الافتتاحية

بقلم
فيصل العش
افتتاحية العدد 148

 تمرّ الأيام ويسير بنا قطار الحياة إلى الأمام ونحن في كلّ مرّة نصمد ونقاوم ثمّ نصمدونقاوم لعلّنا نظفر في ختام رحلتنا بإحدى الحسنيين. ونحن في كدحنا المستمر نتوقّف لحظات في محطّات عديدة لنستردّ الأنفاس ونجدد الزّاد ثمّ نعود إلى الكدح من جديد حتّى يأتي أمر الله ونلاقيه... «يا أيُّهَا اْلإنِسَانُ إِنَّكَ كادِحٌ َ إلى ِرَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ » (الإنشقاق - 6).

ومن بين المحطّات التي نتوقف فيها للتزوّد ذكرى ميلاد الرسول محمد صلى الله عليه وسلّم ... ففي الثاني عشر من ربيع الأول من كلّ عام تتجدّد ذكرى ميلاد المصطفى وفيها نتوقّف لبرهة من الزمن نرتوي من رحيق نبوّته المختوم حتّى يزول العطش ونتزوّد بما يكفينا لمواصلة الطريق الصعبة التي اخترناها طواعيّة من دون إكراه ولا إرغام.. طريق مليئة بالأشواك والآلام ولكنّها مليئة بالأحلام والآمال... طريق أنسنة الإنسان ونشر السعادة بين بني البشر أو على الأقل المساهمة في ذلك بما نستطيع وإن قلّ.
لقد أرسل الله سبحانه وتعالى محمّدا رحمة للعالمين .. مبشّرا غير منفّر ... ليتمّم مكارم الأخلاق وهل يسعد المجتمع الإنساني إلاّ بنشر مكارم الأخلاق؟ لقد بعثه الله ليضع اللبنات الأولى لمشروع أمميّ عالمي جوهره التّوحيد، لا يفرّق بين أبيض وأسود وأصفر وأحمر ويرتّب النّاس حسب أعمالهم لا حسب نسبهم وأموالهم. بعثه الله سبحانه ليقول للناس «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ » فلماذا يميّز بعضكم بعضا في الجنس واللون واللغة والدّين؟ وليقول لهم «إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأ نْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا » فلماذا لا نرى للتعارف والتآنس والعيش المشترك أثرا بين البشر؟
لقد بعث الله محمّدا مربّيا للبشرية من خلال سلوكه، فقد كان «قرآنا يمشي » و «كان خلقه القرآن » وكان برغم مقام نبوته متواضعا بسيطا يعيش مع الفقراء ويشاركهم جوعهم. كان في حياته عابدا، زاهدا، مجاهدا، وكان لا يأمر بخير إلا وكان سبّاقا لفعله . ما عرفت البشرية قائدا مثله، فكل القادة العظام في العالم يتّجهون إلى الحزم والتشدّد في فرض سلطتهم وإراداتهم إلاّ هو، فقد كانت الرّحمة والرّفق والحوار منهجه في معاملة أتباعه، ولا عجب فقد امتدحه الله تعالى بقوله: «وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ » ( القلم - 4). 
إن احتفالنا بذكرى مولد الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم لا يعني ترك ذكراه في باقي أيام العام فنحن في حاجة ماسّة إلى ذكر سيرته العطرة في كل لحظة وحين لأنه قدوتنا وقدوة كل مناضل من أجل كرامة الإنسان وحريته. 
إن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أهل لأن يعظم في سائر أيام السنة، وأن تذكر سيرته العطرة في كل لحظة، لأنه مبلغ رسالة رب العالمين التي تستمدّ أصالتها من القرآن الكريم، أصالةٌ يسعى الاستئصاليون لطمسها في حين أن الرسالة المحمدية ما تحققت إلا نتيجة ثقة في الآدمي وقدراته فاتحة بذلك آفاقا غير محدودة للبشرية .
القرآن نبوّة الرسول الخاتم ومعجزته ورسالته في آن واحد. وقد حفظه الله تعالى فانتشر بين الناس بالمشافهة والكتابة بما حفظه من التحريف. وهو نبع عظيم من المعاني المتجدّدة وكأنّه من كثرة تفاسيره والرغبة في تفاسير جديدة له يتنزّل على الناس مجدّدا في كل مرحلة. 
ذكرى المولد النبوي الشريف هي فرصة لشحذ الهمم والتزوّد بما يلزم لمواصلة مسيرة الإصلاح ...«إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ، وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ» ( هود - 88)