الأولى

بقلم
فيصل العش
مداخل الفساد الأربعة
 مقدّمة
استنتجنا في مقال سابق [1] من خلال استقراء الأصل اللّغوي لجذع «ف.س.د» والصّيغ المختلفة التي ورد بها في القرآن الكريم أنّ هناك فرقا لغويّا واضحا بين الفعل الثّلاثي «فسد» والرّباعي «أفسد» وأنّ النصّ القرآني استعمل اسم الفاعل من فعل «فسد» في صيغة الجمع وليس في صيغة الفرد إشارة إلى خطورة الفساد الجماعي ونتائجه المدمّرة مقارنة بالفساد الصادر عن الفرد، كما لم يستعمل مطلقا اسم الفاعل من فسد بصيغة «فاسد» وإنّما بصيغة «مُفسد»، فحضرت كلمة «مُفسدين» وغابت كلمة «الفاسدين» إشارة إلى أنّ الخطر الأكبر يكمن  في المُفسدين الذين يقومون بعمليّة الإفساد عن وعي وقصد. كما أنّ الفعلين «فسد» و«أفسد» وردا مبنيّين للمعلوم في كلّ السّياق القرآني، وهي دعوة صريحة إلى عدم التستّر على الفساد والمفسدين. 
وسنحاول في هذا المقال من خلال محاكاة الآيات القرآنيّة معرفة مداخل الفساد لعلّنا نهتدي إلى طرق غلقها وتحديد أولويّات تحرّك المصلحين في سعيهم الرّسالي لمقاومة الفساد ودحره.
مداخل الفساد
نستنتج من خلال القصص القرآني [3] أنّ مداخل الفساد كثيرة ويمكن حصر مداخله الرئيسيّة في أربعة: سلطة الحكم وسلطة الدّين وسلطة المال وسلطة الجهل. وقد عبّر ربّ العزّة في كتابه الكريم عن المداخل الثّلاثة الأولى بالظّاهرة الفرعونيّة والظّاهرة الهامانيّة والظّاهرة القارونيّة. أمّا المدخل الرّابع فيتعلّق بالشّعوب ومستوى وعيها وهو مدخل مغذّ للمداخل الأخرى لكنّه أيضا نتيجة لها.
1 - المدخل السّياسي المتمثّل أساسا في الإستبداد السّياسي أو ما يمكن أن نسمّيه بالظّاهرة الفرعونيّة : 
ورد ذكر فرعون، كرمز للاستبداد السّياسي والسّلطة، في القرآن الكريم 74 مرّة، وتحدّثت عنه الآيات أكثر ممّا تحدّثت عن الفرائض والعبادات، ممّا يدلّ على الأهمّية التي يولّيها القرآن لتبيان معنى الاستبداد السّياسي وخطورته وفضح أساليبه في الإفساد ومحاربة المصلحين. 
ومن مقومات الاستبداد أو الفساد السّياسي إدّعاء الرّبوبيّة والألوهيّة ويكون هذا الادّعاء مباشرا كما في حالة فرعون والنّمرود أوغير مباشر كما في الاستبداد الحديث. فأمّا الرّبوبيّة فتتجسّد في ادّعاء المستبدّ امتلاكه لكلّ شيء، البلاد وما فيها والعباد ومالديهم وهو يُحيي ويُميت وهو الذي يُعطي ويمنع. وانظر إلى قوله تعالى على لسان فرعون : «فَحَشَرَ فَنَادَىٰ* فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ»[4] وقوله: «وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي ۖ أَفَلَا تُبْصِرُونَ»[5]. وأمّا الألوهيّة التي يعبّر عنها قول الله تعالى: «وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي...»[6] فتتمثّل في فرض الطّاعة المطلقة للمستبّد على النّاس جميعا، فلا يتصرّف أحدهم حسب قناعته بل حسب ما يقرّره المستبدّ ويراه، «قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ»[7]. لذلك كان ردّ فرعون عنيفا عندما أعلن السّحرة إيمانهم بالله : «قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ»[8] وأنزل عليهم أشدّ العذاب «لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ» [9] لأنّه اعتبر فعلتهم تلك تحدّيا لألوهيته، حيث اتخذ السّحرة قرارهم بإرادتهم ولم يلتزموا بمعنى الألوهيّة المطلقة لفرعون. 
هذا الاستعلاء على البشر والتّكبّر والشّعور بالألوهيّة نراه جليّا في تصرّف العديد من المستبدّين في عصرنا الحاضر ونستنتجه من خلال الصّلوحيّات اللاّمحدودة التي يتمتّعون بها وطريقة حكمهم للبلاد التي تحت هيمنتهم، فسفك الدّماء وقتل النّفس البشريّة تجبّراً وطغياناً من أخصّ صفات هؤلاء المفسدين، فكم من مستبدّ قتل الآلاف من شعبه وهجّر الملايين ليستمرّ في الحكم، وكم من طاغية ملأ السّجون والمعتقلات بالأطفال والنّساء والرّجال لا لشيء سوى أنّهم طالبوا بحقّهم في لقمة العيش وفي حياة كريمة. 
يعتمد هؤلاء المستبدّون، الذين يمثّلهم فرعون أحسن تمثيل، سياسة «فرّق تسد» وهي سياسة فاسدة تتمثّل في بثّ الفتنة بين النّاس للتّفريق بينهم وتقسيمهم إلى طوائف وشيعا. يقول الله تعالى:«إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ»[10] 
ولأنّ المستبدّ لا يعير القوانين ولا مؤسّسات المجتمع، إن وجدت، أية أهمّيّة فإنّة يتصرّف حسب هواه لاغير. لا تحرّكه إلاّ رغباته الشّخصيّة، لهذا تراه مستعدّا لبيع البلاد وهلاك العباد من أجل تحقيق تلك الرّغبات وهو ما يخلق أرضيّة خصبة لانتشار الفساد بجميع أنواعه في مختلف مجالات الحياة وبين مختلف الشّرائح المجتمعيّة.  بل أنّ النّظام الاستبدادي عادة ما يغلّب الفساد على الصّلاح في الوظائف وأجهزة الدّولة وفي العلاقات الاجتماعيّة والاقتصاديّة من خلال طبقة من المؤيّدين (إيمانا به أو نفاقا له) أطلق عليها القرآن الكريم مصطلح «الملأ» كما في قوله تعالى:«ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ، إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ»[11]. تستمدّ هذه الطّبقة سلطاتها من سلطات الطّاغية، وتتمتّع بامتيازات لا يتمتّع بها أحد غيرها، ومقابل ذلك فهي تؤيّده في كلّ شيء وتنفّذ أوامره، فتنتزع من النّاس ما تشاء باسمه، وتزرع الرّهبة والخوف في قلوبهم باسمه وتقوم بالدّعاية لألوهيّته وربوبيّته «قَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَٰذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ، يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ»[12]. ولكي تحافظ على امتيازاتها، تعمل هذه الطّبقة جاهدة على تشجيع المستبدّ على ممارسة طغيانه وتخلق حوله حزاما استشاريّا يحثّه على محاربة المصلحين فتكون بذلك دافعا لمزيد من الإفساد، وهو ما يتجلّى من خلال قوله تعالى:«وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ۚ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُون»[13]
2 - المدخل الدّيني المتمثّل أساسا في الإستبداد الدّيني أو ما يمكن أن نسمّيه بالظّاهرة الهامانيّة : 
جاء ذكر هامان في ستة مواضع في كتاب الله، من خلالها يظهر لنا مقدار الصّلة الوثيقة والرّابطة القويّة بين هامان وفرعون، فقد ارتبط اسم هامان باسم فرعون في كلّ تلك الآيات، ممّا يدلّ على قوّة العلاقة بين هاتين السّلطتين، حيث كان هامان (السّلطة الدّينيّة) سنداً وعوناً لفرعون (السّلطة السّياسيّة). من بين هذه الآيات قوله تعالى: «وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُون»[14] وقوله: «وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءهُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ»[15] وقوله: «وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَاب»[16].
هامان هنا رمز للسّلطة الدّينيّة التي تختار الانحياز إلى السّلطة السّياسية، فتستغلّ الدّين لتبرير فساد الحاكم وملئه، ومقابل ذلك تستفيد من هذه العلاقة لتحافظ على مركزها وسلطتها. هامان هو كلّ «رجال الدّين» الذين وظّفوا الدّين عبر القرون، بوعىٍ منهم أو بلا وعى، لبناء مؤسسّات سلطويّة أمّنت لهم مكانة مرموقة فى الهرم المُجتمعى. يدّعون أنّهم حافظون لدين الله ومدافعون عنه بحكم اختصاصهم وهم بالتاّلي القادرون على مراقبة تطبيقه وعدم مخالفة أوامره ونواهيه، فيكرّسون بذلك مبدأ مرور الدّين من خلالهم في الاتجاهين: من الله إلى النّاس، ومن النّاس إلى الله. ولكن كيف ينطبق مفهوم «الهامان» على رجال الدّين المسلمين والحال أنّهم أنفسهم يقرّون بعدم وجود «رجال دين» أصلاً فى الإسلام؟. السّلطة الدّينيّة حقيقة وواقع ملموس في جميع المجتمعات الإسلاميّة، وسواء أنكر القائمون عليها بأنّهم «رجال دين» أم لا، فهم يمارسون من خلال المنظومة الدّينيّة السّائدة مهامهم بتلك الصّفة. وأغلب هؤلاء - إلاّ من رحم ربّك - في تحالف استراتيجي مع السّلطة السّياسيّة طوعا أو كرها وسلطتهم مدخل للفساد من بابين إثنين:
- ممارستها الاستبداد العقائدي بترسيخها للقناعات الجبريّة في أذهان النّاس وضمائرهم على أنّها جزء من العقيدة الإسلاميّة، وإقناعهم بضرورة السّمع والطّاعة لكلّ سلطة مهما كانت استبداديّة، وجعلهم يربطون كلّ ما يحدث بإرادة الله. ويركّزون في مهامهم هذه على تأويلات معيّنة للنّصّ القرآني وإلباسها لبوس القدسيّة ويعتمدون أحاديث نسبت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كالحديث الذي رواه مسلم عن حذيفة  بن اليمان وفيه ما فيه من الحثّ على قبول الظّلم، وتوفير المبرّر العقائدي للاستبداد، فقد حدّث حذيفة أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم قَالَ:«يَكُونُ بَعْدِي أَئِمَّةٌ لَا يَهْتَدُونَ بِهُدَايَ، وَلَا يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِي، وَسَيَقُومُ فِيهِمْ رِجَالٌ قُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الشَّيَاطِينِ فِي جُثْمَانِ إِنْسٍ، قَالَ : قُلْتُ : كَيْفَ أَصْنَعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ ؟، قَالَ : تَسْمَعُ وَتُطِيعُ لِلْأَمِيرِ، وَإِنْ ضُرِبَ ظَهْرُكَ، وَأُخِذَ مَالُكَ فَاسْمَعْ وَأَطِعْ»[17]. 
- ممارسة الإستبداد الفكري من خلال تكريس مبدأ علويّة فهم السّلف الصّالح والإصرار الشّديد على عدم إمكانيّة الاجتهاد في أمور قد حسم فيها منذ القرون الأولى، مرتكزين في ذلك على حديث آخر منسوب للرّسول صلّى الله عليه وسلّم تمّ تأويله في الاتجاه المطلوب وهو حديث عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود الذي جاء فيه أنّ الرّسول صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: « خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ، وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ»[18]. وقد جاء في تفسير النّووي أنّ «الصَّحِيحُ أَنَّ قَرْنَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الصَّحَابَةُ ، وَالثَّانِي : التَّابِعُونَ ، وَالثَّالِثُ : تَابِعُوهُمْ»[19]. وبهذه الأطروحة تحوّل رجل الدّين إلى ببغاء يكرّر ما قاله الأوّلون وممارسا لنوع من القهر والاضطهاد الفكري لكلّ فكر يسعى إلى التّفاعل المباشر مع كلام الله وعدم التقيّد بمفاهيم الأوّلين. فالسّلطة الدّينيّة، برغم تسامحها المفرط مع السّلطان في تجاوزاته، لا تتسامح مع المُفكّرين ﻷنّ «التّفكير» - وأقصد بذلك التّفكير الحُر والنّاقد- سيخترق منطقة الوعى الجمعى الموروث والمغروس فى عقل الفرد بحُكم التّنشئة والتّلقين، غير آبهٍ بالخطوط الحمراء، وهو ما يُهدّد مؤسسّات السّلطة الدّينيّة ورموزها ويؤدّى إلى تقويضها. لهذا تستعين بالسّلطة السّياسيّة لتثبيت موقعها.
3 - المدخل الاقتصادي المتمثّل أساسا في ما يمكن أن نسمّيه بالظّاهرة القارونيّة :
قارون هو رمز لصاحب المال المتوحّش وعرفه الله سبحانه بفحش الغنى في قوله: «وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ»[20] وبأنّه يتصرّف من منطلق شخصي أناني وليس من منطلق الوطنيّة أو القوميّة في قوله: «إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ»[20]. إنّه رمز للغنى الاحتكاري من جهة والإسراف من جهة أخرى، فهو يجمع بين الثّراء والتّرف وهما وجهان للفساد فى الأرض، ويتجلّى ذلك فى قوله تعالى: «فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ»[21] ونظام الآية يدلّ على الصّلة الوثيقة بين الظّلم والإجرام وبين التّرف، فالظّلم والإجرام ينشآن فى بيئة الثّراء والتّرف، ومن ثمّ يؤول الأمر إلى الفساد فى الأرض.
قارون هو صاحب رأس المال الذي سمته البغي على الآخرين، البغي على الدّولة ومؤسّساتها بتهرّبه من دفع الضّرائب التي عليه أو الاشتراك مع مؤسّسات أجنبيّة للقيام بأعمال اقتصاديّة على حساب المصالح الوطنيّة لدولته، والبغي على العمّال الذين يشتغلون لديه بعدم تمكينهم من مستحقّاتهم واستغلالهم وعدم الإحسان إليهم، والبغي على آخرين بظلمهم وغصبه لممتلكاتهم - كما يصنع طغاة المال في كثير من الأحيان - وربّما بغى عليهم بحرمانهم حقّهم في ذلك المال أي حقّ الفقراء في أموال الأغنياء، كي لا يكون دولة بين الأغنياء وحدهم وحولهم محتاجون إلى بعض منه، فتفسد القلوب، وتفسد الحياة.
ويتحالف قارون مع الحاكم المستبدّ ويدعّمه بالمال ويشاركه محاربة الإصلاح والمصلحين حتّى يحافظ على موقعه وثرواته، ويستغلّ قربه من السّلطان ليزيد في بغيه على الآخرين. إنّ الظاهرة القارونيّة المنتشرة بكثرة في الدول العربيّة الاسلاميّة في عصرنا الحاضر هي التي تجسّد المدخل الاقتصادي لآفة الفساد.
4 - الجهل: يعتبر انتشار الجهل في مجتمع ما مدخلا رئيسّيا لآفة الفساد، فهو يساهم بصفة كبيرة في انتشارها وإيجاد حاضنة ذهنيّة لها بين مكوّنات المجتمع نتيجة غياب الوعي والحكمة لديها، ذلك أنّ بارونات الفساد سواء السّياسي أو الدّيني أو الاقتصادي يجدون سهولة كبرى في إقناع الجاهلين بآرائهم وأفعالهم ويصوّرونها للجميع كونها إصلاحا وليس فسادا، يقول تعالى : «قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ»[22] وقوله:«فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ»[23]. بل أنّ هؤلاء المفسدين لا يجدون صعوبة في قلب الأدوار في أذهان الجاهلين وتمرير اتهاماتهم للمصلحين بالفساد، فيسقطون صفة الإفساد عن أنفسهم، ويلصقوﻧﻬا بالمصلحين تنفيرا منهم وتحذيرا منهم كما في قوله تعالى: «وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَىٰ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ ۖ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ»[24]. ويكون بذلك الجاهلون الذين يفتقدون ملكة المحاكمة العقليّة،من دون قصد، سندا للمفسدين ومدافعين شرسين عنهم. 
وعندما ينتشر الجهل في المجتمع ويغيب الوعي، لا يجد الفساد الدّيني صعوبة تذكر في نشر العقائد والأفكار التي تحرّف الدّين وإصدار الفتاوى التي من شأنها أن تكرّس واقع الفساد وتبرّر فساد السّلطان وحاشيته. والتّاريخ الإسلامي مليء بالأمثلة والأحداث التي تؤكّد ذلك. فكلّما ارتفعت نسبة الجهل في المجتمعات تنتشر المفاهيم الدّينيّة البعيدة عن العقل والتأولات الخاطئة لما جاء به القرآن الكريم ولنا في الوقت الحاضر أفكار داعش وغيرها من الجماعات الدّينيّة المتطرّفة خير مثال، إذ يصبح عين الفساد إصلاحا بل جهادا في سبيل الله، فيصير قتل الأبرياء وإبادتهم واجبا لإقامة الخلافة الإسلاميّة وهتك أعراض النّاس من الطّوائف والدّيانات الأخرى أمرا بالمعروف ومحاربة للفتن.
وكما يستفيد المفسدون من جهل شعوبهم، يعملون جاهدين على الإبقاء على جهلهم عبر مقاومة دعاة العقل والعلم وتدمير المنظومات التّربويّة التي من شأنها أن تنتج أجيالا واعية، ولعلّ مثال ابن رشد كافيا لتوضيح  تحالف «فرعون» و«هامانات» تلك المرحلة للقضاء على أحد دعاة العقل والعلم الذي تأثّر به فيما بعد الفكر الأوروبّي تأثرا مباشرا وغدا نبراسا للقفزة الحضارية الأوروبيّة. ألم تحرق كتبه في شوارع قرطبة على يد «علمائها» وبأمر من وليّ الأمر آنذاك؟ ذلك مثال من أمثلة كثيرة عن الفساد المعرفي الذي مارسه ما يسمّى بعلماء قرطبة (رجال الدّين) بمباركة من وليّ الأمر الذي لم يكن سوى أحد المفسدين الذين مهّدوا لسقوط الأندلس إلى الأبد. أمر لم يكن ليحدث لولا انتشار الجهل في صفوف النّاس. وخلاصة الأمر أن الجهل مدخل مهمّ للفساد باعتباره أحد دوافع المرء إلى الإفساد وهو في نفس الوقت أداة طيّعة من أدوات الفساد وسلاح فتّاك يستخدمه المفسدون لتحقيق مآربهم والمحافظة على مصالحهم.
الخاتمة
نستطيع من خلال التدقيق في مداخل الفساد أن نضع الخطوط الكبرى لوصفة الدواء من هذا الدّاء والتي يمكن اختزالها في النقاط الأربع التالية :
- أن يكون الدّفاع عن الحرّية والاستماتة في مقاومة الاستبداد مبدأ استراتيجيّا لكلّ المصلحين.
- أن يكون تحرير التفكير في الشأن الدّيني من أولويّات المصلحين مع العمل بجهد على تفكيك العلاقة المؤسساتيّة بين الدّيني والسّياسي عبر ضمان استقلاليّة الباحثين في الشأن الدّيني عن كلّ سلطة سياسيّة من جهة وتحرير الدّين من كلّ سلطة تعتبر نفسها متحدّثة باسمه ومدافعة عنه من جهة أخرى.
- التفكير في منوال للتّنمية ونظام اقتصادي يحارب الإسراف ويمنع أيّ تحالف بين السّياسيين وأصحاب رأس المال، بعيدا عن الليبراليّة المتوحّشة التي لا تضمن إلاّ مصالح رأس المال حتّى لو كان على حساب الوطن والشعب.
- محاربة الجهل والسعي إلى إرساء منظومة تربويّة وتعليميّة تنمّي ملكة التّفكير والبحث وتقاوم الاستنساخ وأسلوب التّلقين.
إنّ غلق مداخل الفساد هو قضاء مبرم عليه، وهذا الغلق لا يتمّ برفع شعارات مقاومة الفساد أو وضع القوانين الرّدعيّة لمحاكمة كلّ من أفسد أو أعان على الفساد فقط وإنّما بالعمل على بناء أرضيّة صالحة للحرب ضدّ الفساد عبر تحقيق النّقاط الأربعة التي سبق ذكرها.
الهوامش: ‏
[1] انظر مقالنا: «مفهوم الفساد والمفسدين في القرآن الكريم»، مجلّة الإصلاح العدد 137 ديسمبر 2018  
[2] سورة الروم - الآية 41.
[3] يمثّل القصص القرآني أكثر من ثلثي القرآن الكريم وهو بالنسبة لنا ليس سردا للتاريخ بل تفسيرا له وإرشادا لاسقراء قوانينه.
[4] سورة النازعات - الآيتان 23 و 24.
[5] سورة الزخرف - الآية 51.
[6] سورة القصص - الآية 38.
[7] سورة غافر - الآية 29.
[8] سورة الأعراف - الآية 123.
[9] سورة الأعراف - الآية 124.
[10] سورة القصص - الآية 4.
[11] سورة المؤمنون - الآيتان 45 و 46.
[12] سورة الأعراف - الآيتان 109 و110.
[13] سورة الأعراف - الآية 127.
[14] سورة القصص - الآية 6.
[15] سورة العنكبوت - الآية 39.
[16] سورة غافر - الآية 36.
[17]  صحيح مسلم - كِتَاب الْإِمَارَةِ - ح 3441 
[18] رواه البخاري (2652) ، ومسلم (2533) 
[19] شرح النووي على مسلم (16/85)
[20] سورة القصص - الآية 77.
[21] سورة هود - الآية 116.
[22] سورة غافر - الآية 29.
[23] سورة الزخرف - الآية 54.
[24] سورة غافر - الآيتان 25 و26.