الإفتتاحية

بقلم
فيصل العش
الإفتتاحية
 يقضّي بعضنا جزءًا كبيرا من حياته بما فيه أفضل سنوات عمره وهو يناضل من أجل فكرة أو مشروع يساهم من خلاله في كسر طوق الجهل والفقر والتخلّف الذي يحيط به من كلّ جانب . إننّي أتحدّث هنا عن أولئك المرابطين في الحقل الفكري والثقافي، أؤلئك الذين آمنوا بأن الثقافة هي ميدان المعركة وأنّ الفكرة هي أساس التغيير وأنّ القلم والكلمة هما الرصاصتان اللتان بهما يقضى على الجهل والتخلّف وأنّ التغيير الثقافي هو أسرع طريق لتغيير الواقع، فلا أمل في نهضة من دون كتاب ومسرحيّة وشريط وأغنية وإعلام محترف هادف لأنّ البداية تكون بإصلاح الإنسان وتنقية  ثقافته من كل ما يكبّل انتاجه ويعيق إبداعه. فإذا صلح الإنسان وأصبح حرّا وواعيا ومسؤولا، استطاع أن يلتمس طريقا أفضل للحياة ويسير بخطىً ثابتة إلى  النمو والازدهار. 
عندما يتوقف أحد هؤلاء  برهة من الزمن ليقيّم ما أنجز  من قول وعمل وينظر من حوله، يكتشف أنّه كمن كان يحرث و يزرع في البحر فلا نبات ولا ثمار وإنّما دمار على دمار. يكتشف أنّ محاولاته لم تنتج سوى السّراب وأنّ كتاباته وأقواله وأعماله لم تغيّر في الواقع شيئا فكأنّه الطبيب يصبّ الدّواء في عيني أعمى يريد شفاءها.  
آمن بأن من واجبه أن يتمم مكارم الأخلاق وينشرها بين الناس، فيكتشف أنهم قد ولّوا وجوههم عنها فلم يعد للأخلاق مكان في قاموس حياتهم . آمن بأن حبّ الناس من حبّ الله، وأنّ انتشار المحبّة بينهم من شأنه أن يزرع فيهم الطمأنينة والأمان ويعطي للحياة معنى . فدعى إلى نبذ الأنانية ونشر ثقافة  التعاون،لكنّه اكتشف أن النتائج كانت عكسية، إذ طغت الأنانية على الناس وانتشر الحقد والكراهية بينهم، فتخاصموا وتقاتلوا حتّى أصبحت الحرب خبزا يوميّا وغدا القتل والدّمار عادة ولم تعد رؤية صور الموتى جرّاء ما يحدث بين أبناء الوطن الواحد  والدّين الواحد تحرّك في الناس ساكنا وكأن الأمر طبيعي.
سعى إلى نشر ثقافة العمل وتقديسه ونبذ الكسل وتدنيسه، فخاب سعيه، إذ قلّ عزم الناس على العمل فلم يعودوا يؤمنون بقداسته ولا يعتبرونه الطريق لكسب الثروة والنماء، فقد تعدّدت بالنسبة إليهم طرق جني المال ولايهمّ إن كانت على حساب الغير أو من دون جهد أوعمل . 
حارب «التبعيّة» بجميع أشكالها وحاول مساعدة الناس على المحافظة على سيادتهم وهويّتهم فلم يجد لهم عزما. سار أغلب الناس كما يسير القطيع في اتّجاه عولمة مغشوشة تكرس النمطيّة و تعلي من قيمة السّطحي والعابر على حساب ما ينفع الناس ويمكث في الأرض.
ذكّر الناس بفلسطين وتاريخها وبالمسجد الأقصى وقدسيته مبيّنا أنها البوصلة وقلب المعركة مع العدوّ وأنّ القدس هي عروس عروبتهم لكنّه اكتشف أنّهم قد باعوا القضيّة وأدخلوا كلّ زناة اللّيل إلى حجرتها وبقوا يسترقون السمع لفضّ بكارتها. لم تعد فلسطين من أولوياتهم، فقد هرول أغلبهم إلى المغتصب يرجو معه التطبيع وأعلنوا أنّ الشرف غدا سلعة  للبيع. 
ليس أصعب من أن يشعر هذا المثقف بالفشل أو استحالة نجاحه هو ومن كان على شاكلته في تحقيق ما يصبون إليه من أهداف. وليس أمرّ من الإحساس بأنّ أمل التّغيير والإصلاح بات ضئيلا. إنّه أمر يدفع إلى الاستسلام دفعا ويصيب العزيمة بالوهن . لهذا نرى الكثير من هؤلاء يرفعون الرّاية البيضاء وينسحبون من السّاحة في صمت وألم ليشتغلوا إمّا بأمور دنياهم كما يشتغل النّاس أو يعتكفون في الزّوايا والمساجد راغبين في الخلاص الفردي مادام الخلاص الجماعي أصبح أمرا محالا.
لهؤلاء أقول : إذا يئستم من الحصول على ثمرة عملكم ؛ فلا تتركوا العمل، عسى أن تنفع ثمرته غيركم ، فلا يقتصر همّكم على تغيير أحوال من حولكم، ولكن اعملوا من أجلهم ومن أجل من يأتي من بعدهم،  فقد يأتي من أصلابهم من يوقّر أعمالكم ونضالكم ويحمل المشعل عنكم وينفّذ أفكاركم.  وتذكّروا كلما ضاقت بكم السّبل قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا».
اغرسوا بصدق وإخلاص واتقان ما أنتم غارسون والنتيجة ... دعوا أمرها لله.