الأولى

بقلم
فيصل العش
وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ....
 مقدمة
تساءلنا في مقالات سابقة كما تساءل من قبلنا الكثير عن أسباب تخلّفنا وعدم قدرتنا على تجاوز واقع الانحطاط والتّبعيّة الذي غرقنا في وحله منذ قرون ووصلنا باستقراء السّنن المنظّمة للحياة البشريّة ومنها «أنّ الله لايغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم» إلى نتيجة أنّ السّبب الرّئيس في ما وصلنا إليه يكمن فينا وأنّ الدّواء يوجد عندنا وليس عند غيرنا. فلن يتغيّر حالنا إلاّ إذا غيّرنا ما بأنفسنا ليس كأفراد فقط ولكن كمجموعة بشريّة متكاملة من حيث نظرتنا إلى ذواتنا وإلى الآخرين وإلى طبيعة القوانين والقيم التي تحكمنا وطبيعة العلاقات التي تربط بيننا والسّياسات التي ننتهجها في اقتصادنا واجتماعنا.
ويرتبط نجاح عمليّة التّغيير التي نسعى إليها أساسا بمدى توفّقنا في فهم شخصيّة الإنسان العربي وتحديد المكبّلات والمطبّات الذّاتية والموضوعيّة التي تمنعه من أن يكون فاعلا في عمليّة التّغيير، ما دام هو المكوّن الرّئيس للأمّة. ماذا يفتقد هذا الإنسان العربي المسلم ليكون فاعلا وليس مفعولا فيه، ومنتجا وليس مستهلكا، ومبدعا وليس مقلّدا، وحرّا وليس مستعبدا؟ ما الذي تغيّر في هذا الإنسان ليصبح عاجزا لا يقدر على شيء بعد أن قلب في فترة وجيزة قبل 1400 سنة الأوضاع السّياسيّة والاجتماعيّة رأسا على عقب؟ (1)
للمساهمة في الإجابة على هذه الأسئلة سنتوقّف قليلا بالدّرس في مقالين متتاليين عند مبحث نرى أنّه أحد مفاتيح حلّ المسائل التي طرحناها. وهو مبحث «الكرامة». فماذا نقصد بالكرامة وماهي خصائصها ومظاهرها؟ وكيف يمكن صيانتها؟ وماذا عن «كرامة» الإنسان العربي؟     
الكرامة لغة
بالرّجوع إلى معاجم اللّغة العربيّة، نستنتج أنّ من المعاني التي ينطوي عليها الأصل اللّغوي للكرامة الزّيادة والفضل، والكثرة، والسّهولة، واللّين، والإعطاء بلا مقابل. حيث نجد «كرُم فلان كرماً وكرامة، إذا أعطى بسهولة وجاد (جاد يجود جوداً) فهو كريم. وكرُم الشّيء عزّ ونفس، وكرم السّحاب جاد بالغيث، والأرض زكا نباتها، وكرّم فلانا أكرمه، وفلاناً فضّله. أمّا الكرامة فمعناها في اللّغة الأمر الخارق للعادة غير المقرون بالتّحدي»(2).
كما نجد «كرَّم الرجلُ الأمير، إذا احتفى به وعظَّمه، وكرَّم الرّجل ضيفه، زاد من الحفاوة به والرّعاية، وكرَّم اللّه وجهه، حفظه ممّا يستهجن ويخزى منه ونزَّهه، وكرَّم الرّجل نفسه عمّا يُشينها ونزَّهها ورفعها، ومنه قول زهير: ومن لا يُكرِّم نفسه لا يُكرَّم. والكرامة هي الشّرافة، وكرامة النّفس ترفّعها وتصوّنها، والكرامة كون الشّيء عزيزاً، وتكرّم فلان عما يشينه ترفّع وتصوّن، وتكرّم الرّجل على صاحبه قدّم له شيئا من كرمه دون انتظار مقابل. والكريم هو السّخي المعطاء وهو الصّفوح السّمح» (3).
وكرُم الشيء بضم الرّاء كرماً بفتحتين، وكرامة إذا نفس وعزّ فهو كريم، وله عليّ كرامة أي عزازة. وكلّ شيء شرف في بابه فإنّه يوصف بالكرم، ولا يقال في الإنسان كريم حتّى تظهر منه أخلاق وأفعال محمودة.وتكون الكرامة اسماً أيضاً من الإكرام، والتّكريم. تقول: نعم وحباً وكرامة. وليس ذلك لهم ولا كرامة. والإكرام والتّكريم، أن يوصل إلى الإنسان إكرام أيّ نفع لا يلحقه فيه غضاضة، أو أن يجعل ما يوصل إليه شيئاً كريماً، أي شريفاً. هذا كلّه من الصّحاح والقاموس والمصباح ومفردات الرّاغب(4). وجاء في معجم المعاني: «كرامة الإنسان: احترام المرء ذاته، وهو شعور بالشّرف والقيمة الشّخصيّة يجعله يتأثّر ويتألّم إذا ما انتقص قَدْره» (5) 
ماهية الكرامة وخصائصها في القرآن الكريم
أمّا اصطلاحا فللكرامة معنيان الأول «ظهور خارق للعادة غير مقارن لدعوى النّبوة من قِبَل شخص مؤمن صالح وليٍّ من أولياء الله»(6). وهذا لا علاقة له بموضوع بحثنا، والثاني «مبدأ يُقرِّر أنّ الإنسان ينبغي أن يُعامل على أنّه غاية في ذاته لا وسيلة، وكرامته من حيث هو إنسان فوق كلِّ اعتبار»(7)
واستنادا على المعنى الثاني نقول أنّ الكرامة هي جوهر إنسانيّة الإنسان، ولبُّ بشريّته، وأسُّ ذاتيته، إذا انطفأت شعلتها وذبلت نبتتها فقد الإنسان ميزته وإرادته وقدرته على الفعل، فينحطّ إلى أسفل السّافلين.الكرامة هي ما يميّز الإنسان عن غيره من الكائنات وهي في جوهرها عطاء من الله عزّ وجلّ خصّ بها الإنسان وأوجبت السّجود له من طرف الملائكة بمعنى التّقدير والاعتراف بقدرته على الاستخلاف في الأرض. يقول الله تعالى: «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا»(8) ويتمثّل تكريم الله سبحانه وتعالى للإنسان وتفضيله على سائر مخلوقاته بأن نفخ فيه من روحه «فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ»(9) ووهب له علما «وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا»(10) وقدرة على التعلّم «الرَّحْمنُ*عَلَّمَ الْقُرْآنَ*خَلَقَ الْإِنسَانَ*عَلَّمَهُ الْبَيَانَ»(11) ومنحه عقلا يفكّر به ويميّز به بين الخير والشرّ وأعطاه حرّية الاختيار ليختار طريقه كما يشاء بدون إكراه، بما في ذلك اختياره بين الإيمان بالله الذي كرّمه والكفر به، «وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ»(12) وزوّده بقوّة الإرادة ليحقّق وينفّذ ما يختاره «وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا»(13). 
كرامة الإنسان إذن مستمدّة من تكريم الله له وتفضيله وهي ذات خصائص بدونها تفقد قيمتها:
- القدسيّة: بما أنّها تكريم من الخالق، مرتبطة  بنفخة الرّوح المتأتّية من الله، «فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ»(14)
- الأصالة: إذ تعتبر الكرامة مكوّنا أصيلا في الوجود الإنساني وماهيته وعنصرا رئيسا في تركيب الطّبيعة الإنسانيّة منذ أن خلق الله آدم. ولهذا تُعتبر مسألة الكرامة مسألة مساوية لوجود الإنسان، إن نُزعت عنه يستوي عندها مع غيره من الكائنات ويصبح شأنه كشأنها وهو لذلك مستعدّ للتّضحية بوجوده الجسدي وممتلكاته المادّية من أجل كرامته التي لا تتحقّق إنسانيته بدونها.
وفي هذا وجب الفصل بين مفهوم «الكرامة» ومفاهيم كالشّرف والمركز والشّهرة وما شابه لأنّ إعتبارية هذه المفاهيم تُمنح للإنسان أوتُسلب منه من المجتمع الذي يعيش فيه، أمّا الكرامة فهي قيمة مجرّدة تولد مع تشكّل الإنسان لتصبح غير قابلة للانفصال عنه وتبقى معه حتّى موته. 
- الشّمولية: أي أنّها تشمل النّاس كافّة بصرف النّظر عن أصلهم وفصلهم، ودينهم وعقيدتهم، ومركزهم وقيمتهم الاجتماعيّة، بما أنّ خطاب التّكريم في القرآن موجّه لكلّ البشر دون تحديد جنس أو عرق أو لون أو دين،«وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ...». فلاعلاقة للكرامة إذا بانتماء الإنسان إلى قوم معيّن أو جنس بذاته ولا باعتناقه دين دون دين، ولا بما يقدّمه في حياته من فعل، فكرامة العربي تعادل كرامة الهندي أو الأوروبّي وكرامة عالم أو طبيب هي نفسها كرامة فلاح أو عامل يومي بسيط. فالنّاس جميعا، منذ ولادتهم يتمتّعون بنفس الكرامة لصفتهم الإنسانيّة. «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ» (15)
هذه أهمّ خصائص الكرامة الأنسانيّة فماذا عن مظاهرها ومعانيها في حياة الإنسان وواقعه المعيش؟ 
مظاهر الكرامة الإنسانيّة وأشكال إنتهاكها
تتحقّق «الكرامة» عمليّا عندما تتمّ تلبية الحاجيات الطّبيعيّة والضّروريّة للإنسان، سواء كانت عضويّة كالتّغذية والصّحة وحرمة الجسد، أو اجتماعيّة كالسّكن والشّغل والتّعليم، أو فكريّة كحرّية التّعبير والتّفكير، أو روحيّة كحرّية التّدين والاعتقاد. فكرامة الإنسان مرتبطة بإحترام إحتياجاته الرّوحيّة والمادّية النّابعة من طبيعته البشريّة. وبالتّالي فإنّ حرمانه من إحدى احتياجاته أو المساس بحقّ يتمتّع به بوصفه إنسان، يعتبر إنتهاكا صارخا لكرامته. ولهذا فإنّ اعتقال شخص أو تعذيبه هو انتهاك لكرامته، وقمع فكر إنسان أو منعه من ممارسة عقيدته هو انتهاك لكرامته، ومنع إنسان من العمل أوعدم تعليمه أو عدم ضمان مسكن لائق به هو انتهاك لكرامته، ومواجهة الحكّام لمطالب المحتاجين والمرضى وفاقدي السّند واستغاثاتهم بالإهمال واللاّمبالاة هو انتهاك لكرامتهم، وقتل البشر أو تشريدهم وإجبارهم على العيش في مخيّمات يقتسمون البرد وينتظرون طعامًا أوغطاءً قد لا يأتيهم هو انتهاك صارخ لكرامة الإنسان. كرامة الإنسان إذن هي القاعدة الأخلاقيّة والفلسفيّة لحقوقه الأساسيّة، تتجسّد مظاهرها ومعانيها واقعيّا من خلال ضمان مختلف حقوق الإنسان وحاجاته وعدم المسّ منها.
الكرامة الإنسانيّة في المواثيق الدّوليّة (16)
كانت الكرامة الإنسانيّة، منذ القدم، محلّ اهتمام الفلاسفة والسّياسييّن ورجال الدّين بمختلف أطيافهم، كما كانت محلّ انتهاك فاضح نتيجة الحروب المختلفة بين بني البشر وقيام أنظمة شموليّة لم تسئ فقط من حيث الواقع للحرّيات والحقوق الأساسية للإنسان بل عملت على تعطيلها أو إلغائها بالكامل، حسب طبيعتها الاقتصاديّة والسّياسيّة. ولم يبرز مفهوم الكرامة الإنسانيّة في شموليته ضمن القوانين والقرارات الدّولية إلاّ بعد الحرب العالميّة الثّانية، فنتيجة لما خلّفته تلك الحرب من دمار رهيب وملايين الضّحايا البشريّة بحكم اعتماد الدّول المتحاربة وسائل جهنّمية وأسلحة فتاكة بلغت ذروتها مع استخدام الأسلحة الذرّية ضد ناكازاكي وهيروشيما باليابان، كان لابدّ من تحرّك إنساني لإعادة بناء الإنسان الذي فقد كلّ معاني الكرامة. ومن هنا برز التوجّه السّياسي والقانوني للإعتراف بالكرامة الإنسانيّة وإقرارها على مستوى النّصوص في القوانين والمواثيق المنظّمة للمجتمع الدّولي وأهمّها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان(17) والعهد الدّولي الخاصّ بالحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثّقافيّة (18) والعهد الدّولي الخاصّ بالحقوق المدنيّة والسّياسيّة(19) التي تتّفق في الدّيباجة على مفردات موحّدة، وهي الإقرار بما لجميع أعضاء الأسرة البشريّة من كرامة أصيلة فيهم، وارتباطها في جميع الحالات بحقوق الإنسان، وبالمصير الإنساني المشترك. وبذلك صار الإقرار بالكرامة الأصيلة للأسرة البشريّة، مبدأ ثابتاً من مبادئ الشّرعيّة الدّوليّة، وقاعدة راسخة من قواعد القانون الدّولي.
غير أنّ روح القوانين ونصوصها في واد وتطبيق ما جاء فيها في واد ثان. فبالرّغم من علويّة القانون الدّولي وتعدّد النّصوص التي تحدّد بوضوح حقوق الإنسان وتوجب حفظ وصون كرامته وبعث المؤسّسات الدّوليّة التي تعنى بحقوق الانسان فإنّ الكرامة البشريّة تنتهك في كلّ وقت وحين وما حدث من قبل في البوسنة وفي الشّيشان ورواندا ويحدث اليوم في بورما والعراق وسوريا واليمن ويحدث من زمان في فلسطين ما هي إلاّ قطرات من بحر لجّي من الانتهاكات الصّارخة لكرامة البشر وخاصّة النّساء والأطفال والعجّز. ولكن ماذا عن الإنسان في العالم  العربي الإسلامي؟ هل له كرامة مصانة ومحفوظة أم هي مسلوبة ومفقودة؟ الجواب على هذا السؤال سيكون موضوع المقال في جزئه الثّاني الذي سنتطرق فيه إلى الكرامة العربيّة ونبحث فيه عن أسباب الانتهاكات الصّارخة التي شملتها وتأثيرها في وضع الأمّة وحالها لنبحث بعد ذلك عن الحلول من خلال الحديث عن كيفيّة صون الكرامة الإنسانيّة. 
الهوامش
(1) المقصود هنا ما فعله العرب المسلمون في فترة الرسالة المحمدية وفي فترة الخلفاء الراشدين من بناء دولة قلبت الموازين السياسية والاقتصادية والاجتماعية السائدة آنذاك رأسا على عقب. ففي مدّة لا تتجاوز 30 سنة توسّع حكمهم ليشمل كامل الجزيرة العربيّة، لينهي بعد ذلك اسطورة الامبراطوريتين الرومانية والفارسية اللتين كانتا تتقاسمان العالم.
(2) المعجم الوسيط، المجلد 2، ص784، دار الفكر العربي، بيروت.
(3) الهادي إلى لغة العرب، المجلد 4، ص 30، دار لبنان للطابعة والنشر.
(4) رسالة الشرك ومظاهره لمبارك بن حمد الميلي - ص 127
(5) تعريف و معنى كرامة في معجم المعاني الجامع.
(6) التعريفات الفقهية-محمد عميم الإحسان-صدر: 1407هـ/1986م وكذلك في كتاب «مقاليد العلوم» لجلال الدين السيوطي-توفي: 911هـ/1505م وفي كتاب «التعريفات» لعلي بن محمد الجرجاني-توفي: 816هـ/1413م.
(7) تعريف و معنى كرامة في قاموس المعجم الوسيط ،اللغة العربية المعاصر.
(8) سورة الإسراء - الآية 70
(9) سورة الحجر - الآية 29
(10) سورة البقرة - الآية 31
(11) سورة الرحمان - الآيات 1-4
(12) سورة الكهف - الآية 29
(13) سورة الشمس - الآيتان 7 و8
(14) سورة الحجر - الآية 29
(15) سورة النساء  - الآية 1
(16) الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية نموذجا
(17) لتحميل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، اضغط على الرابط التالي :
 http://www.un.org/ar/udhrbook/pdf/UNH_AR_TXT.pdf
(18) لتحميل العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، اضغط على الرابط التالي :
http://hrlibrary.umn.edu/arab/b002.html
(19) لتحميل العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسّياسية، اضغط على الرابط التالي :
https://www.unicef.org/arabic/crc/files/ccpr_arabic.pdf