الأولى

بقلم
فيصل العش
لا يغيّر الله ما بقوم....
 من إيجابيات الثورات أو الانتفاضات العربيّة (سمّها ما شئت) أنها أسقطت ورقة التوت التي كانت تغطّي عورات المجتمعات العربيّة الإسلاميّة وزادت الأحداث السّياسية والاجتماعية المتسارعة التي حدثت في السّنوات الأخيرة في تعرية واقعها وبرز للعيان مدى التخلّف والانحطاط الذي تعيشه هذه المجتمعات وواقع الفقر الذي غرقت فيه شعوبها وأظهرت فيما أظهرت تخلّف نخبها بجميع خلفياتها الايديولوجيّة وعدم قدرتها على فعل ما يجب فعله لاستغلال الحالة الثورية من أجل النهوض بالأمّة ووضع عربتها على سكّة التطور والازدهار بالرغم من أنّ جميعها كانت تصيح بصوت عال وتدّعي أنها قادرة على تحقيق حلم الأولين والآخرين ومن سيأتي بعدهم، في مجتمع يسوده العدل والمساواة وأنّ هدفها الأول والأخير هو إقامة دولة على أساس المواطنة تحترم حقوق الإنسان وتتبنّى سياسات اجتماعيّة وتربويّة وثقافيّة وبيئيّة تحقّق طموحات النّاس وترسم لهم طريق تنمية عادلة وشاملة تُخرجهم من التبعيّة وتحقّق لهم الازدهار والرّقي والتّقدّم. 
وفي الوقت الذي تتقدّم فيه دول كانت في الماضي القريب متخلّفة مثلنا، تعاني الفقر والفوضى والفساد وربّما أقل منّا قدرة ومكانة، تستمر دولنا في التّدحرج لتحتل أسفل الترتيب في مستوى التعليم وفي مؤشرات التنمية وحتّى في السلوك والأخلاق. فما نعيشه اليوم من الفرات إلى النيل ومن النيل إلى تخوم المحيط الأطلسي يعبّر عن مدى الانحطاط الذي غرقنا في وحله، انحطاط في التربية والأخلاق وانحطاط في مستوى التعليم ومخرجاته وانحطاط في القدرات الاقتصاديّة بالرغم مما حبانا به الله سبحانه وتعالى من خيرات الأرض (بترول، غاز، سمك، زيتون....) وانحطاط سياسي تجسّد في تعامل فظّ للحكام مع شعوبهم وفي استفحال واقع التجزئة وترهّل الدولة القطريّة وضعفها وتبعيتها للخارج.
يعتقد البعض أن السبب في ذلك يعود إلى ما حدث في السنوات الأخيرة من فوضى بالدول العربية الإسلاميّة (وهم يقصدون طبعا الثورات العربية!)، ولهذا فهم يتباكون على الماضي وكأنّ الماضي كان أفضل من الحاضر. أفلم تفشل دول ما بعد الاستعمار أو ما سمّى تعسّفا الدّول الوطنية الحديثة في أن تكون حرّة ومتقدّمة؟ ألم تنتج أنظمة تحوّلت إلى حكم فردّي وسلطة مستبدّة أهانت مواطنيها وزرعت ثقافة الخوف والاستكانة وكرّست واقع التبعيّة للمستعمر القديم بتعلّة الاستفادة من قوّته وتقدمه في مختلف المجالات؟. إنّ ما تحصده المجتمعات العربيّة اليوم هو ثمار ما زرعه حكّامها والنخب الموالية لهم خلال أكثر من ستّين عاما. لكنّ لماذا تواصل الفشل بعد أن ثار النّاس وأسقطوا رموز الاستبداد والفساد وأبعدوهم عن رأس الدّولة؟ ألم تأت الثورات العربيّة بنخب أخرى حاولت إعادة التّأسيس ففشلت وزادت الوضع سوءا على سوء؟ 
ففي الوقت الذي بلغت فيه التكنولوجيا مستويات مذهلة من التطوّر استغلّها البعض لتنمية قدرات بلدانهم وتحقيق الرفاهية لشعوبهم واستغلها البعض الآخر لتوسيع مجال هيمنته ونفوذه الاقتصادي والسياسي، يرتفع مستوى الهمجيّة والفوضى في جزء كبير من الوطن العربي ويزداد نسق التناحر بين الطوائف وبين أبناء البلد الواحد وتتضخّم قوافل المهاجرين الذين يتركون ديارهم وأرزاقهم هربا من الجحيم. فيما تعيش البلدان العربية «الناجية من الفوضى»، مؤقتا، أزمات اقتصادية واجتماعية حادّة تنذر بالخطر خاصّة مع انتشار الفساد في مفاصل المجتمع وغياب حبّ العمل واحترام القانون مقابل ارتفاع أسهم النفاق والتملّق والرّشوة والمحسوبيّة في أذهان النّاس وممارساتهم باختلاف مستوياتهم الاجتماعيّة والثقافيّة. 
ومن يتجول في ربوع هذا الوطن يلمس بوضوح غياب الوعي القادر على البناء وحالة اليأس والقنوط التي تسري في عروق النّاس والشّعور بالإحباط الذي يقود إلى العنف أو اللاّمبالاة مقابل هيمنة ثقافة الاستهلاك والمتعة والتّسول والانتهازيّة، ويمكنه أيضا أن يعاين بسهولة الفجوة الضّخمة التي تفصل النّخب عن عامّة النّاس والأغنياء عن الفقراء وأهل الشّمال عن أهل الجنوب، فجوة ظاهرها مادّي وباطنها ثقافي واجتماعي بامتياز. التطرّف هو ما يميّز واقعنا، تطرّف الأقلية المتّخمة بالغنى وتطرّف الفقر المدقع والمهين على أغلب النّاس، تطرّف ديني وتطرّف لاديني مع غياب تامّ لاستراتيجيات واضحة نابعة عن حوار مجتمعي حقيقي لمواجهة هذا الغلو وهذا التّطرف والمخاطر والتّهديدات التي تنجرّ عنهما.
في هذا الوضع يحقّ لنا أن نتساءل عن سبب عيشنا فى بحر من التّخلف والرّجعية، فى الوقت الذي يعيش غيرنا فى مُستويات مميّزة من التّقدم التّقني والعلمي ؟! هل كُتب على شعوبنا أن تبقى تعاني المصائب والبلايا وتعيش الفقر والتخلّف؟ أمّ أنّ هناك ما يعطّل نهوضها ويمنع ازدهارها والتحاقها بركب الأمم المتقدّمة؟ ولماذا نفشل نحن العرب في كل محاولات الإصلاح والتقدّم؟ هل هو مرتبط بعرقنا أم بثقافتنا أم بديننا؟ أم باعتماد مناهج إصلاح مسقطة لا تتماشى مع واقعنا وثقافتنا؟. 
هناك عوامل خارجيّة ساهمت في ما نحن عليه من تخلّف وهي عوامل متأتية من رغبة الهيمنة التي تحكم العقل الغربي المستعمر والذي حاول عبر مختلف الوسائل أن يكرّس واقع الانحطاط ويفرض نمطا واحدا للتفكير والعيش عبر عولمة كاذبة تدمّر خصوصيّات الشّعوب وتنوّع ثقافتها.وهذه العوامل باقية وتتمدّد بحكم قانون الحضارات، فمن السّخافة أن نفكّر يوما بأنّ العقل الغربي المستعمر سيتألّم لحالنا وسيعمل جاهدا على مساعدتنا للخروج من حالة التّخلّف أو على الأقل سيتركنا في حال سبيلنا ولا يتدّخل في شؤوننا. فهذا الأمر ميؤوس منه وعلينا التأقلم مع هذه العوامل الخارجيّة والبحث عن الوسائل الممكنة للحدّ من تأثيرها والتقليص منها. لكن، هناك عوامل ذاتية نابعة من ثقافتنا تسبّبت في هذا الانحطاط. وبمعرفتها ومعالجتها يحصل التغيير لا محالة ألم يقل الله سبحانه وتعالى:«إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ»(1). و«أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا ۖ قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»(2)
العوامل الذّاتية المتسببة في هذا الانحطاط كثيرة، من أهمّها «تديّن مغشوش» ناتج عن فهم خاطئ للإسلام تجذّر في الوعي الجمعي عبر الزّمن يقاوم التّغيّر ويكرّس الطّاعة لتقاليد جامدة، فكان بذلك قوّة في أيدي أنظمة الحكم المستبدّة وطائفة من رجال الدّين والفقهاء الذين يدورون في فلك السّلطان ويعملون على تأبيد ذلك الشّكل المغشوش من التّديّن. ولقد حاول تيار الهويّة الذي تشكّل في بداياته كردّة فعل على واقع الانحطاط ومحاولات التّيارات المعادية للدّين جرّ المجتمع إلى تبعيّة ثقافيّة تامّة للغرب بتعلّة التنوير، أن يعيد للإسلام مكانته كمحفّز للتّغيير عبر محاربة مظاهر هذا «التّديّن المغشوش». فحاول استحضار تجربة تاريخيّة قديمة ليسقطها على واقع مختلف تفصله عن تلك التّجربة قرون من الانحطاط والتكلّس. وعوض البحث عن علل الخراب الذي تعيشه الأمّة وعن نقد الذّات ومراجعتها، وفهم تفاعلها مع روح العصر وأفكاره وقيمه، رفع هذا التيّار شعارات عامّة مثل: «الإسلام هو الحلّ» و«الخلافة الإسلاميّة» إلخ ... فكان الفشل حليفه ولم ينجح إلآّ في إحياء بعض مظاهر التدينّ أو الصدّ النّسبي لمخطّطات التّيار التّغريبي المعادي للهويّة. أمّا محاولات الإصلاح العميقة والمؤثّرة، فلم يجد لها طريقا وظلّ يحوم حول حماها لأنّ مواقفه منها كانت تحدّدها مرجعيّة ماضويّة تقليديّة. ولعلّ هذا الفشل وضغط الواقع دفعا بجزء من هذا التيار إلى التّخلّي تدريجيّا عن أطروحاته وشعاراته التي كان يرفعها ليصبح أقرب إلى الليبيرالية، كما دفعا البعض الآخر إلى الغلوّ ومعادات المجتمع وتبنّي أفكار متطرّفة حوّلته إلى جماعات إرهابيّة تزرع الموت أينما حلّت في محاولة منها لفرض «الخلافة» وتطبيق الشّريعة بالقوّة.
من يريد أن يرى بعينه مظاهر التديّن المغشوش الذي شوّه رسالة الإسلام في ربوع أوطاننا فلينظر إلى أي حدّ انقلب الإسلام إلى عبادات شعائرية فقط، صوم، وصلاة، وحج، وزكاة، ونطق بالشّهادة. أصبح الدّين طقوساً وحركات وسكنات وإيماءات وتمتمات، لا تقدّم ولا تؤخّر، في حين أنّ الإسلام عقائد وعبادات وأخلاق ومعاملات . . وتكاد المعاملات تمثل جماع الإسلام كلّه وخلاصته، حيث إنّ الأخلاق إنّما تظهر عند ممارسة التّعامل مع النّاس، وأما العبادات فلا فائدة منها إن لم يظهر أثرها على المعاملات، يقول النبي صلى الله عليه وسلّم:«من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر، لم يزدد من الله إلاّ بعداً». والعقيدة الصّحيحة تنعكس على المعاملات مع النّاس أيضا، حيث يقول عليه الصّلاة والسّلام: «ما آمن بي من بات شبعاناً وجاره إلى جنبه جائعا وهو يعلم». الإسلام هو صلة متواصلة بالله، استقامة على أمر الله في كل حين وفي كلّ مكان، الدّين ليس في المسجد فقط، الدّين في مكان العمل، في البيت، في المعهد والمستشفى، في الحقل وفي المصنع. 
من يريد أن يفهم أسباب التّديّن المغشوش فلينظر إلى خطاب العدد الهائل من الأيمّة الذين يعتلون المنابر وتجتمع حولهم الآلاف المؤلّفة من المصلّين، وأي تأثير يحصل بعد ذلك في المجتمع؟ يقول الله سبحانه وتعالى: «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا »(3). لكنّ كلمات أغلب هؤلاء لا أُكل لها، في حين أنّ الأنبياء جاؤوا بالكلمة، فقلبوا وجه الأرض لأنّ كلماتهم كانت طيّبة تخاطب وجدان النّاس وواقعهم، وهي كلمات صادقة قابلة للتّطبيق على أرض الواقع. ألم يكن الرّسول صلّى الله عليه وسلّم «قرآنا يمشي»؟. 
ولأنّ الدّين مركّب أساسي محفّز «catalyseur» في التّركيب البيولوجي للحضارة على رأي مالك بن نبي(4) فإنّ المطلوب ليس ثورة على الدّين ولكن ثورة من خلاله. ثورة ضدّ الفهم المغشوش تبدأ أوّلا بالفصل بين ما هو وحي مقدّس وما هو تراث بشريّ، فصل في المنزلة وفصل في كيفيّة التّعامل معه. وهذا يحتاج حفرا معرفيّا عميقا يُزيل عن الدّين ما علق به من أفهام خاطئة وقصور في تنزيل الوحي في الواقع ويُبرز معانيه السّامية التي جاء ليُصنع المسلم على أساسها، كقيم العمل والإخلاص والعدل والعلم والمساواة والحرّية وصيانة كرامة البشر والرّحمة والبرّ والتّعايش والتّسامح ومقاومة التّناحر والتّواكل والاستكانة. وثانيا بالغوص في عالم التّراث الفكري الغزير ليُحيي جوانبه المضيئة وتطويعها في سبيل بناء وعي يدفع إلى الحركة ويقاوم الجمود. وثالثا وهو الأهمّ بتحويل تلك المعاني إلى ممارسات ميدانيّة وبذلك تُرَدُّ للعقيدة الإسلاميّة فاعليّتها وقوّتها الإيجابيّة وتأثيرها في الفرد والمجتمع، وينشأ عالم جديد من الأفكار والسّلوك نابع من ديننا لا يتناقض مع مقتضيات العصر الذي نعيش ويمهّد لبقية مظاهر الرّقي والتّطور المادّي والتّقني. لكنّ هذا العمل ليس بالأمر الهيّن، بل هو عمليّة معقّدة تتطلّب وقتا طويلا وجهدا يشارك فيه الجميع من أكادميين ومثقّفين ومثقفين عضويّين وأيمّة ورجال دين وإعلامييّن. ولن يكون النّجاح حليف هؤلاء في مهامهم هذه إلاّ حين يجعلون القدوة قبل الدّعوة، والإحسان قبل البيان، ويأخذون بالأصول قبل الفروع، ويهتمّون بالمضامين لا العناوين، وبالمبادئ لا الأشخاص، ويعتمدون مبدأ التدرج لا الطفرة، والترغيب لا الترهيب، والتيسير لا التعسير.
الهوامش
(1) سورة الرعد - الآية 11
(2) سورة آل عمران - الآية 165
(3) سورة إبراهيم  - الآية : 24-25 
(4) مالك بن نبي، شروط النّهضة ، ص. 61 - ترجمة عبد الصبور شاهين - دار الفكر 1986