الأولى

بقلم
فيصل العش
الحرّية في المجتمع الإسلامي: من قيمة ثابتةفي البناء إلى قيمة مقاومة
 تمهيد
كانت مسألة «الحرّية» محور الصّراع الإنساني بين من يرغب في تحقيقها من شعوب وساسة ومفكّرين ومن يتصدّى لهذه الرّغبة من أنظمة مستبدّة ومحتلّ غاصب ومتطرّفين ولازالت، صراعٌ ذو وجوه متعدّدة : فكريّ وثقافيّ واقتصاديّ واجتماعيّ، تطوّر في أغلب الأحيان إلى اقتتال وإراقة للدّماء. وعلى مرّ التّاريخ كان هذا الصّراع حاضرًا في شكل أحداث اجتماعيّة وسياسية من أرقى تعبيراتها تلك الثورات وحركات الاحتجاج التي قامت ضدّ الظّلم والاستبداد في مناطق مختلفة من العالم(1). ولعلّ ما حصل منذ سنوات ويحصل اليوم من غليان واضطراب عنيفين في الوطن العربيّ خاصّة بعد اندلاع الانتفاضات العربيّة الأخيرة، هو أحد التّعابير الحيّة عن أزمة «حرّية» في عالمنا العربي. فقد حاولت تلك الانتفاضات - التي كان شعار الحرّية أهمّ شعاراتها - القطع مع الاستبداد ودعت إلى تكريس قيمة «الحرّية»، لكنّها أصيبت في مقتل بحيث أصبحت أقرب إلى الفشل من النّجاح وهي تبشّر فيما هو ظاهر للعيان بانتكاسة وبعودة قويّة للاستبداد والتّبعيّة للقوى الخارجيّة من جهة وانتشار ظاهرة التّطرف الدّيني بلبوس عسكري في أغلب المناطق العربيّة من جهة أخرى. 
غربة الحرّية 
تعيش المجتمعات العربية الإسلامية أزمة «حرّية» حقيقيّة ذات جذور موغلة في التاريخ وذلك في مجالات الحياة المختلفة وخاصّة السّياسية منها. فمن نافلة القول أنّ الفترات التي بزغت فيها شمس الحرّية في هذه المجتمعات قصيرة لا تمثّل شيئا يذكر في التّاريخ أمام فترات الاستبداد السّياسي وقمع الحرّيات. فهل أنّ مطلب «الحرّية» مطلب دخيل على ثقافة الشعوب العربيّة؟ وهل يعني هذا أنّ «الحرّية» قيمة مستوردة ومأخوذة عن الغرب وهي غريبة عن مجتمعاتنا وعن ديننا؟ وهل يكفي الارتكاز على مواقف وأحداث في التّاريخ الإسلامي وعلى تصرّفات ظالمة مارسها الحكّام في الوطن العربي والإسلامي على مدى قرون، لنثبت غربة «الحرّية»؟
الجواب على هذه الأسئلة بديهي بداهة وجود الإنسان، فلا وجود لثقافات بشريّة لا تكتسي الحرّية فيها من أهمّية ما يجعلها إحدى الرّكائز الأساسيّة لبنائها، إذ الحرّية كقيمة إنسانيّة هي من فطرة الإنسان وهي المنطلق والمقصد بالنسبة لحركة الإنسان وفعله على وجه الأرض. ولا تختلف المجتمعات العربية الاسلاميّة عن غيرها من المجتمعات في هذا الشأن، لهذا كانت مسألة «الحرّية» حاضرة بقوّة في تاريخ المجتمع المسلم منذ تأسيسه سواء كقيمة ثابتة في فلسفة التكوين أي أنّها كانت إحدى الرّكائز للدّعوة المحمّدية التي حوّلت المجتمع العربي الجاهلي إلى مجتمع مسلم أو كقيمة مناضلة ومقاومة بعد الانحراف الذي أصاب تلك المجتمعات سواء في المجال السّياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي. 
الحرية في السياق التاريخي للمسلمين
ما فعله الرّسول صلّى الله عليه وسلّم وواصل تحقيقه أبو بكر وعمر من بعده في زمن قياسي، لدليل قاطع بأنّ «الحرّية» كانت أهمّ الأسس والقيم التي قام عليها المجتمع المسلم. فقد أسّس الرّسول صلّى الله عليه وسلّم دولة انطلقت من المدينة ببضعة أعشار من المهاجرين والأنصار لتتمدّد طولا وعرضا، مهيمنة على امبراطوريتين كبيرتين كانتا تتقاسمان العالم وهما الفرس والرّوم. ما كان ذلك ليحصل لولا شخصيّة «المسلم» التي بُنيت في رحاب القرآن الكريم على أساس الحرّية والإرادة بعد أن خضعت إلى ثورة معرفيّة شاملة شعارها «لا اله إلاّ الله» تحت إشراف النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ الذي أرسله الله لـ « يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ»(2). ثورة وضعت الأغلال عن النّاس أي حرّرتهم من كلّ القيود، فكانت الحرّية شرطا للإيمان «فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ»(3) و«لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ»(4) و«فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ، لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ»(5) وكانت أيضا شرطا لتجسيد خلافته على الأرض لأنّ هذا التّجسيد يقتضي أن يكون الإنسان مسؤولا ولا يمكن أن يكون مسؤولا إلاّ إذا كان حرّا في إرادته «وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ»(6)، فالخلافة لا تتحقّق إلآّ بذات فاعلة حرّة موجّهة لحركة التأريخ. والإنسان الحرّ هو الوحيد القادر على التغيير «إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِرُ مَا بِقَوم حَتَّى يُغَيِرُوا مَا بِأَنفُسِهِم»(7). وكانت الحرّية شرطا في تحقيق التّعايش على قاعدة السّلم «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً»(8) وتجسيدَ مبدإ التعارف مع الآخر، المختلف في العقيدة «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا»(9) فكانت حرّية العقيدة هي أساس الدّعوة المحمّدية «لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ»(10).
لكنّ تلك الحرّية تعرّضت للمصادرة مع تحوّل الحكم من خلافة على منهاج النّبوة إلى ملكٍ عضوض بداية من العهد الأموي ثم تكرّست تلك المصادرة مع الدّولة العباسيّة التي بنت دعوتها بغطاء ديني(11)، تحوّل بمرور الوقت وبتزكية من فقهاء السّلطان وتأويلاتهم(12) إلى واقع ثابت توسّعت فيه دائرة المقدّس ليتمّ خنق «الحريّة» من طرف سلطتين واحدة سياسية مستبدّة والثانية روحيّة من أهمّ أدواتها «مصنفات العقائد التي هي منظومات دَجْمًا تأويليّة للقرآن والسّنة تريد أن توثّن أحد الفهوم على أنّه حقيقتها المطلقة حتّى باتت بديلا عن القرآن والسّنة» (13) ومن ثمّ ضاعت «الحرّية» واختفت بين طيّات مدوّنات تراثية امتلأت بنصوص تحثّ على طاعة الاستبداد والاستسلام له بتعلّة اتقاء الفتنة، وتأويلات مغلوطة للقرآن تحوّلت بمرور الزّمن إلى نصوص مقدّسة وتمّ تسويقها كصورة رسميّة للإسلام، فكان غلق باب الاجتهاد والقتل باسم الدّين واتّهام المجتهدين بالردّة والكفر والزندقة واختلاق مفهوم سدّ باب الذّرائع للتّضييق على النّاس انطلاقا من العبادات ليشمل بقية المجالات. هذه الصّورة لا تؤمن بالحرّية ولا تولّيها أهمّية تذكر، وقد ترسّخت فى الأذهان مع انحطاط الأمّة الاسلاميّة وتآكلها وتداعي بقيّة الأمم عليها وهي اليوم أكثر تأكّدا مع بروز الحركات المتطرفة وتحالف المؤسّسات الدّينية وعدد لا يستهان به من العلماء مع الأنظمة القمعيّة التي تحكّمت ولا تزال في رقاب شعوبها بالحديد والنار(14)  
الحرية كقيمة مناضلة ومقاومة
مع انتهاء تجربة المسلمين الأولى وهيمنة «الحكم العضوض»، لم تعد «الحرّية» حاضرة كقيمة أساسيّة في المجتمع المسلم وخاصّة لدى الحكّام ومن والاهم من فقهاء ومحدّثين، فتحوّلت إلى قيمة مناضلة ومقاومة اتخذها المعارضون والمصلحون من سياسيين وعلماء ومفكرين وفلاسفة شعارا وهدفا، وخاضوا من أجلها صراعات  مريرة . فقد كان الصّراع على أشدّه في الأوّلين بين الفرق الكلاميّة وخاصّة بين المعتزلة القائلة بالإرادة الحرّة عند الإنسان والجبريّة (16) القائلة بالجبر المطلق إلى أن استقرّ الأمر للمدرسة الأشعريّة(17) التي دعت إلى القبول بالجمع بين الحرّية والجبريّة بمستويين مختلفين.
فقد أكّد المعتزلة على قيمة «الحرّية» وقاوموا الفكر الجبري عبر التّأكيد على حرية الإنسان في أفعاله. وقاموا بربط فكرة «الحرية» بمفهوم العدل الإلاهي، فلو كانت الأفعال الإنسانية من صنع الله ولو كان الإنسان عديم الحرّية في فعل ما يشاء، لأصبح التكليف الإلهي والرّسالات والأنبياء ضربًا من العبث. ولئن كان هذا الصّراع ذا طابع فلسفي وفقهي بالأساس، حيث كانت معانيه تدور حول الجبر والاختيار والقضاء والقدر ومسألة الأفعال في إطار العلاقة مع الله سبحانه وتعالى، فإنّ محرّكه الأساسي كان سياسيّا بامتياز.
وظلّت إشكالية «الحرّية» من المواضيع الرّئيسيّة التي شغلت الكثير من الفلاسفة والمتكلّمين المسلمين من  بينهم الفيلسوف القرطبي محمد بن أحمد بن رشد (1126 - 1198 م) الذي اهتمّ كثيرا بمعالجة هذه الإشكالية من خلال مجموعة كبيرة من الكتب (18) ناقش فيها مختلف المدارس الفكرية الإسلاميّة ومواقفها من الحرّية وعلاقتها بمسألتي القضاء والقدر خاصّة. وقد نجح فقهاء قرطبة في إبعاد ابن رشد ونفيه وحرق كتبه لما كان يمثله بالنّسبة إليهم من خطر على مصالحهم حيث كانوا يعلمون علم اليقين أن نتيجة سعيه إلى تنوير العقول وتحرير الإنسان، ستكون حتما تجريدهم من سلطتهم.
ومن العلماء الذين استطاعوا التخلّص من عباءة التّراث وقاموا بمحاولات جادّة لتثمين مبدأ الحرّية واعتباره أساسا للدّين الإسلامي ومقصدا أساسيّا من مقاصد شريعته نذكر الإمام الشاطبي (ت.1388م) الذي شكلّ مجهوده المتفرّد في «الموافقات» الإطار العام لمعالجة مبحث الحرّية وشكّلت أطروحته النّظرية حول مقاصد الشّريعة إطارا للحقوق والحرّيات العامّة من منظور إسلامي، ورفاعة الطهطاوي (1801-1873م) الذي ركّز على الجانب القانوني والسّياسي في مبحث الحريّة خاصّة في كتابه «المرشد المبين» وهو يعدّ من الأوائل الذين حاولوا إدخال مصطلح «الحرّية» المجال التّداولي العربي، بعد أن ماثلها تراثيّا بالعدل والإنصاف واعتبرها مسألة فطرية لدى الإنسان، وعبدالرحمان الكواكبي (1855-1902م) في كتابه «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» والعلامةُ محمد الطاهر بن عاشور (1879-1973م)، الذي يعدّ ـ فيما أعلم ـ أوّل من جعل الحرّية من مقاصد الشّريعة الإسلاميّة وأصَّل لها، لا سيما في كتابه: «أصول النّظام الاجتماعي في الإسلام» ولو أنّه لم يعمق البحث في الحرّية كمبحث وجودي وإنساني واجتماعي نظرا لثقل الثقافة التّاريخية وملابساتها التي كان يحملها في ذهنه كفقيه تقليدي.
مبحث الحرية في المجتمعات الاسلامية المعاصرة
مع هيمنة الحضارة الغربيّة فكرا وسياسة واقتصادا، عادت مسألة الحرّية لتطفو من جديد على سطح الاختلافات والصّراعات خاصّة مع محاولات حركات الإصلاح وبروز تيارات فكريّة وسياسيّة على السّاحة العربيّة الإسلاميّة. فقد وعى منظرو تلك الحركات والتّيارات المكانة المحوريّة للحرّية كقيمة أساسيّة تحدّد فاعليّة الإنسان ودوره التّاريخي والحضاري، فتجنّدوا للبحث في معانيها وفي أسباب تغييبها عن مجتمعاتهم وعن علاقتها بالدّين الإسلامي بصفته أهمّ الأعمدة التي تأسّست عليها تلك المجتمعات. وقد تعدّدت توجّهاتهم وتنوّعت رؤاهم وانقسموا فيما بينهم إلى خمسة تيارات :
- تيّار أول تشبّع بروح الثّقافة الغربيّة ورأى فيها النّموذج الأمثل للرّقي والتّقدم وانبهر بما تضمّنته من تقديس للحرّية الفرديّة فصار يلهث وراء ما يعتبره «أنوارا أوروبية» ويدعو إلى اعتناق أفكارها كسبيل للتحرّر والنّهضة مع تجاوز كلّ المعوقات التي تقف في طريق هذا التحرّر وعلى رأسها «الدّين». يقول سلمان رشدي صاحب كتاب آيات شيطانيّة: «إنّ النّظر إلى القرآن بوصف تعاليمه صالحة لكلّ زمان يضع الإسلام والمسلمين في سجن حديدي جامد، وأنّ الأفضل اعتباره - أي القرآن- وثيقة تاريخيّة» (19)
أثبت هذا التيار فشله في تجسيد «الحرّية» على أرض الواقع بل تسبّب بتقليده الأعمى للغرب في وأدها لأنّ التقليد ينبع عن فكر مسلوب الحرّية ولقد كانت لهذا التيّار تجربة واقعيّة فاشلة في أنظمة ما بعد الاستعمار أنتجت مزيدا من التبعيّة للغرب واستبدادا سياسيّا لا مثيل له، فازدادت محنة الإنسان العربي فلا هو تحرّر ولا هو تجاوزتخلّفه وإحساسه بالهزيمة تجاه الآخر. 
- تيّار ثان توفيقي يدعو إلى المزاوجة بين الشّرق والغرب، اتّجه إلى تأويل النّصوص الدّينيّة لتتطابق فكرة الحرّية في الإسلام مع المذاهب الفكريّة الأوروبيّة، بحيث يكون لدينا مفهوم للحرّية في الإسلام ضمن السّياق اللّيبرالي أو ضمن السّياق الإشتراكي.هؤلاء هم دعاة «التّوفيق بين الوجود والصّيرورة وبين الانتماء إلى الحضارة العربيّة والدّين الإسلامي من جهة، وإلى الحداثة من جهة أخرى» (20) 
أنتج هذا التيّار فكرة مشوّهة عن الحرّية تقوم على قشور من الدّين وقشور من حضارة الغرب، فلا هو حافظ على انتمائه الدّيني والحضاري الإسلامي ولا التحق بركب الحداثة، إنّه مثل الغراب الذي أراد أن يتعلّم مشية الطاووس ويحافظ على انتمائه للغربان، فلا هو تعلّم مشية جديدة ولا هو حافظ على مشيته. 
- تيّار ثالث رفض الفكر الغربي جملة وتفصيلا وما جاء به من قيم واعتبره مخالفا لشرع الله، حيث اعتبر «الحرّية» التي يبشّر بها هذا الفكر منفلتة تنزع عن الإنسان إنسانيته فينقاد إلى غرائزه المنحطّة وتنحط به إلى الدّرك السّفلي من حيوانيته. يقول الدكتور يوسف القرضاوي: « الحرّية التي ينادون بها هدفا ويرفعونها شعارا هي - عندهم- مجرّد مفهوم مائع، مطاط، غامض. هم الذين قصدوا أن يميّعوه ويمططوه ويغمّضوه  ليفسروه على هواهم ويطبقوه حسب مزاجهم ومصلحتهم الشخصيّة أو الحزبيّة أو الطائفية» (21) هذا التّيار يرى أنّ الدّعاة إلى الحرّية بالمفهوم اللّيبرالي الغربي يسعون إلى زعزعة ثوابت الأمّة والتّشكيك في مسلّماتها التي لا يمكن لدينها أن يقوم بدونها وفي المقابل يتمسّك بالحديث عن الحرّية ضمن مقولات المدرسة الأشعريّة وما جاء به الأوّلون رافعا شعار الحاكميّة لله ودستوريّة القرآن. 
هذا التّيار، الأكثر حضورا في المجتمع العربي الإسلامي، وإن دعى إلى الحرّية، فهو مقيّدها بما يرى أنّه الثّابت من النّصوص وإجماع العلماء، أي المقدّس، وبالتالي فإنّ حرّية الإنسان تتكيّف وفق قواعد الشّريعة والنّصوص المؤسّسة لها باعتبارها التّعبير عن إرادة الله، ولأنّ فهم هذه النّصوص ليس في متناول الجميع فقد تمّ احتكاره من طرف طبقة الفقهاء وعلماء الدّين الذين يعتمدون في ذلك على ما كتبه وسطّره الفقهاء الأوّلون . ولنأخذ «إعلان القاهرة لحقوق الإنسان» الصادر عام 1990 والذي تبّنته منظمة المؤتمر الإسلامي كمثال يوضّح ما ذكرناه إذ جاء في المادّة 24 منه : «كل الحقوق والحرّيات المقرّرة في هذا الإعلان مقيّدة بأحكام الشّريعة الإسلاميّة» وفي المادّة 25 « الشّريعة الإسلاميّة هي المرجع الوحيد لتفسير أو توضيح أي مادّة من مواد هذه الوثيقة» وهو ما يعني أن جميع الحقوق المذكورة في ثلاث وعشرين فصلا مبهمة وقابلة للتّعطيل بموجب ضوابط الشّريعة الموروثة المفتوحة على تأويلات شتّى. يقول جمال البنّا في هذا المجال واصفا قيمة الحرّية في فكر هؤلاء: «إنّ الإحساس بالحرّية في فكر الفقهاء والعلماء المسلمين ضحل ويكاد يكون منعدما يستوي في هذا المحدثون جنبا إلى جنب مع القدماء، فبقدر ما يتحدثون عن الحرّية بقدر ما يتّضح أنّهم إنّما يعنون بها حرّيتهم وليس حرّية الآخرين»(15) ومن هذا المنطلق فقد فشل هذا التيّار في تقديم إجابة شافية على مسألة «الحرّية» ولم يطوّر مفهوما واضحا لها، بل اكتفى بالدّفاع وتقديم بعض التعبيرات العامّة حول الحرّية. فهو يقرّ من جهة بحقّ الإنسان في أن يختار الكفر أو الإيمان، لكنّه يصنّفه «ذمّيا» إن اختار الكفر وبالتّالي فإن حقوقه في الدّولة الإسلاميّة تختلف عن حقوق المسلم، وهو إذ يقرّ بحرّية العقيدة فهو يرفض من ارتدّ والجميع يعرف حكم المرتدّ، وهو يقرّ بحرّية التعبير لكنّه يرفض من يعبّر عن تأويل مختلف للنّصوص أويسمح لنفسه بالتصدّي لمسائل تعتبر من المقدّسات أومن المعلوم من الدّين بالضّرورة، فينعت بالفسق وتسلّط عليه السّهام من كلّ حدب وصوب.
- تيّار رابع حاول التّوفيق بين التّيارين الثاني والثالث باعتبارهما متمسّكين بالمرجعيّة الإسلاميّة وعمل على إيجاد جسور للتّفاهم بينهما من دون الوصول إلى نتائج ملموسة.
- تيّار خامس يرفض محايثة (22) مفهوم الحرّية في الإسلام بنظيره الغربي بشقيه الفردي الليبرالي والطبقي الاشتراكي، لأنّه سابق له في التّاريخ ومختلف عنه وأكثر منه عمقا إذ يتخطّى معنى الحرّية حدود الفرديّة (الفردانية) ليبلغ المعرفة الكونية القائمة على وعي المسلم لذاته والكون المحيط به، فلا وجود للحرّية بمفهومها الليبرالي أو الاشتراكي في الإسلام. يسعى ممثّلوا هذا التيّار(23) إلى تقديم الإسلام كمنظومة مفتوحة للحرّيات تستوعب انتظارات الإنسان وطوقه للتّحرر من كلّ أنواع العبوديّة، معتبرين أنّ الغاية ليست الدّين وإنّما الإنسان في حدّ ذاته وأنّ الله الذي جعله خليفة على الأرض وعلّمه الأسماء وأسجد له الملائكة، أنزل القرآن ليساعده ويرشده في ممارسة خلافته «قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ» (24)، فالغاية هي الإنسان والوسيلة لهدايته هي الدّين، لهذا هم يختلفون مع منهج الفقهاء التقليدين الذين يجعلون من الدّين غاية ويجعلون من الإنسان وسيلة لتحقيق هذا الدّين على وجه الأرض. يدعو هذا التيّار إلى إعادة مفهوم «الحرّية» إلى جذوره القرآنية عبر قراءة منهجيّة لكتاب الله تفارق الاتباعيّة الفقهيّة والتّفسير التّجزيئي الذي يصادر مقاصد القرآن ويسلب منه البُعد الحضاري والإنساني لمفهوم الحرّية. إنّ الفرد في الإسلام لا يكون إلاّ حرًّا «فالإسلام يرى أنّ الأصل في الحرّية الإطلاق (...) وإنّما كان الإطلاق في الإسلام أصلا لأنّه لا يرى في ترقّي الفرد حدًّا يقف عنده، فهو عنده ساير من المحدود إلى المطلق»(25) 
الخاتمة
إن حاجة الشعوب العربية والإسلامية الى النهضة وضرورة التغيير والإبداع لا يمكن أن تنجز دون تأسيس مفهوم واضح للحرّية ليصبح ممارسة حيّة تتجاوز الجدال النظري. ولإن فشلت التيارات الأربعة الأخرى في تقديم رؤية واضحة تجيب عن الأسئلة الحارقة حول الحرّية في العالم الإسلامي والأزمة التي خلقتها وكيفيّة معالجتها، فإنّ الأمل كبير في ما سميّناه التّيار الخامس ليكون ليس فقط القاطرة التي ستحمل المجتمع العربي الإسلامي إلى عالم الحرّية الحقّ وتضع عن الإنسان المسلم إصره والأغلال وتجعله في موقع صاحب قرار له إمكانات التّصرف، بل تجعل من الإسلام دينًا كونيًّا وفلسفة إنسانية عامة.
لكنّ هذا التيّار مازال يبحث لنفسه عن موقع قدم في السّاحة الفكريّة الإسلاميّة التي يهيمن عليها الفكر التّقليدي السّلفي ومازالت أفكاره وكتاباته لم تتجسّد كتيار حقيقي حيث لم نر أيّ تنسيق بين المفكرين والكتّاب الذين يمثلونه، والكثير منهم مازال مجهولا بالرغم من تعدد منتجاتهم. فهل سيقدر هذا التّيار على صلب عوده وإيصال أفكاره وبالتالي التأثير في المجتمعات الإسلاميّة عامّة وفي نخبها خاصّة؟ 
وهل يخشى هذا التيّار أن يسقط في الفخّ الذي انتقد به التيارات الاسلاميّة الأخرى وهو احتكارالمقدّس بما أنّه يصرّح بأنّه ينطلق من القرآن أساسا باعتباره الكتاب الخالد والمهيمن على الفكر البشري كله، لتطوير نظرية قرآنيّة لحرّية الإنسان، وهذا التّطوير ليس قفزًا عبر الفضاء، ولا هو قول بالرّأي الفجّ، وإنّما هو «ارتفاع من نصّ فرعي يستلهم أكثر ما يمكن من التّسامي نحو نصّ أصلي... هو ارتفاع من نصّ إلى نصّ..»(26) ألآ يصحّ القول بأنّ هذا التيّار لا يختلف عن التّيار الأصولي ولا السّلفي، فالكلّ مؤوّل للنّص يُقوّله ما يريد هو قوله؟
الهوامش
(1) نذكر من بينها على سبيل المثال لا الحصر ثورة «ايبوير» في عهد الدولة المصرية القديمة وهي ثورة اجتماعية امتنع الناس فيها عن دفع الضرائب وحرث الحقول وهاجموا مخازن الحكومة، وثورة «سبارتاكوس» في القرن الأول قبل الميلاد وهي إحدى كبرى الإنتفاضات التي قام بها رقيق الامبراطورية الرومانية، وثورة الزنج في العراق على الخلافة العباسية (869 - 883م) وثورة الفلاحين في ألمانيا (1524-1525م)، والثورة الفرنسية (1789 - 1799م)، التي رفعت شعار«الحرية والمساواة والأخوة»، وكانت لها تأثيرات عميقة على أوربا والعالم الغربي عموما وإخراجها من سطوة الكنيسة والإقطاع إلى فضاء الدولة المدنية والحريات الفردية. كما نذكر ثورات التحرير العربية ضد الاستعمار كالتي حدثت في المغرب العربي وخاصّة الجزائر وفلسطين وحركات التّحرر في أمريكا الجنوبيّة وثورة الزنوج في جنوب افريقيا ضدّ الميز العنصري والثورة الايرانيّة ضد طغيان الشّاه (1978).
(2) سورة الاعراف - الآية 157
(3) سورة الكهف - الآية 29
(4) سورة البقرة - الآية 256
(5) سورة الغاشية - الآيتان 20 و21 
(6) سورة الأعراف - الآية 129
(7) سورة الرعد - الآية 11
(8) سورة البقرة - الآية 208
(9) سورة الحجرات - الآية 13
(10) سورة الكافرون - الآية 6
(11) تعتبر مدرسة عبد الله بن عباس الحركية والشرعية هي المرجعية للدعوة العباسية، وفي ذلك يقول الفخري صاحب الآداب السّلطانية : « واعلم أن هذه الدولة من كبريات الدول ساست العالم سياسة ممزوجة بالدين والملك، فكان أخيار الناس وصلحاؤها يطيعونها تدينا، والباقون يطيعونها رهبة أو رغبة»(الفخري في الآداب السلطانية والدول الإسلاميّة، تأليف محمد بن علي بن طبطابا المعروف بابن الطقطقي ، طبعة 1858م، ص.164) 
(12) منهم من أنكر وجود «الحرّية» في الإسلام أصلًا وحجبه عن الإسلام بقوله «لا حرية في الإسلام» زاعمين أنّه دين عبودية وخضوع لله عز وجل، ومنهم من ضيّق واسعا فحصروا الحرّية في مصطلح يقابل مصطلح الرّق والعبودية، وقد أسهبوا في استحضار أدلة الشريعة في محاربتها للرّق وإعتاق العبيد متناسين عن جهل أو عن قصد مناقشة «الحرية» كجوهرة قيمية وإنسانية.
(13) أبو يعرب المرزوقي، حرية الضمير والمعتقد في القرآن والسنة -سلسلة الكوثرالدار المتوسطية للنشر ط.1 - 2009 - ص242- 
(14) عادة ما يرتكز المستبد على حاشيته من علماء الدّين لإيجاد غطاء شرعي لما يقترفه من جرائم في حق معارضيه أو لتمرير قوانين تخدم مصالحه ولا تخدم مصالح الشعب. 
(15) جمال البنا، الحرّية في الإسلام - مؤسسة الانتشار العربي ، ط.1 سنة2011 - ص206
(16) من أشهر فرقها الجهميّة نسبة إلى الجهم ابن صفوان.
(17) نسبة لأبي الحسن الأشعري المنظر الأول لمواقف أهل السنة، ولد 260 هـ وتوفي سنة 324 هـ
(18) من بين هذه الكتب نذكر : «الكشف عن مناهج الأدلّة في عقائد الملّة» و«فصل المقال في ما بين الحكمة والشريعة من الاتصال» و«بداية المجتهد ونهاية المقتصد»
(19) سلمان رشدي، التايمز اللندنيّة، أوت 2005 - ذكره فهمي جدعان في كتابه المقدّس والحرّية - المؤسسة العربية للدراسات والنشر - الطبعة1 - 2009 - ص25
 الشرفي، الاسلام والحرية، دار الجنوب للنشر - سلسلة معالم 
(20) محمد الشرفي، الاسلام والحرية، دار الجنوب للنشر - س. معالم الحداثة - ط.2 - 2002 - ص 19 
(21) يوسف القرضاوي، الحلول المستوردة وكيف جنت على أمّتنا، ص 220 
(22) المحايثة تعني « الملازمة لكائن أو لمجموعة كائنات ولا ينشأ المحايث عندها من فعل خارجي». معجم لالاند.منشورات عويدات،بيروت-باريس,1996,ص.623. 
(23) ينظر على سبيل المثال المفكر السوداني محمد أبو القاسم حاج حمد في كتاب «الحرية في الاسلام» والمفكر الإيراني الشهيد الدكتور علي شريعتي والمفكر السوداني الشهيد محمود محمّد طه (1909 - 1985) في كتابه «الرسالة الثانية من الإسلام»...
(24) سورة البقرة - الآية 38
(25) محمود محمّد طه، الرسالة الثانية من الإسلام - ط.3 - 1969السودان أم درمان - ص 41 و 42
(26) محمود محمّد طه، الرسالة الثانية من الإسلام - ط.3 - 1969السودان أم درمان - ص 200