الإفتتاحية

بقلم
فيصل العش
الإفتتاحية
 جميعنا يحلم بمجتمع يسوده العدل والمساواة بين أفراده ودولة تقوم على أساس المواطنة تحترم حقوق الإنسان وتتبنّى سياسات اجتماعيّــــــــة وتربويّة وثقافيّة وبيئيّــة تحقّق طموحات المواطنين وترسم طريق تنمية عادلة وشاملة تُخرج الناس من التبعيّة وتحقّق الازدهار والرّقي والتّقدّم. آباؤنا وأجدادنا منذ عقود طويلة حلموا أيضا مثلنا لكنّ حلمهم  لم يتحقّق، واستمر التخلّف وغياب العدالة ميزة لمجتمعاتنا، ولا تزال شعوبنا تعيش الفقر والتّهميش والتّجهيل بالرّغم من امتلاكنا لثّروات مادّية ودّيمغرافية يحسدنا عليها العالم. ألم تفشل دول ما بعد الاستعمار أو ما سمّى تعسّفا الدّول الوطنية الحديثة في أن تكون حرّة ومتقدّمة؟ ألم تتحول إلى سلطة مستبدّة أهانت مواطنيها وزرعت ثقافة الخوف والاستكانة فغابت فيها مقومات الحياة الكريمة حتّى إذا ثار النّاس وأسقطوا رموز الاستبداد والفساد وأبعدوهم عن رأس الدّولة وحاولوا إعادة التّأسيس فشلوا وانتكست ثوراتهم من جديد وتحوّلت مجتمعاتهم إلى بُؤَرِ قتالٍ ونزاعٍ على سلطان يبغي الالتفاف على الإرادة الشّعبية الحرّة والتّحكم في رقاب النّاس واستغلال ثرواتهم. 
ليس هناك اختلاف كبير بين حالنا وحال أسلافنا، فقد أصيبت ثوراتنا التي لم يتجاوز عمرها ست سنوات بانتكاسة خطيرة حوّلت ربيعنا إلى خريف بدأت معه  مكاسبنا تتساقط الواحدة تلو الأخرى كما تتساقط الأوراق الصفراء من الشجر.   لم يبق من الربيع العربي إلاّ زهرة واحدة نخشى أن يقضي عليها طوفان الانتكاسة. هي التجربة التونسية التي مازالت صامدة بالرغم من الهزّات المتكررة والمتتالية التي أصابتها. فأين الخلل يا ترى؟ وما سبب الفشل الذريع الذي يطبع كل محاولات التحرر من الاستبداد والطغيان في عالمنا العربي ؟
السبب أن ما حدث لم يرتق إلى ثورة حقيقية حيث اكتفت الشعوب الثائرة باسقاط رأس النظام ولم تنتبه إلى مغبّة الإطاحة بالطّاغية دون الإطاحة بأسباب الطغيان . وأسباب الطغيان عديدة بعضٌ منها يكمن فينا نحن الشعوب، في ثقافة مجتمعاتنا وسلوك أفرادها.  
وأنت تتجول في ربوع هذا الوطن تلمس بوضوح غياب الوعي القادر على البناء وحالة اليأس والقنوط التي تسري في عروق النّاس والشّعور بالإحباط الذي يقود إلى العنف أو اللاّمبالاة مقابل هيمنة ثقافة الاستهلاك والمتعة والتّسول والانتهازيّة، ويمكنك أيضا أن تعاين بسهولة الفجوة الضّخمة التي تفصل النّخب عن عامّة النّاس والأغنياء عن الفقراء وأهل الشّمال عن أهل الجنوب، فجوة ظاهرها مادّي وباطنها ثقافي واجتماعي بامتياز. التطرّف هو ما يميّز واقعنا، تطرّف الأقلية المتّخمة بالغنى وتطرّف الفقر المدقع والمهين على أغلب النّاس، تطرّف ديني وتطرّف لاديني مع غياب تامّ لاستراتيجيات واضحة نابعة عن حوار مجتمعي حقيقي لمواجهة هذا الغلو وهذا التّطرف والمخاطر والتّهديدات التي تنجرّ عنهما.
التجربة التونسية زهرة ذبلت لكنّها لم تمت، تبحث عن قطرات ماء أو ندى لتعيد لها حيويتها. قطرات ربّما لا تأتي إذا ما واصلنا تجنّب الطريق الصحيح للإصلاح الجذري.
الإصلاح الجذري والمتدرّج منهجا، إصلاح يشمل كلّ القطاعات ويبدأ بالاعتناء بثقافة الإنسان ويمتدّ إلى مختلف المجالات في التّربية والتّعليم والأسرة والعلاقات الاجتماعيّة والمؤسّسات السّياسيّة والاقتصاد. والاعتناء بثقافة الإنسان ينطلق بالاستماتة في الدفاع عن الحرّية كمبدأ أساسيّ للحياة الفرديّة والجماعيّة وترسيخ ثقافة الحوار والتّسامح والقبول بالاختلاف والتعدّد وتربية النّاشئة تربية سليمة متوازنة تُحِـلُّ قيم الأخلاق والسّلوك الحسن والعمل والإتّقان والابتكار والتّضامن مرتبة عالية، وتطوير الحياة الثقافيّة بما يجعلها تساهم في تهذيب الذوق الفردي والعام  وتكون دافعا للإبداع الفكري والأدبي والفنّي. 
«الإصلاح» الثقافي هو ركيزة البناء الحضاري للأمم ومن دونه فإنّ كل الإنجازات والمكاسب إن تحققت لا تعدو أن تكون وهما وزبدا يذهب جفاء ولا ينفع النّاس في شَيء. نحن في حاجة أكثر من أي وقت مضى إلى رجال صادقين ونساء صادقات ، مثقفين ومثقفات، مهما اختلفت خلفياتهم الفكرية، لا تحرّكم مصالح ولا حسابات تجمعهم فكرة «للإصلاح» تنبع من الإنسان وتعمل بالإنسان من أجل الإنسان. تعبّر بمختلف الأشكال والوسائل الثقافية المتاحة عن تطلّعات المحرومين والمهمّشين والكادحين والثّائرين على أنظمة الاستبداد والفساد، تناهض كلّ أشكال التمييز  وتجعل من الحرية والمساواة شعارا لإرساء ثقافة تكون عمادا وأُسّا لبناء الوطن.
فهل فيك يا تونس هؤلاء؟ أم أنّ حلمنا سينتهي كابوسا وستنتظرين ربمّا طويلا قدوم جيل جديد ليبدأ حلما جديدا.