الافتتاحية

بقلم
فيصل العش
الافتتاحية
 شهر «جوان» أو «حزيران» كما يحلو لإخواننا في العراق والشّّام  تسميته، كان مليئا بالأحداث الهامّة التي سال في وصفها وتحليلها حبر كثير ونظّمت من أجلها حلقات النّقاش وجلسات التّحليل والنّقد في مختلف وسائل الإعلام العربيّة والأجنبيّة. سنكتفي من بين هذه الأحداث بإثنين نؤثث بهما افتتاحية العدد 132 من مجلّة الإصلاح وهما هزيمة الفرق العربيّة في كأس العالم لكرة القدم وانتصار رجب طيّب أردوغان في الانتخابات الرّئاسيّة الأخيرة بتركيا.
انحسب العرب جميعهم من الدّور الأول من كأس العالم المقامة في روسيا وكان انسحابا مرّا بجميع المقاييس لكنّه في نفس الوقت معبّرا عن مدى الانحطاط الذي بلغه العرب في مختلف المجالات حتّى المتعلّقة باللّعب واللهو. السّبب الرئيس في اعتقادي لا يعود إلى سوء التحضيرات أو إلى فشل في الخطط التّكتيكيّة المتّبعة وإنّما يرجع أساسا إلى السّياق العام الذي أنتجت فيه تلك المنتخبات وتمّ اختيار مكوناتها. إنّه سياق تعيش فيه مجتمعات ساكنة مكبّلة بثقافة التواكل وانتظار الحظّ، ثقافة ترتكز على الغيبيّات وتؤمن بالنّصيب والمكتوب، ثقافة  أنتجتها نخب مهزومة تابعة  لا ترى عزّتها إلاّ في إذلال شعوبها وتكريس الدونيّة والاحساس بالنّقص فيها. فكيف يفوز السّكون على الحركة؟ وكيف ينتصر التّابع علىالمتبوع والذّليل على العزيز والعبد على الحرّ ؟ 
إنّه نفس السّياق الذي أنتج سياسيين فاشلين عجزوا عن إيجاد الحلول المناسبة لمشاكل بلدانهم، فدفعوا بها في غيابات جبّ التخلّف والتّبعيّة. إنّه نفس السّياق  الذي أنتج أنظمة تعليميّة عليلة ومهترئة. إنّه سياق السّكون مقابل الحركة  وسياق الارتكاز على الأولياء الصّالحين والزّعماء الملهمين مقابل الارتكاز على النّفس والعمل والاجتهاد في كلّ وقت وحين وفي كلّ الميادين. لهذا من كان يعتقد أن النصر سيكون حليف العرب فهو واهم وهو نتاج لنفس السياق. 
المشكل ليس فينا كعرب (بصيغة الفرد) ولكن في السياقات التي تحكم العرب (بصيغة الجمع) والدليل أن العربي منفردا عادة ما ينجح عندما يغادر إلى سياقات أخرى ومناطق الحركة سواء في الدّراسة أو في العمل أو حتّى في الرّياضات الفرديّة والجماعيّة (محمد صلاح نموذجا)، أمّا الغربي منفردا فإنّه كثيرا ما يفشل عندما يغادر إلى مناطقنا لأنّها مناطق سكون تحكمها سياقات تقتل الإبداع وتعدم التّفكير.
لن نفوز حتّى في مقابلات كرة القدم مادمنا نحافظ على نفس السّياقات.  علينا بتغيير ها وبناء مجتمعاتنا على أسس جديدة ترتكز على الحركة واستغلال سليم ومفيد للسّمع والأبصار والأفئدة وهو تأسيس لا يقوم إلاّ عبر تحرير الإنسان/المواطن (العنصر الأساسي المكوّن للشّعب) والاعتماد عليه في كلّ مراحل التأسيس بعيدا عن نظرية الزّعيم الملهم والقائد الأوحد وولاية الفقيه. وعندما يصبح لدينا مجتمع حرّ يعشق العمل، مؤمن بالحركة كافر بالسّكون، لا يضع في حساباته كرامة الأولياء والصالحين بل سنن الله وقوانينه وقدراته الذّاتية وامكانياته المادّية والمعنويّة، عندها فقط يمكننا أن نتنافس في كلّ الحقول والمجالات مع الآخرين، فنسبقهم كما سبقونا، وعندها فقط يمكننا أن نفوز في كأس العالم.
ولننظر إلى ما يحدث في تركيا منذ سنوات، فنجاح الأتراك اقتصاديّا وحضاريّا لم يأت صدفة أو بفعل نبيّ أو زعيم. أردوغان هو نتيجة لتغيير السّياقات داخل المجتمع التركي. لم يكن أردغان وحده قائدا للتحول العجيب في تركيا، بل كانت معه نخبة كاملة من المثقفين والاستراتيجيين آمنت بقدرات الشعب فاستعانت به لتحقّق المطلوب. نخبة عملت بقول ذي القرنين «أَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا». إنّ أهمّ ما يمكن استنتاجه من الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الأخيرة في تركيا هو قوّة إرادة الشّعب التّركي.
ليس أردوغان من يحكم تركيا بل الشّعب التّركي هو من يحكم. إنّ شعبا يشارك بنسبة تفوق 80 % في الانتخابات هو صاحب القرار، فقد كان بإمكانه إخراج أردوغان من الشّباك بعد أن أدخله القصر من الباب الواسع. هو ذاته  ذلك الشّعب الذي وقف في شوارع اسطنبول رافضا للانقلاب العسكري لأنه صاحب القرار ... لقد اختار الشّعب أردوغان لا ليكون سيّدا عليهم بل خادما لهم، لأنّه يعلم جيّدا أن هذا الشّعب نفسه هو القادر على الإطاحة به في أقرب انتخابات أو استفتاء يحدث بالبلاد. شعب مثل هذا يستحق أن يكون له رئيس مثل طيب أردوغان، رئيس ذكيّ يقدّس وطنه ويعرف كيف يستثمر موارد بلاده للمحافظة على سيادة وطنه ورفاهية شعبه. 
خلاصة القول أن هزائمنا هي من عند أنفسنا والنجاح لا يحصل بالصّدفة أو بالمسح على جدران الأولياء الصّالحين واستحضارهم بتخميرة صوفيّة أو إشعال شمعة في إحدى الزوايا ولا بدعاء من دون عمل وأخذ بالأسباب ولا يحدث بضربة حظّ كما لا يحدث بحماس وجهد من دون تخطيط مسبّق ودراسة دقيقة ... النجاح والفشل كلاهما نتيجة سياق معيّن في التّفكير وطريقة النظر إلى الأشياء وأخذ القرار ... لهذا سيبقى الفشل حليفنا ما دمنا نسخة مشوّهة لمن كان قبلنا ... ومادمنا نتحرّك في نفس السياقات ... فهل سنغيّر السّياقات؟