الافتتاحية

بقلم
فيصل العش
الافتتاحية
 في مثل هذا الشهر من سنة 2010، بلغ الاحتقان لدى التونسيين مبلغا غير مسبوق، ممّا دفع أحد الشّباب إلى أن يشعل النّار في جسده رفضا للقهر والتّسلّط، فاشتعل فتيل الثّورة من سيدي بوزيد لينتشر في مدّة قصيرة في كامل أرجاء البلاد كما تنتشر النار في الهشيم. كانت أيّاما عصيبة سقط فيها عدد كبير من الشّهداء والجرحى خاصّة من الشّباب الذي فقد الأمل في العيش بكرامة في ظلّ عصابة حاكمة تسيّر دواليب الدّولة بالرّشوة والمحسوبيّة والفساد، فخرج في شوارع المدن رافعا شعاره «التّشغيل استحقاق يا عصابة السّرّاق» و«خبز وماء وبن علي لا»  ممّا حدا بالطّاغية بن علي إلى مغادرة البلاد هربا من انتقام المظلومين والمقهورين، فكان الإعلان يوم 14 جانفي عن انتصار الثّورة وايذانا لبداية تمرّد بعض الشّعوب العربيّة الأخرى في محاولة لتغيير أنظمة الحكم الفاشيّة التي تحكمها.
وبمعزل عن نتائجه، فإنّ ما حدث كان لحظة فارقة في تاريخ الشّعوب العربيّة وإشارة إلى أنّ الأنظمة الكليانيّة التي تستمدّ شرعيتها من الزعيم الأوحد وتعتمد على الجيش وأجهزة الأمن بمختلف أشكالها من جهة وعلى الولاء للقوى الدّولية الأجنبيّة من جهة أخرى لتركيز نظامها، لم يعد لها موقع لا في التاريخ ولا في الجغرافيا، وأنّ زمن الحكم الفردي قد ولّى وانقضى. ومهما حاول أعداء الشّعوب العودة بعقارب السّاعة إلى الوراء (مصر نموذجا) فإنّ الفشل سيكون مصيرهم طال الوقت أم قصر. فالعالم تغيّر بشكل كبير وعلى الجميع أن يفهم اللّحظة التي نعيش.
غير أنّ ما حدث خلال السنوات التالية للثّورات العربيّة لم يكن في ظاهره لصالح الشّعوب الثّائرة، فالحياة أصبحت لا تطاق في بعض الدّول نتيجة الصّراعات المدمّرة كالتي تحدث في سوريا وليبيا واليمن، والعيشة غدت ضنكا في دول أخرى كتونس حيث غلاء المعيشة وتعقّد الوضع الاقتصادي وغياب الاستقرار السّياسي الذي بدونه لا تستقيم الأحوال. لم تنجح الحكومات المتتالية في تغيير الوضع نحو الأفضل بل حصل العكس والسّبب يعود إلى طبيعة النّخبة التي لم تكن في مستوى اللّحظة التاريخيّة وطموحات شعوبها، وعوض أن تعكف على البحث عن حلول لمشاغل النّاس والمجتمع استغلّت وقتها في تصفية حسابات قديمة سياسية وايديولوجيّة لا ناقة للشّعب فيها ولا جمل، وعوض أن تربط الجسور مع الشّعب لتوجيهه نحو الصّبر مع العمل والبناء ويكون شريكا في التغيير والتّنمية، عمدت بعضها إلى استغلاله كقوّة ضغط على منافسيها من خلال تكريس المطلبيّة والتمرّد على الدّولة وتعميق الإحساس بغياب الأمل في الإصلاح في حين عمدت أخرى إلى الاستقواء بالخارج ظنّا منها أنّ القوّي الذي سيفوز في النهاية هو من يتكئ على القوى الدّولية وليس على الشّعوب وأنّ بقاءه في السّاحة مرهون برضاء ما يسمّى بالدّول الكبرى، فالبعض وجّه قبلته نحو فرنسا وآخرون نحو ألمانيا والبعض الآخر نحو بريطانيا أو أمريكا، متناسين أنّ القوّة الحقيقية تكمن في الشّعوب وليس في غيرها وأنّه لا أمل في النّجاح والتنمية من دون تشريك الشّعوب .
ما يحدث في تونس، أيقونة الثورات العربيّة، هذه الأيام  لا يبشّر بخير، خاصّة ما نعيشه من تصادم واحتقان في السّاحة السّياسية بلغ مستوى تحوّل البعض فيه من التّلميح إلى التّصريح ومن التّصريح إلى الفعل في اتّجاه تصفية خصومه السّياسية بوسائل تذكّرنا بما عشناه في ظلّ نظام بن علي، وكذلك ما نراه من قطيعة بين الشّعب والنّخب الحاكمة أو المعارضة على حدّ سواء  بلغت ذروتها في توجّه بعض النّخب إلى طرح مسائل لا تهمّ المواطن في الوقت الرّاهن في محاولة لسنّ قوانين في غير وقتها قد تحرج منافسيها وتربكهم، فالشعب لا يفكّر إلاّ في الأمن ومواطن الشّغل وغلاء الأسعار وفقدان الأدوية وبعض المواد الغذائيّة الضروريّة أمّا ما يطرحه البعض من مواضيع وإن كان مضمونها مقبولا، فهو لا يصلح للحظة الرّاهنة ولا يزيد في الوضع إلاّ تأزّما.
فأين تريد هذه النخب في سيرها بالبلاد؟ وهل ستكون ذكرى الثّورة دافعا ليراجع هؤلاء مواقفهم فيوجّهون بوصلتهم نحو الشّعب ومشاغله وطموحات أبنائه؟ أمّ أن الوضع سيسير نحو مزيد من التأزّم قد يجلب الوبال على البلاد بأكملها؟
كنت في السّنوات الأولى متفائلا واليوم أصبحت متشائلا، وأرجو من الله أن لا أصبح في الغد متشائما وسأبقى رافعا شعار «تونس بعد الثورة خير»...