الافتتاحية

بقلم
فيصل العش
الافتتاحية
 إن أحد النتائج الكارثيّة للاستبداد الذي حكم شعوبنا العربيّة، غياب «ثقافة الحوار » التي تقوم على الاحترام المتبادل بين المتحاورين وتقود بالتالي الى إيجاد أرضية مشتركة للعيش والتعاون من أجل تصحيح المسار وبناء ما نطمح اليه من دولة مدنية تقوم على أساس المواطنة. ويتجلّى غياب هذه الثقافة في ما نراه اليوم من محاولات فرض كل طرف لرأيه على الآخر . فمنهم من يحاول فرض موقفه بحجة «الشرعية الانتخابية» وآخر بحجّة «الشرعية الدينيّة» وثالث بحجّة «حداثته وفكره التنويري» والرابع «بقوّة السلاح» وهو ما نراه بالعين المجردة على أرض الميدان وعلى شاشات التلفاز وفي المساجد والصّحف والإذاعات وصفحات التّواصل الاجتماعي...ويعتمد الجميع تقريبا نفس السلاح المتمثل في التشويش ومحاولة طمس الحقائق وتحريف الكلم عن مواضعه ورفع الأصوات بكافة أنواع اللّغو حتى تضيع الحقيقة.
إن غياب ثقافة الحوار وتردي الالتزام بها في مجتمعاتنا العربيّة، ليس وليد اللحظة بل هو نتيجة حقبة زمنية طويلة من تحكم ثقافة الاستبداد ونتيجة للتفاعل بين خطط المستبدين في نشر التفرقة بين مكونات المجتمع للسيطرة عليه و التربية الاجتماعية والدينية التي ورثها المجتمع طيلة قرون عديدة والتي انعكست على التربية الأسرية داخل البيت فالمدرسة والمجتمع. وما التناحر السياسي الحزبي و الصراعات الجهوية والعروشية والدينية وتردي لغة الحوار إلا تعبيرة من تعبيرات الغاء «ثقافة الحوار »
لقد عمل الاستبداد طيلــة سيطرته على البلاد العربيّـة على تدمير ثقافة الشعوب وتحويلهـا إلى قطعـان تســاق بالتوجيـه الإعلامي الممنهج ذي اللون الواحد فإن فشل فبالعصا فإن لم ينجح فبالرّصاص. ولقد سعى إلى بثّ ثقافة الاستبداد وغرسها في العقول منذ الصّغر عبر جميع الوسائل المتاحة ولم يترك مجالا من مجالات الحياة الاجتماعيّة إلاّ وصبغها بهذه الثّقافة، فافسد بذلك صفاء النّفوس وعطّل آداء العقول وشوّش أجهزة السّمــع والبصــر، فأصبح النّاس أبعد ما يكونوا في تعاملهم فيما بينهم عن «ثقافة الحــوار » وغدوا يعيشون في حالة من الفوضى والتناحر والضعف والتبعيّة للمستبد. 
ولقد انتشرت ظاهرة غياب «ثقافة الحوار» في أوساط السياسيين.والناشطين في المجال الثقافي والاجتماعي والدّيني في مختلف المجتمعات العربيّة بدرجات متفاوتة، حتى غدت ظاهرة سلبية من ظواهر المجتمع و باتت عملية إلغاء الآخر ومحاربته، واللجوء الى أساليب التهميش وهتك الأعراض أهم الوسائل المعتمدة في التّعامل بين مكونات المجتمع. والغريب في الامر أن الجميع يستنكر هذه الاساليب ويشجبها ويدّعي التزامه بالحوار واحترام أفكار الآخرين والأخذ بمبدأ الرأي والرأي الآخر وهذا وجه آخر من وجوه ثقافة الاستبداد حيث نقول ما لا نفعل ونبطن ما لا نعلن.
إن ثقافة الحوار هي نقيض ثقافة الاستبداد وهي الركيزة الأساسية لأي مشروع مجتمعي ديمقراطي وهي لازمة لإشاعة الجوّ الديمقراطي بين المواطنين وبدونها تتاح الفرصة للاستبداد ومن يدور في فلكه من الفاسدين والمتطرفين للعودة من جديد من خلال النافذة الثّقافية والسياسيّة والإعلاميّة بنفس الوجوه أو بوجوه غير الوجوه التي نعرفها وبلون مختلف عن الألوان السابقة .
لهذا فإننا من خلال منبر مجلة «الاصلاح» نعمل وندعو بإلحاح شديد إلى ترسيخ «ثقافة الحوار» بين مختلف مكوّنات المجتمع.ثقافة تبدأ بالإعتراف بوجود الآخر وحقّه في امتلاك رأي مخالف يعبّ عنه بكلّ حرية مع إقرار الجميع بأنه لا وجود لحقيقة مطلقة يمتلكها طرف دون آخر.
ولا يمكن تحقيق ذلك، وقد فعل الاستبداد فينا فعلته طيلة عقود بل قرون، إلاّ إذا وضعنا نصب أعيننا مصلحة البلاد والعباد قبل مصالحنا الفئوية الضيقة وانطلقنا في حوارنا ضمن المشتركات وهي كثيرة وصبرنا وتحملنا بعضنا البعض حتى تتسع دائرة المشتركات وتبدأ الخلافات في التناقص، وعندها فقط يمكننا أن نحلم بمجتمع حيّ ومتوازن قادر على تغيير واقعه وعندها فقط تستطيع نبتة الديمقراطيّة أن تنمو بسلام. أمّا إذا بقي الحال على ما هو عليه من تناكف وتصادم وتناحر فعلى الدنيا السلام.