الأولى

بقلم
فيصل العش
الانتقال الديمقراطي في تونس: تكرار الأخطاء
 تمهيد
في بلد عاش تصحّرا سّياسيّا لعقود عديدة غابت فيها الحرّية وحضر فيها القمع والتسلّط والمهانة، يكون التّحوّل فيها من الدّيكتاتورية إلى الدّيمقراطية صعبا ومحفوفا بالمخاطر، ولعلّ ما حدث في البلاد التونسية خلال سنوات ما بعد الإطاحة ببن علي من مدّ وجزر ومن فشل في تحقيق ما انتفض من أجله النّاس ومن اضطرابات وفوضى في قطاعات شتّى رغم تعدّد الحكومات، يدخل في خانة صعوبات الانتقال الدّيمقراطي وارتدادات الثّورة كما حدث في تجارب سابقة في أماكن متعدّدة من العالم. 
صحيح أنّ حالة من التّشنج والتّوتر تسيطر على شرائح واسعة من الشّعب نتيجة غلاء المعيشة وفشل الحكومات المتعاقبة في تقديم علاج لمشاكل البلاد وعلى رأسها الفقر والتّشغيل،  وصحيح أنّ القطع مع النّظام البائد يسير بخطى السّلحفاة وربّما توقّف في عدّة مواقع، وأنّ محاسبة رموز الفساد لم تتحقّق بالقدر المطلوب في أغلب القطاعات، بل أن البعض منهم عاد من جديد إلى موقعه السّابق وكأنّ شيء لم يكن، لكن ذلك لا يعني انطفاء شعلة الثّورة والعودة إلى ما كانت عليه البلاد قبل 2011 وإنّما يرجع إلى «طبيعة المرحلة» التي تتميّز عادة بصراع كبير، معلن تارة وخفيّ تارة أخرى، بين قوى التّغيير من جهة وقوى الشدّ إلى الوراء من جهة أخرى وهي معركة ستؤدّي حتما إلى أحد طريقين لا ثالث لهما، إمّا دمار وخراب يعمّ البلاد فلا غالب ولا مغلوب وإمّا مفاوضات ومساومات بين النّخب السّياسيّة القديمة منها والجديدة بما في ذلك بقايا نخبة النّظام القديم تنتهي بتوافقات حول آليّات انتقاليّة تحدّد أسس وشكل النّظام الجديد، وترتبط نسبة نجاح هذا المنحى بمدى التزام تلك القوى بتعهّداتها.
إنّ ما تعيشه السّاحة السّياسية والاجتماعيّة من احتقان شبه متواصل يعود إلى أخطاء عديدة حصلت خلال الفترة الفارطة ووقوعها أمر طبيعي بحكم ما ذكرنا من طبيعة المرحلة، لكنّ الخطر يكمن في عدم تجاوزها والاستمرار في تكرارها، الأمر الذي يزيد في تعقيد الوضع ويفتح الطّريق واسعا أمام من يقف في وجه كلّ تغيير ليحتلّ مزيدا من المواقع التى تساعده على تسديد الطّعنات في خصر التّحول الدّيمقراطي النّاشئ ومن ثمّ وأد الثّورة والنّكوص إلى الدّيكتاتوريّة وما يتبعها من قمع وتخلّف وانحطاط. سنكتفي في هذا المقال بالحديث عن أربع أخطاء يمثّل الاستمرار فيها خطرا صريحا على الانتقال الدّيمقراطي وتحقيق التّنمية.
تعطيل بناء المؤسّسات الدّستورية
كانت البدايات جيّدة، فبعد الإطاحة بالدّكتاتورية، أنجز التّونسيون انتخابات تعدّدية ديمقراطيّة شفّافة، انبثق عنها مجلس وطنّي تأسيسي كتب دستورا جديدا وانطلق في تهيئة البلاد للانتقال الديمقراطي عبر بناء بعض المؤسّسات الدّستورية للنّظام الجديد، ثمّ أُنجزت بنجاح انتخابات رئاسيّة وبرلمانيّة نتج عنها أوّل برلمان تعددّي منذ تأسيس الدّولة الحديثة. لكن بمرور الوقت حصل انحراف في المسار شاركت فيه أغلب الأطراف بدرجات متفاوتة بالرّغم من وجود توافق ما بين أكبر حزبين في البرلمان وهما النّهضة والنّداء. 
تجسّد أحد وجوه هذا الانحراف في التّباطؤ الكبير في مسار تركيز معظم الهيئات الدّستوريّة التي أقرّها الدّستور الجديد وذلك نتيجة التجاذبات السياسيّة بين مختلف الأطراف السياسيّة التي تسعى كلها إلى ضمان موقع صلب تلك الهيئات بحيث تكون لها فيها تمثيليّة قويّة حتّى تؤثّر في قراراتها وهو ما يمثّل خطرا على إستقلاليّة تلك الهيئات. ويبرز ذلك جليّا في :
- الصّعوبات التي رافقت إعادة انتخاب الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات والهرج والمرج الذي صاحب التّصويت على مشروع قانون الانتخابات البلدية بسبب الخلافات حول مشاركة الأمنيّين والعسكريّين في هذا الاستحقاق الانتخابي من عدمها، ممّا أدّى إلى تأجيلها عن موعدها المحدّد في أكثر من مناسبة.
- التعثّر عدّة مرّات في تركيز المجلس الأعلى للقضاء الذي أقرّه الدّستور في بابه الخامس المتعلّق بالسّلطة القضائيّة (من الفصل 112 الى 117) نتيجة التّجاذبات بين السّلطة السّياسية والقضاة وبين القضاة أنفسهم. 
- فشل البرلمان في انتخاب أعضاء المحكمة الدّستوريّة بالرّغم من أنّها من أبرز الهيئات الضّامنة للمسار الدّيمقراطي وأعلى سلطة قضائيّة في البلاد حيث توكل إليها مهمّة مراقبة دستوريّة مشاريع القوانين. 
- عدم تركيز الهيئة العليا المستقلة للاتصال السّمعي البصري التي نصّ عليها الفصل 127 وهيئة الحوكمة الرّشيدة ومكافحة الفساد (الفصل 130) بالرّغم من أهمّية هذه الهيئات المضمنة في الباب السّادس من الدّستور ودورها في دعم الأسس الديمقراطية بالبلاد. 
ويبقى الجدل الذي صاحب جلسة التّصويت على التّمديد لهيئة الحقيقة والكرامة من عدمه وما نتج عنه من تبادل الاتهامات والعنف اللّفظي بين النوّاب أبرز دليل على التّجاذبات الحادّة التي تميّز مكونات السّلطة التّشريعيّة النّاشئة وهشاشة التّوافق بين كتلها السّياسية.
إنّ التجاذبات التي تحصل بين الفينة والأخرى تحت قبّة البرلمان وعلى منابر الحوار الإعلاميّة ليست في ذاتها خطرا على المسار الدّيمقراطي وإنّما تحوّلها إلى خبز يومي وسياسة ممنهجة تتبعها بعض الأطراف لتأزيم الوضع من أجل أهداف فئويّة ضيّقة، فذلك هو الخطر بعينه.
الدّعوات المتكرّرة لتغيير الحكومات
من الأخطاء التي تكرّرت خلال السّنوات الماضية الدّعوات المتسرّعة لتغيير الحكومات بتعلّة فشلها. فقد بلغ عدد الحكومات في فترة ما بعد الثّورة تسع حكومات بالتّمام والكمال أي بمعدّل حكومة لأقلّ من سنة، ولم تعد الحكومات تتحكم في مصيرها، فقد يتسبب تصريح إعلاميّ أو حدث أمنيّ أو غضب من جهة ما في إسقاط حكومة وتركيز حكومة جديدة أو تحوير في إحداها. وهذا أمر خطير له انعكاسات سلبيّة هامّة على عمل السّلطة التّنفيذيّة وعلى محاولتها معالجة التّحديات الاقتصاديّة والاجتماعيّة لما ينتجه من عدم استقرار في تسيير دواليب الدّولة وتنفيذ مخطّطاتها وبالتّالي تراجع المؤشّرات الاقتصاديّة مثل ما تؤكّده الإحصائيّات.
لقد أثبتت تجارب استقالات الحكومات السّابقة أو تغييرها عدم جدواها خاصّة على المستوى الاقتصادي، ولهذا فإنّ من العبث أن تتمّ الدّعوة إلى حكومة جديدة بحجّة أنّها فشلت في تحقيق النّمو المرجو. فالرّكود الاقتصادي والارتباك في عمل الحكومة ليس ناتجا عن طبيعتها بقدر ما هو ناتج عن عدم التضامن معها ومساعدتها في عملها، بالإضافة إلى سعي بعض الأطراف إلى تأزيم الوضع والتّهديد المستمر بالإقالة.
إنّ تركة نظام بن علي الاقتصاديّة التي ورثتها الحكومات المتعاقبة بعد الثّورة ثقيلة، فنسب النّمو المعلنة وقع تضخيمها، ونسبة الفقر شملت ربع سكّان البلاد خاصّة بالمناطق الدّاخليّة. ساهمت هذه التّركة بالإضافة إلى التّوقف المستمرّ في السّير الطّبيعي لبعض القطاعات الاقتصاديّة الهامّة كإنتاج الفسفاط في تعثّر عمل الحكومات المتعاقبة، ممّا أدّى إلى ارتفاع مستوى الدّين الخارجي وضعف المؤشّرات الاقتصاديّة، فكانت النتيجة تخفيض مستمر في التّصنيف الائتماني السّيادي لتونس إلى درجة تنبّئ بالخطر. 
إنّ الانزلاق الخطير الذي وقع فيه الاقتصاد التّونسي خلال فترة «بن علي» يتطلّب تصحيحا لمساره وذلك بوضع رؤية اقتصاديّة جديدة. ولكن هل تستطيع أيّة حكومة لا يتجاوز عمرها عدّة أشهر أن تنجز ذلك؟
صحيح أنّ الحكومة الحاليّة لم تنجح في توسيع رقعة مقاومتها للفساد وفي الحدّ من عنتريّة الاقتصاد الموازي ولم تجد الحلّ الأنسب لتحسين ظروف العيش والخدمات الأساسيّة وتوفير فرص العمل في جلّ المناطق. لكنّ منع الاقتصاد من الانهيار والحفاظ على حدّ معقول من احتياطات العملة الصّعبة وعدم الاستسلام أمام غول التّضخم هي منجزات يمكن الرّكم عليها لمنع الانهيار التّام. أمّا تعنّت البعض وجعلهم إسقاط الحكومة هدفا ومبتغًى، فذلك تكرار لنفس الخطإ وإيذان بنهاية مسار الانتقال الديمقراطي ووأد للسّلم الاجتماعي. 
أزمة الحكومة ورجال التعليم
يٌعدّ إصلاح المنظومة التّربويّة الرّكيزة الأساسيّة للتّغيير الاجتماعي والاقتصادي الذي نسعى إليه وهو إحدى الأولويّات التي يجب الانكباب عليها من طرف كلّ القوى الحيّة في البلاد. فصلاح حال هذا الشّعب وتحقيق التنمية الشّاملة لا يمكن انجازهما إلاّ بإطلاق ثورة حقيقيّة في البرامج والمناهج التعليميّة تقطع مع الماضي وتجاربه العبثيّة المسقطة وتؤسّس لمنظومة جديدة، متأصّلة في خصوصيّتنا الثّقافيّة ومتشبّعة بقيمنا الإسلاميّة والعربيّة ومتفاعلة إيجابيّا مع القيم الإنسانيّة. منظومة لتربية عصريّة تواكب التحوّلات التقنيّة، ملائمة لأولوياتنا الاقتصادية، تُعدّ النّاشئة لحياة المواطنة والمشاركة الدّيمقراطية وتدعّم قيم الحرّية والعدالة والتّسامح وتنمّي شخصيّة المتعلّم من جوانبها المتعدّدة. منظومة تهدف إلى خلق جيل متوازن ثقافيّا وفكريّا وعلميّا قادر على بناء بلده وافتكاك مكانه في سوق الشّغل وطنيّا وعالميّا. لكنّ ما حصل ويحصل هذه الأيّام هو انحراف الفاعلين في المجال التّربوي من نقابات وسلطة إشراف عن الدّور المناط بعهدتهم وتكريس كلّ الجهود لتغذية الصّراع بينهم، صراع يجسّد عمق الأزمة التي يعيشها التّعليم في تونس ويغذّي عناصر منع تأسيس المنظومة التّربويّة المرجوّة ووأد كلّ أمل في الإصلاح.
إنّ ما حدث منذ الثّورة ويحدث باستمرار من أزمات بين سلطة الإشراف ونقابات رجال التّعليم بجميع مستوياته لا يصبّ في مصلحة البلاد ويعصف بمستقبل جيل كامل من التّلاميذ ويخلق انحرافا شديدا عن المسار الذي كان لابدّ من اتباعه في المرحلة الانتقاليّة حيث التّوافق بين الجميع من أجل إصلاح التّعليم وإرساء منظومة تعليميّة جديدة تقطع مع منظومة بن علي الفاسدة. 
إنّه خطأ نتائجه جدّ سلبيّة على الجميع وتكراره في هذه الفترة أكثر خطورة من ذي قبل، فالبلاد لا تتحمّل أكثر ممّا تحمّلت، والأخطر من ذلك أن يتمّ استغلال السّاحة التّربوية لتصفية حسابات سياسيّة أو للحسم في الخلاف حول حجم الاتحاد التّونسي للشّغل ودوره في هذه المرحلة إذ يرى البعض أنّ تصريحات الأمين العام للمنظمة الشّغيلة والكاتب العام لنقابة التّعليم الثّانوي قد أخذت منحى سياسيّا أكثر منه نقابيّا، فقد أصبحت لديهم مطالب سياسيّة مباشرة تتمثّل في طلب تغيير وزراء في الحكومة مع اعتبار الحكومة الحالية حكومة تصريف أعمال لا غير. وهو ما جعل الاتحاد حسب بعض المحلّلين في صراع مباشر مع الحكومة. والسّلاح في المعركة حقوق التّلاميذ ومصالحهم وهنا يكمن الخطر. 
إنّ الصدام بين الحكومة ومن يدعّمها والإتحاد العام التّونسي للشّغل لن يكون بالأمر الهيّن بل سيكون، لو حصل لا قدّر الله، نقطة بداية النّهاية لثورة هزّت أركان العالم ونارًا ستأتي على الأخضر واليابس ومنعرجًا خطيرًا قد تنزلق في نهايته المركبة ويومئذ سيفرح الشّامتون المتربّصون. 
تغييب الإحاطة بـ«الشّخصيّة التّونسيّة»
من أهمّ الأخطاء التي سقط فيها الماسكون بزمام الأمور في البلاد منذ نجاح ثورة الشّباب، عدم فهمهم لطبيعة «الإنسان التّونسي» ومطالبه في مرحلة ما بعد الثّورة، فقد انحصر اهتمامهم في برامجهم (إن كانت لهم برامج) على المسألة السّياسية في المقام الأوّل وذلك بالعمل على إنجاز الانتخابات وكتابة دستور جديد وبناء المؤسّسات الدّستوريّة مع البحث عن مسكّنات للأزمة الاقتصاديّة ظنّا منهم أنّه بجلب بعض الاستثمارات وتحقيق ارتفاع في مؤشّرات التّشغيل يستطيعون السّير بالبلاد إلى شطّ الأمان، متناسين أو متجاهلين أنّ الأولويّة تكمن في الإحاطة بـ«الشّخصيّة التّونسيّة» فهما وتفاعلا وعلاجا.
تناسى هؤلاء أنّ الشّعب بمختلف أطيافه، الذي وجد نفسه بين عشيّة وضحاها ينعم بالحريّة بلا قيد ولا حاجز، قد عاش ربع قرن من الاستبداد والقمع والذّل وأنّ الشّباب تربّى على ثقافة بلا هويّة وأنّ النّخب قد انقسمت بين موالاة تسوّق للطّاغية وتبرّر عنفه واستبداده، ومعارضة مطاردة لا يحقّ لبعضها التّواجد ولا يسمح لبعضها الآخر بالنّشاط أوالاختلاط بالنّاس.
تناسى هؤلاء أنّهم أمام كتلة بشريّة مشحونة تريد أن تفرّغ ما بداخلها من طاقة سلبيّة تراكمت عبر السّنين، فعبّرت عنها بحركة مطلبيّة قلّ وجودها في صفوف الطّبقة الشّغيلة وجموع الموظّفين والإطارات من جميع الاختصاصات تقودها أكبر منظمة شغيلة في البلاد من أجل الرّفع في الأجور والحصول على امتيازات حُرِمَ منها الجميع طيلة عشريتين كاملتين. كما عبّر عنها آخرون بممارسة العنف والحطّ من هيبة الدّولة ومؤسّساتها ليكتشف، الجميع، أنّ البلاد بدأت في جني ثمار ما فعله بن علي في الشّعب ونخبه وأنّها أصبحت تعيش مرحلة تفريغ للكبت والقمع والحرمان. لقد غدت أغلب النّخب فاقدة تماماً لمعاني الحوار والاختلاف وقبول الآخر وصار جلّ الشّباب (المسيّيس وغير المسيّيس) متمرّدا لا يريد قبول أي نوع من القيود، فانتشرت ظواهر التّشاجر و«البلطجة» وعشق مخالفة القوانين والحنين إلى المواجهات.
كان على النّخب الماسكة بدواليب الأمور سواء في الحكم أو في المعارضة العمل على التحكّم في عمليّة التّفريغ هذه لتحويل طبيعتها إلى طاقة إيجابيّة، لكنّها لم تفعل بل انخرطت في الاستفادة من تلك الكتل البشريّة المشحونة لتحقيق مآربها الحزبيّة الضيّقة واستغلالها في تصفية حسابات قديمة لا طائل من ورائها سوى تعكير الجوّ العام وتعطيل المسار الانتقالي الهشّ.
خطأ، إن أردنا تجاوزه ومحو آثاره،علينا أن لا نتراجع في نشر الحرّية وثقافة الاختلاف وفنّ الحوار المتحضّر بين مختلف مكوّنات المجتمع التّونسي وخاصّة الشّباب منهم، فهم الأكثر نشاطاً وتأثيراً، كما أنهم الأكثر قابليّة واستعداد للتّعلم من غيرهم. وعلى النّخب بتنوّع مشاربها الفكريّة أن تتنازل في داخلها عن شرعيّتها النّضالية والانتخابيّة والعلميّة وتضع نفسها في خدمة الجماهير. عليها أن تغيّر طريقة حوارها مع النّاس في الشّكل أوّلا والمضمون ثانيا، فلا مجال للجلوس مثلا على منصّة مرتفعة للخطابة في النّاس ولا نتائج ترجى من عمليّات التّلقين. إنّ الشّباب في حاجة إلى من ينزل إلى ميادينهم، يجلس معهم ويصبر على أذاهم ويتحدّث لغتهم لكن بمضمون إيجابي ومتفائل، يبني ولا يهدم.
على الجميع، إن أرادوا وضع حدّ لهذا الخطأ، أن يجعلوا من الإحاطة بـ «الشخصية التونسية» ومعالجتها أساس مشروعهم الوطني وأن يعملوا على تحقيقها من خلال أربعة محاور متلازمة : «نشر ثقافة الحوار والتّسامح والتّعاون والنّهوض بالتّربية والتّعليم لبلوغ مستوى عالٍ ورفيع والالتزام بالدّيمقراطية منهجا وسلوكا وإستخدام التّكنولوجيات الحديثة فى العمل والإنتاج» ولنا في تجربة الشّعبين«الفنلندي» و«الماليزي» خير مثال، فقد استطاعا أن يحوّلا بلديهما من دولتين فقيرتين جداً إلى دولتين غنيّتين ومتقدّمتين في زمن وجيز. فهل يستطيع التّونسيّون أن يحوّلوا اتجاه سفينتهم نحو هذا الهدف المنشود لترسو بميناء التّقدم والرّقي أم سيواصلون في نفس المسار والله وحده يعلم مآل سفينتهم ومرساها؟ 
الخاتمة
بعد سبع سنين من الأمل الممزوج بخوف عن مصير ثورته، أصبح الشّعب التّونسي أو لنقل الجزء الأكبر منه يتساءل عن مستقبل انجازه الذي وقفت له الأمم الأخرى إجلالا وتعظيما. وغدا البعض يشكّك في مصير هذا الإنجاز ويرى أنّ تضحيات الفقراء والمستضعفين في تونس قد ذهبـت سدى وأن تحقيق التّنمية أصبح حلما صعب المنال وتعالت أصوات من كهوف الزّمن الغابر تتباكى عهدي بورقيبة وبن علي وتروّج إلى بضاعة قديمة في ثوب جديد. 
ولأنّنا شعب لا يفقد الأمل وإن غاب، فإنّ المجال مازال مفتوحا لتعديل المسار والتّفكير جيّدا في مصلحة البلاد العليا بعيدا عن التّجاذبات التي هي كالملح في الطّعام لكنّ كثرتها تضرّ بالبلاد وتعطّل قطار الإصلاح.
لقد خرجت البلاد من الاستبداد لكنها لم تدخل عالم الديمقراطية بعد فلابدّ من المرور بمرحلة انتقاليّة قد تقصر أو تطول حسب جهد وذكاء الفاعلين ولا يمكن لهذه المرحلة أن تمرّ بسلام مادام الصّراع يتصدّر الحراك بدل التّنافس، فقليلا من العقل أيّها السّياسيون والنّقابيون ... وانظروا إلى أمامكم ولا تنظروا تحت أقدامكم واعتمدوا على عقولكم ولا تعتمدوا على عواطفكم وفكّروا في المواطن المسكين والشّهيد وأمّ الشهيد والجريح الذي لم يشف من جرحه بعد ولا تفكّروا في مصالحكم الحزبيّة والايديولويجيّة الضّيقة... 
تذكّروا العناصر العسكريّة والأمنيّة التي استشهدت وهي تدافع عن سلامة التّراب الوطني وتصدّ جماعات إرهابيّة مسلّحة لا تتحرّك إلاّ عند الأزمات وتعرف كيف تستغلّ لحظات الاحتقان والفوضى. فالتّاريخ لا يرحم وسيذكركم بالاسم ويذكر أنّكم أضعتم فرصة على هذا الشّعب في تأسيس دولته الدّيمقراطية ليعيش فيها بأمان وسلام ويحقّق التّنمية التي حلم بها طيلة عشريّات من القحط والظّلم والاستبداد.... استفيقوا يرحكم الله...