّما ازداد جشع الإنسان وزاد ضرره للطّبيعة عاد عليه هذا الضّرر بالوبال والضّنك، تلك سنّة من سنن الله «قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ، إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (7).. لقد تسبّب الإنسان في تغيير مناخ الأرض نتيجة استهتاره وضخّه للغازات المضرّة في الغلاف الجوّي، فاختلّ توازن الطّبيعة وتعدّدت الكوارث واحترقت الغابات التي هي بمثابة رئة الأرض، فسلّط الله على الإنسان هذا الفيروس اللّعين، ليفتك بالرّئتين.. «فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ»(8) 
سنّة أخرى من سنن اللّه هي سنّة التّغيير، وفي بيان هذه السّنّة قال تعالى: «إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ» (9) وتفيد هذه السّنّة أنّ اللّه -تعالى- لا يغيّر حال قومٍ (فرد / جماعة / شعب / الإنسانيّة جمعاء) من الرّاحة والرّضا والرّخاء، إلى حال المشقّة والضّنك أو العكس، إلّا بتغيير القوم لِما في قلوبهم وأنفسهم. مادام الإنسان قريبا من اللّه، متواضعا أمام خالقه قائما بمهمّته (الخلافة) على أحسن وجه، داعيا إلى الإصلاح، فإنّ اللّه لن يغيّر الحياة الكريمة التي يعيشها بل يزيده من فضله «وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ» (10).  
أمّا إذا تكبّر الإنسان وطغى، فإنّ اللّه سبحانه يكون له بالمرصاد «وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ، الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ، فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ، فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ، إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ»(11)
ومن بين مظاهر التكبّر اعتقاد الإنسان أنّه سيطر على العالم كلّه، وأنّه - بتكنولوجياته الحديثة وعلومه المتطوّرة - استطاع أن يُخضع ما في هذا الكون لتحقيق رغباته ومطامعه، وأنّه اقترب أكثر من أي وقتٍ مضى نحو الخلود التّام، وبالتّالي لم يعد في حاجة إلى اللّه. 
لقد حوّل الإنسان نفسه « إلى سيّدٍ للكوكب بأكمله ورعبٍ للنّظام البيئي، وها هو يقف اليوم على حافة أن يصبح إلها، لا يستعدّ إلى الاستحواذ على الشّباب الخالد فحسب، بل وكذلك على القدرات الإلهيّة للخلق والتّدمير»(12) هنا يتدخّل اللّه ليذكّره بأنّه لا يمكن أن يكون إلها ولا حتّى نصف إله، بل هو مخلوق ضعيف «وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا»(13) وأنّ ضعفه حقيقة وجوديّة كامنة فيه. فيأتي أمر اللّه ليضع الإنسان وجها لوجه أمام ضعفه وقلّة حيلته.  يقول سبحانه وتعالى: « (حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا، أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» (14) 
لنأخذ مثالا آخر واضحا أمام أعيننا، لقد طوّر الإنسان طرق تنقّله، فاستغلّ الدّواب، ثمّ صنع السّيارة والقطار، ثمّ الطّائرة فالمكوك الفضائي، حتّى إذا ظنّ أنّه سيطر على الأمر وأنّ تنقّله أصبح بيده متى شاء وكيفما شاء، جاء أمر اللّه فكانت النّتيجة أنّه أصبح عاجزا عن الخروج من بيته، فمابالك بالسّفر من مكان إلى آخر. الرّسالة إذا موجّهة إلى الإنسان الذي يتفكّر ويأخذ العبرة ممّا يحدث. فما هي العبر وراء فيروس كورونا؟ 
(3) 
انتشار الفيروس ابتلاء عظيم ومؤلم ولكنّه ليس بالشرّ المطلق بل يحمل في طيّاته خيرا كثيرا للبشر إن هم اعتبروا وكانوا من العاقلين، ففي هذا البلاء درس وجودي ودلالات أهمّها:
- تذكير الإنسان بحقيقة قدرة الخالق وعظمته وحكمته مقابل ضعف الإنسان ومحدوديّة قدرته رغم وهم القوّة والمعرفة. فيدرك حجمه الحقيقي وحاجته إلى خالقه - إن كان يعقل ويتفكّر- فيتواضع أمام الوحي الإلهي ويزكّي نفسه ويعود إلى اللّه، معلّمه الأول، منيبا طائعا بعد أن استعمل قدرته العقليّة التي ميّزه اللّه بها «وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا» في الاعتداء على ذاته أوّلا (قهره لأخيه الإنسان / الظّلم / سلب حرّية الآخرين....) ثمّ على الطّبيعة وعلى الكائنات والمخلوقات التي سخّرها اللّه على هذا الكوكب..
إنّ مثل هذه الأحداث تدفع الإنسان إلى الفرار من اللّه إلى اللّه، إذ لا ملجأ ولا منجى منه إلاّ إليه. «فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ»(15) والفرار إلى اللّه أن يهرب الإنسان من الحيرة إلى اليقين ومن الضّعف إلى قوّة يستمدّها من خالقه، ليتجاوز حالة اليأس التي يعيشها وهو واقف لا يقدر على هذا الفيروس ولا يستطيع رده.
- الدّفع بالإنسان في لحظات عجزه إلى إحياء قيم التّراحم والتّضامن والتّعاون، فيتحوّل العالم كلّه إلى أسرة واحدة لا فرق بين عربي أو أعجميّ مادام المصير واحدا والخطر يتهدّدهم جميعا، فتتكثّف الجهود لإنقاذ بعضهم البعض. هذا الحادث يدفع الإنسان إلى أن يكون ذاتا خيّرة، تجعله يبذل المعروف والتراحم والتّضامن وتنمّي لديه الوازع الأخلاقي وتشعره بالمسؤوليّة وتدفعه إلى واجب الإنضباط.
(4) 
سوف يزول تأثير فيروس كورونا الصّحي مع الزّمن، وسوف تتجاوز البشريّة خطره مهما كانت الخسائر كما تجاوزت في السّابق أوبئةً وطواعينَ وحروبًا مدمّرة، لكنّ تأثيراته في المجال الاجتماعي والاقتصادي والسّياسي العالمي ستكون عميقة وخطيرة، حيث ستنهار أنماط وستتشكّل أخرى أو تعزّز وجودها وموقعها في حياة البشر، وسيشهد الجانب الوجودي للإنسان تحوّلات جذريّة، في أفكاره وأخلاقه وفي دينه أيضا. فماهي هذه التّأثيرات؟ 
يعلّمنا التاريخ أنّه بعد كلّ جائحة مدمّرة  تنهار الأنظمة السّياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة التي كانت قائمة، فتسقط نتيجة عدم قدرتها السّيطرة على المأساة وفشلها في منع الكارثة وحماية النّاس لتحلّ محلّها أنظمة جديدة مختلفة. إلاّ أن ذلك لن يحدث بسرعة وإنّما يحدث بعد الجدل الفكريّ والثقافيّ الذي سيفرضه الواقع.
فالطّاعون الأنطوني Antonine Plague الذي وقع عام 165م في ايطاليا ومعظم البلدان الرّومانية، تسبّب في بداية انهيار الامبراطوريّة الرّومانيّة كما تسبّب في انهيار المنظومة الدّينيّة للرّومان في ذلك الوقت بعد أن عجزت عن الاجابة على الأسئلة الوجوديّة التي طرحها النّاس وقد فتك بهم الموت من كلّ جانب وأذنت بصعود أسهم الدّيانة المسيحيّة لتصبح فيما بعد الدّيانة الرّسميّة للامبراطوريّة. 
وطاعون «جستنيان» الذي ظهر قبل ثلاثين سنةٍ من ميلاد الرّسول ﷺ أضعف الإمبراطوريتين البيزنطيّة والفارسيّة ضعفًا شديدًا ومهّد لانهياريهما معا على يد المسلمين بعد ستة عقود.
أمّا الطّاعون الكبير(Black Death) الذي اجتاح العالم بأسره في منتصف القرن الثّامن الهجري، وقتل من البشر الكثير في آسيا وأوروبّا(16) فقد تسبّب في زعزعة النّظام الإقتصادي القائم على الإقطاع، وقد صاحب ذلك انحسار كبير لتأثير الكنيسة التي اهتزّت سطوتها بعد أن كانت تهيمن على الحياة السّياسية والرّوحية. ممّا فتح الطّريق  أمام العقلانيّة الأوروبيّة التي أدّت إلى مرحلة النّهضّة.
ولهذا فإنّ العالم - نتيجة لانشار فيروس كورونا وتحوّله إلى وباء عالمي- قادم على تغييرات كبيرة على جميع المستويات، خاصّة على المستوى الاقتصادي والسّياسي، فمن المتوقّع انهيار المقاربة الرأسماليّة للدّولة ونظامها اللّيبرالي القائم على آليتي السّوق والدّيمقراطيّة وحماية الحقوق الفرديّة، ومن المتوقّع أيضا الانهيار السريع للأنظمة القائمة على الإقتصاد الرّيعي ومنها بطبيعة الحال الأنظمة العربيّة التي يقوم اقتصادها على النّفط والثّروات المنجميّة والسّياحة التي ستفقد حتما قيمتها السوقيّة نتيجة هذه الأزمة. 
لهذا سيحتدم - بعد مرور الأزمة - جدل إنساني في محاولة البحث عن نموذج اقتصادي أكثر استقرارا وعدالة من الاقتصاد المتوحّش الذي نعيشه اليوم والذي وصل نهاياته المنطقيّة الكارثيّة. سيكون الصّراع على أشدّه بين أولئك الذين سيدافعون عن الاقتصاد المعولم والسّوق الحرّة وجشع وول ستريت وبين الذين سيقترحون حلولا تحدّ من الفجوة بين الأغنياء والفقراء. 
العواقب الاستراتيجية لوباء كورونا ستكون هامّة أيضا، حيث ستسرّع الأزمة في انحسار المكانة العالميّة للولايات المتحدة الأمريكيّة التي هي بصدد التراجع منذ سنوات، وستفقد قيادتها العالمية لحساب أقطاب دولية أخرى قد تكون الصين أوّلها.
ومن النتائج المنتظرة بروز النزعات القوميّة في مختلف أنحاء العالم خاصّة في أوروبا ممّا سيؤدّي إلى إضعاف الاتحاد الأوروبي وربّما انهياره.  
أمّا عربيّا، فإنّ الفرصة ستكون– إذا ما تسلّم القيادة أهلها – سانحة للقطع نهائيّا مع التبعيّة واستغلال لحظة الوعي بأهمّية التّكافل والتّعاون بين النّاس التي فجّرتها أزمة الكورونا وبالتّالي الاتّكال على قدراتها الذّاتية لبناء اقتصادها ونظامها الاجتماعي. فالأزمة تلد الهمّة، ولا يتسع الأمر إلا إذا ضاق كما قال جمال الدين الإفغاني. 
ثقافيّا، سيتم البحث عن معان وجوديّة جديدة، عن معنى الإنسانيّة ومعنى الحياة وسيحتدّ الصراع مجدّدا بين التّيار الإنساني والتّيار المادّي، التّيار الإنساني الذي يبشّر بثقافة أخلاقيّة تضع جميع البشر في مقام المساواة الإنسانيّة الدّائمة مع بعضهم البعض وترى من الواجب القيام على شأن الضّعفاء وكبار السّن ( برّ الوالدين مثلا)، والتّيار المادّي القائم على الثّقافة المادّية البحتة التي انتشرت في القرون الوسطى وها نحن نراها اليوم تنتشر مرّة أخرى في بعض الدّول الأوروبيّة التي اكتسحها الفيروس، ثقافة تقوم على منطق البقاء للأصلح، والاعتناء بالقوّي (الشّباب) قبل الضعيف (المسنّنين) بما أنّ الانتاج مبنيّ على القوّي.
سيضعف أيضا دور الأديان بمفهومها التّقليدي وخطابها القائم على السلطويّة واستحضار الماضي، نتيجة فشلها المتوقّع في تقديم أجوبة مقنعة للأسئلة الوجوديّة التي سيطرحها الإنسان حتما بعد انتهاء الأزمة. ستكون فرصة لانتشار الإسلام عالميّا شريطة تجديد المسلمين لخطابهم ليكون أقرب إلى عقول النّاس وخاصّة الشّباب، فيكون خطابا عالميّا إنسانيّا بروح عصريّة، قائما على القيم الأخلاقيّة السّامية التي جاء بها القرآن كالتّعاون والتّآزر والأخذ بيد الفقير والمحتاج، فهل سيتحرّر القرآن من سجن التّفاسير القديمة ليلتحم بالواقع، فيجادله ويجيب على تساؤلات إنسان ما بعد الكورونا؟
يبدو أنّ الكورونا تمهّد لتقبّل نظام عالمي جديد، فهل سيكون هذا النّظام عادلا، تستعيد به البشريّة عافيتها، قائما على التّضامن بين الشّعوب في مواجهة الكوارث، جاعلا من المصالح المشتركة للدول عنوانا للعلاقات الدّولية أم سيكون نظاما استبداديّا في الدّاخل يستخدم التّكنولوجيا والذّكاء الاصطناعي لمراقبة الجماهير والتحكّم فيها وفي حاجياتها من غذاء ودواء وغيره ( كما حدث في الصّين وكوريا خلال الأزمة) وفي الخارج قائما على النّزعة المادّية القوميّة بحيث تحاول كلّ دولة السّيطرة على مواردها وموارد غيرها، في سباق محموم جديد، سيؤدّي إلى صراعات دمويّة لن تجني منها الإنسانيّة غير مزيد من الضنك.
الهوامش
(1) سورة البقرة - الآية 30
(2) سورة البقرة - الآية 31
(3) سورة فاطر - الآية 43
(4) سورة الفتح - الآية 23
(5) سورة الأنفال - الآية 25
(6) سورة النحل - الآية 112
(7) سورة آل عمران - الآية 165
(8) سورة الحشر - الآية 2
(9) سورة الرعد - الآية 11
(10) سورة هود - الآية 117
(11) سورة الفجر - من الآية 10 إلى 14
(12) العاقل ، تاريخ مختصر للنوع البشري – يوفال نوح هراري – ترجمة حسين العبري وصالح بن علي الفلاحي – نشر دار منجول للنشر – نيودلهي الهند – 2018 - ص495
(13) سورة النساء - الآية 28
(14) سورة يونس - الآية 24
(15) سورة الذاريات - الآية 50
(16)  يقدر عدد ضحاياه بمائتي مليون، وهذا عدد ضخمٌ مقارنةً بعدد سكان العالم المقدر وقتها بـ 475 مليون.